|
Re: شوقي بزيع (Re: بله محمد الفاضل)
|
مرثــيَّــة الغبار
غبارٌ على أفقِ الروحِ يعلو ووجهتهُ : لا مكانْ يشيرُ بأشلائهِ أن تقوَّس سكَّانهُ تحتَ قنطرةِ الوقتِ وانهدم العقربانْ والذي خلَّفتهُ الحروبُ قضى تحتَ أنقاضِها تاركاً للذين يجيئون من بعدهِ وردةً من دخانْ
غبارٌ بعيدٌ ، كأنْ لم تلوِّحْ يدٌ بوداعٍ ، كأنْ جفَّ ضرعُ الحياةِ الأخيرُ ولم يبقَ منهُ سوى ما ينقِّطهُ حصرمُ الموتِ تحتَ اللسانْ
وداعاً إذن ، للصخورِ التي غسلَ القلبُ أقدامها دونَ جدوى ، لدرَّاقةٍ أغلقتْ جفنَـها عندَ مصطبةِ البيتِ ، للأصدقاءِ الذينَ غدوا زبداً طافياً فوقَ ماءِ الزمانْ
وداعاً ... لأوديةٍ لم أنمْ تحتَ أجراسِها منذ عشرينَ عاماً ، لشيخوخةٍ لن أضغضغَ تفَّاحها في السريرِ الأخيرِ ، لهذا العبورِ المريرِ من الطينِ حتى اللغهْ
هيئوا لي ثلوجاً على قممِ الأربعينْ وشوكاً لكي ينحني جسدي فوقَ صبَّارهِ المرِّ ، واستمعوا للخريفِ الذي تتعاظمُ صفرتُـهُ في أقاصي ذبولي ولا تعدوني بشيءٍ سوى ما تزيِّنُ لي وحشتي من كوابيسها وارفعوني قليلاً لأشهدَ قصديرَ روحي الذي يلمعُ الآن فوق سطوحِ المدنْ وارفعوني قليلاً لأسندَ خابيةَ العمرِ فوقَ الحصاةِ الأخيرهْ فمن ألفِ عامٍ أسيرُ ولا أجدُ امرأةً تشتري كبريائي الممرَّغَ بالشوقِ ، أو تتبنَّى سقوطي على ركبتَـيْها كسربٍ من الأوديهْ
كيفَ لي أن أرمِّمَ فخَّارَ صدري وأكسو دمي بالهشيمِ الذي لم يوحِّد مرايايَ في جنَّةٍ ماضيهْ ؟ كيفَ لي أن أقودَ مظاهرةً من خطايَ القديمةِ نحوَ الصبيِّ الذي شاخَ في داخلي ، أن أناديهِ من عتمةِ الأقبيهْ :
هل أنا أنتَ ؟ أم نحنُ وجهانِ لا يجريانِ إلى غايةٍ أو هدفْ ومن نحنُ ؟ من يصرخُ الآن فينا : الظلالُ أمِ الأصلُ ؟ أم أننا نقطةُ المنتصفْ بينَ ما لا يجيءُ وما لا يعودْ ؟ وهل نحنُ فاصلةٌ بينَ حربينِ أم وحشةٌ تتدحرجُ نحوَ سديمِ النهاياتِ ؟ يا ولداً كنتُـهُ قبل ثلاثينَ عاماً أغثني ردَّ لي شفقَ السنديانِ الذي كنتَ تركضُ بينَ ذراعيهِ ، أرملةَ البيلسانِ المشرَّدِ والسنبلاتِ اليتامى على مفرقِ السنةِ العاشرهْ أتسمعني أيها الطفلُ ؟ هل تذكرُ القرويَّ الذي كانَ يركضُ خلفَ عصافيرهِ في المدى الدبقِ المتلاطمِ ؟ هل تتذكَّرُ عينيهِ حينَ رأى ساقَ مريمَ واشتعلتْ روحهُ بخريرِ الأنوثةِ ؟ ضاعَ الصهيلُ الذي كانَ يصعدُ من فرسِ الروحِ ، ذوَّبتِ الشمسُ شمع الخطى الغابرهْ كأنَّ فتىً آخراً كانَ يُـسْلِمُ ساقيهِ للريحِ ، يضحكُ منتشياً للصباحِ ويتركُ ضحكتهُ في حقول الذرهْ فتىً لم تعُدْ لكَ منهُ سوى ظلمةِ الذاكرهْ لن تلاقيهِ ثانيةً ، لن تكحِّلَ شمسُ الطفولةِ عينيكَ بعدُ ، ولن تستطيعَ امتطاءَ حصانِ الصِّبا مثلهُ ، أيها الطفلُ ، يا ولداً كنتهُ قبل ثلاثينَ عاماً أما كانَ في الأرضِ متَّسعٌ لي ولكْ ؟ ألستُ أنا من تعفَّرَ بالوحلِ بينَ ذراعيكَ ؟ والزَّعفرانُ الذي يتنزَّهُ بينَ شهيقِ دمي وزفيرِ القرى أنتَ أورثتنيهِ وأورَثتني شُقرَةَ الشعرِ جوهرةَ الشعر قضمَ الأظافرِ عادةَ أن أشتهي كلَّ ما ليسَ لي من خصورِ النساءِ ولألاءِ أثدائهنَّ الذي أثكلكْ فلماذا إذن لا يبلِّلُ عينيَّ نفسُ الحنينِ الذي بلَّلكْ ؟ ولماذا إذن أصبحَ العمرُ مئذنةً من دخانْ ؟ ولماذا إذن نلتقي مثلما يلتقي أعميانْ ؟
أنا اثنانِ ، يصرخُ كلٌّ بصاحبهِ : أنجُ سعدٌ فإنَّ سعيداً هلكْ أنا اثنانِ ، لا يسمعانِ سوى الريحِ تهدرُ بينَ حطاميْهما واقفانِ على ضفَّتي هذه الحربِ ، كلٌّ يشيرُ إلى رأسِ صاحبهِ في ذهولٍ ويسأل : من قتلكْ ؟
.. .. .. .. .. .. .. ..
غبارٌ على أفقِ الروحِ يعلو ويبتعدُ الطفلُ فيَّ إلى ظلمةٍ لا تؤوبُ مضاءً بأحزانهِ ، أنهَرُ الأرضَ مثلَ قطيعٍ من الذكرياتِ أمامي وأتبعُ أقدامهُ صارخاً في هشيرِ الصباحاتِ لكنهُ لا يجيبُ أحدِّقُ مثل المجانينِ داخلَ مرآتهِ فأراهُ على وشكِ الموتِ يرمقني من بعيدٍ ويسألُ : من أنتَ ؟ - لكننا سيِّدي واحدٌ مزَّقتهُ الحروبُ لا تمتْ قبل أن يزهرَ اللوزُ في الأرضِ ، لا تتذرَّعْ بهذا الخرابِ الذي تلمحُ الآن ، ما هي إلا شهورٌ وتنبلجُ الروحُ ثانيةً من وراء الجبالِ وقد شقَّ ظلمتها العندليبُ شهورٌ وتعلو الشقائقُ أضرحةَ الشهداءِ كلُّ شيءٍ أعِدَّ كما ينبغي في نهاياتِ هذا المساءِ وبعدَ قليلٍ سيجترحُ الضوءَ عشبٌ وليدُ سيأتي الأحبَّةُ ثانيةً للحياةِ ، تواكبهمْ ثُـلَّـةٌ من عصافيرِ أحلامهمْ ودمٌ طازجٌ ونهارٌ جديدُ شهورٌ وتنهضُ تلميذةٌ في الصباحِ لتصنعَ من زرقةِ البحرِ مريولها المدرسيَّ ويورقَ بينَ يديها الكتابُ - ولكنني لا أرى غيرَ شمسٍ تجرجرُ أمعاءها فوقَ رأسِ الخليقةِ والأرضُ تفَّاحةٌ تتناهشُها في الظلامِ الذئابُ ولماذا استتبَّ ولم تشرقِ الشمسُ هذا الخرابُ ؟ والذينَ قضوا تحتَ أنقاضِ أحلامهمْ من يُـعيدُ لهم أعيناً أطفأوها ليحيا الترابُ ؟ سرابٌ سرابُ لماذا الترابُ إذا لم نجدْ فوقهُ من نقولُ لهُ : عم صباحاً ولم يبقَ متَّسعٌ ليجيءَ الجوابُ ! لماذا الترابُ وكلُّ الذي ظلَّ في هذه الحربِ أضرحةٌ وقبابُ ؟ لماذا الترابُ إذا لم تفتِّحْ لنا الأرضُ أزهارَها كثغورِ النساءِ ولم ينغلقْ خلفَ عُريِ العروسينِ بابُ ؟
.. .. .. .. .. .. .. ..
غبارٌ على أفقِ الروحِ يعلو ولم تنجلِ الحربُ عن طائرٍ يرفعُ البحرَ عن صيحةِ التائهينْ كأنَّا كبرنا ولم ننتبهْ ! أو كأنَّا رياحٌ تسرِّبُنا كفُّ أعمارنا من شقوقِ الحنينْ تسيرُ طفولاتنا خلفَنا كمراكبَ من ورقٍ ثم تنأى كزغردةٍ تتلاشى فقاعاتُها في مياهِ السنينْ
توابيتُنا تتقدَّمُ مثل النوارسِ عند الأصيلِ وترحلُ عندَ الصباحِ مع الراحلينْ فماذا نُعِدُّ لأوطاننا بعد ماذا نعدُّ ؟ والذينَ مضوا أقفلوا شمعَ آذانهمْ دونَ صراخاتنا الموحشاتِ وأكفانهم لا تُـردُّ وماذا يخبِّئُ في وحشةِ العمرِ هذا الزمانُ الألدُّ عواصمُنا تتآكلُ في ريَعانِ انكساراتها وقرانا مآذنُ لا يعتليها سوى الخوفِ والنهرُ لا يبلغُ البحرَ إلا قتيلاً ولا يقبلُ الضدَّ ضدُّ فماذا نعدُّ لهذا الظلامِ المهيمنِ ماذا نُـعِدُّ ؟
.. .. .. .. .. .. .. ..
غبارٌ على أفقِ الروحِ يعلو وما من مكانٍ تحصِّنُ في ظلِّهِ غرسةَ اليأسِ ، لا ملجأٌ كي تُـفلِّي بقايا الجروحِ على ضوءِ شمعتهِ ، والذينَ اصطفوكَ لكي يكملوا الحربَ باسمِ أمانيكَ خانوكَ وانكفأوا نحوَ أقربِ منعطفٍ لاقتسامِ الغنائمِ ، أينَ تفرُّ إذن ؟ فوقَ أيِّ القبورِ سترفعُ أعلامكَ البيضَ ؟ فاصعدْ على كتفِ الذكرياتِ ولوِّحْ لمركبِ ماضيكَ كيما يعودَ إلى رئتيكَ الهواءُ النقيّْ وخذ بيدي أيهذا الصبيّْ لكي أقطرَ الريحَ خلفَ ثعالبِ أوردتي وأصيحَ : اركضي يا رياحُ يأقصى خطاكِ فلن تستطيعي مجاراةَ ساقيّْ حتى إذا غبتُ خلفَ تخومِ الطفولةِ واستلَّني خنجرُ الحربِ من ثديِ أمِّي فنادي عليّْ يجبكِ صدايَ الذي لم يزلْ يتموَّجُ في ماء " عينِ النبيّْ " * تجبكِ الغيومُ التي ظلَّلتْ سنديانةَ قلبي ولما كبرتُ تلقَّفتُ خنجرها بيديّْ
أيتها الريحُ نادي عليَّ يجئْ ألفُ طفلٍ لهمْ نفسُ طائرتي الورقيةِ ، نفسُ ارتباكي أمامَ النساءِ ، ونفسُ ارتمائي على شوكةِ الأرضِ منذ أهال الغزاةُ جبينَ الترابِ عليّْ أكانتْ إذن هذه الأرضُ طفلاً وكنتُ أنا قبرها أم أنا الطفلُ وهي ضريحيَ ؟ لا فرقَ ما دامَ كلُّ دمٍ ساقطٍ نحوَ وديانها يتناهى إليّْ إليَّ إذن يا مناقيرُ ، يا قبراتِ الزمانِ القديمِ ، ويا زيزفونَ البداياتِ أورقْ على ساعديّْ
سأصنعُ من طينِ روحي حبالاً وأمنحُ هذا الغروبَ الذي أشعلَ الأفقَ ناري وريحي فقد خيَّم الليلُ فوقَ سريرِ بلادي وحطَّ غرابُ النهاياتِ فوقَ الجروحِ ولم يبقَ إلا ذُبالةُ زيتٍ أضيءُ بها عَرَجَ السنواتِ التي بقيتْ لي وأجبرُ وحدي كسورَ الزمانِ الكسيحِ
هوَ ذاكْ الصبيُّ العجوزُ الذي يُـثمرُ الخوفُ في رأسهِ كلَّما أينعتْ زهرةُ الإرتباكْ لا ظنُّوهُ يبكي على أمسهِ أو يُصيِّرُ من نفسهِ زورَقاً للهلاكْ إنه يرتُقُ الكونَ بالشعرِ أو ينحني لتمرَّ القذائفُ مسرعةً فوقهُ ويراقبُ جيشَيْ هزائمهِ وأمانيهِ في لحظةِ الإشتباكْ
من يُـعيدُ الصبيَّ - الذي تتضاعفُ بين الشموعِ العظيمةِ أطرافهُ - لأبيهِ الوحيدْ ؟ من يلمُّ قصاصاتهِ عن حطامِ السنينِ - التي لم يعِشْها - ويودعها في البريدْ لكي يتوحَّد ثانيةً حول تمثالهِ ويصوغَ سبيكةَ أعضائهِ من جديدْ عائداً ويدقُّ بكلتا يديهِ على قبرِ ماضيهِ - من ؟ - لا أحدْ غير طيفينِ لا يبصرانِ وبابٍ بعيدْ
* : عين ماء في قرية الشاعر . بيروت 1988 - 1991
|
|
|
|
|
|
|
|
|