الأنثروبولوجيا والتنمية

Quote: ]- الدكتور مصطفى بابكر – أستاذ الأنثربولوجيا الاجتماعية - معهد أبحاث التنمية جامعة الخرطوم - أستاذ زائر جامعة أديس أبابا- حالياً أستاذ بجامعة السلطان قابوس بسلطنة عمان (لن ترتاح معي يا بروف!). تركزت أبحاثه في إدارة الموارد (الأرض والمياه) .

البروفيسور مصطفى بابكر

كم أنا سعيد لتلقي هذه الرسالة الثرية والضافية من البروفيسور مصطفى بابكر أستاذ الاجتماع بكلية الآداب بجامعة السلطان قابوس بمسقط - سلطنة عمان.. فله مني ومن قراء المنبر أجزل الشكر وعظيم التقدير.
محبتي
عبد المنعم خليفة
*****
فإلى نص الرسالة:

أستاذنا الجليل عبد المنعم خليفة

أرجو أن أسجل إعجابي بمقالك الرائع والذي يقدم تعريفا سلساً بنشأة علم الأنثروبولوجيا في السودان كما هو واضح من تعليقات الزميلات والزملاء الكرام..كما وعدتك في رسالة سابقة ها أنا أرسل لكم تعليقاً متواضعاً على مقالكم الرصين حول تاريخ أو قصة علم الأنثروبولوجيا في السودان:

أولا: الاسم الكامل والرسمي لقسم الأنثروبولوجيا التابع لكلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية هو قسم "علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية" وترجع هذه التسمية إلى التقليد الذي كان سائدا في الجامعات الغربية والذي بموجبه كان موضوع الدراسة لعلم الاجتماع هو المجتمعات الصناعية الحديثة في الغرب بينما كان موضوع الدراسة لعلم الأنثروبولوجيا هو ما عرف في الغرب بالمجتمعات "البدائية" في الدول المستعمرة (بفتح الميم) في أفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية وأستراليا...ولكن بسبب ووصول الحداثة لكل مناطق العالم نتيجة للعولمة وثورة الاتصال فقد انتفى هذا التقسيم حيث نجد اليوم أن موضوع الدراسة لعلم الأنثروبلوجيا إضافة إلى اهتماماته التقليدية يتضمن أكثر مناطق العالم حداثة مثل بيڤرلي هيلز في كاليفورنيا أو المؤسسات التجارية في ناطحات سحاب نيويورك وطوكيو..ونفس الشيء ينطبق على علم الاجتماع...

ثانيا: لقد بدأت الدراسات الأنثروبولوجية في السودان مع بداية الحكم البريطاني أي قبل فترة طويلة من إنشاء قسم لها بجامعة الخرطوم في عام 1958. بالإضافة إلى روادها من الأكاديميين الذين تفضلت بذكرهم في مقالك الضافي فقد كان العرف السائد وسط الإدارة البريطانية أن ينخرط كل إداري في فترة تدريبية بجامعة أكسفورد حول مناهج وطرائق البحث قبل الانتقال للعمل في الدول المستعمرة (بفتح الميم). وهذا التقليد سببه الإيمان الراسخ بأن أي قرار إداري لابد أن يتم بعد دراسة وافية للسياق الاجتماعي الذي ينفذ فيه.. إن ونتيجة لذلك فقد ترك ذلك الجيل من الإداريين ثروة علمية عن كل مناطق السكان من خلال دراستهم وهم على سدة العمل.. وكمثال لذلك فإن هندسة نظام الإدارة الأهلية قد بنيت على دراسات متأنية لكل المجتمعات السودانية بغرض وضع النظام المناسب لكل منطقة ولذلك نجد أن النظام الأهلي في دار حمر مثلا يختلف في بعض ملامحه عن النظام الأهلي عند الكبابيش أو في منطقة البطانة على سبيل المثال..هذه الثروة العلمية محفوظة في مجلة مدونات ووثائق السودان Sudan Notes & Records ولا زالت تمثل مرجعية هامة لكل باحث مهتم بالشأن السوداني..هذا النهج استمر بعد الاستقلال بواسطة الرعيل الأول من الإداريين السودانيين ومجلة دراسات الحكم المحلي تقف دليلا واضحا على ذلك...ولكن بعد القرارات الرعناء التي عجلت برحيل النظام الإداري الأهلي وتم استبداله بنظام لا يراعي خصوصية المكان والزمان ويقوم عليه شباب لا يمتلكون الخبرة ولا المنهجية العلمية للتعامل مع سياق اجتماعي معقد كما هو الحال في السودان..والنتيجة اليوم هي وجود نظام إداري يشكل عبئا كبيرا على المواطنين من خلال تعدد الضرائب والتعسف في جمعها دون حساسية لأحوال الناس وأوضاعها... والنتيجة هي ما نشهده اليوم من فوضى وانفلات أمني يعم معظم مناطق السودان...

ثالثا: نهلت الأنثروبولوجيا السودانية من عدة مدارس شكلت الاهتمام البحثي للرعيل الأول من الأنثروبولوجيين السودانيين:
1. المدرسة البريطانية ويمثلها من الجانب البريطاني إيان كنيسون، طلال أسد، ويندي جيمس، وڤالدو بونز، أحمد الشاهي، ريفيش، لاديسلاڤ هولي ...الخ ومن الجانب السوداني فهيمة زاهر سرور الساداتي (المستوطنات العشوائية حول المنطقة الصناعية في الخرطوم بحري) وتاج الأنبياء علي الضوي (الصفوة التجارية في مدينة الأبيض) اللذين اهتما بالأنثروبولوجيا الحضرية وسار على نهجهم لاحقا كل من بلقيس يوسف بدري (العلاقات الزواجية في أم درمان)، عبد الله بناوي (؟؟؟)، الواثق كمير (عمال البناء النوير في الخرطوم)، زينب بشير البكري، محمد يوسف أحمد المصطفى (التحضر في الحصاحيصا)، صلاح الشاذلي (التحضر في الخرطوم)..أما الاهتمام بالجانب البدوي والريفي فيمثله كل من حسن محمد صالح (الهدندوة في دلتا طوك)، الحاج بلال عمر(التجار الدناقلة في شمال السودان)، موسى آدم عبد الجليل (؟؟؟)، محمد عبد الرحيم محمد صالح (الصراع على الموارد في جنوب كردفان)، عبدالله عثمان التوم (النظام العقائدي لقبيلة البرتي بدارفور)، مصطفى بابكر (التاريخ السياسي والاقتصادي لقبيلة الحمر في غرب كردفان)، عثمان أحمد عثمان (؟؟؟)
2. المدرسة الأمريكية ويمثلها كل من ساندرا هيل، جيم فارس، جى أوبراين...ومن الجانب السوداني إدريس سالم الحسن (أنثروبولوجيا الدين: دراسة حالة أم ضوا بان) ، عبد الباسط سعيد (الزراعة الآلية في جنوب كردفان)، خالد حجر (النظام السياسي لقبيلة الشلك)، حامد البشير إبراهيم (الزراعة الآلية في جنوب كردفان)...
3. المدرسة النرويجية ويمثلها كل من فريدريك بارث، قونار هولاند، قونار سوربو، لايف مانقر، ومن الجانب السوداني عبد الغفار محمد أحمد (النظام السياسي لقبيلة رفاعة الهوي)، شريف عبد الله حرير (التكيف في قبيلة الزغاوة)، منزول عبد الله منزول عسل (المهاجرون السودانيون والصوماليون في النرويج).
4. المدرسة الألمانية ويمثلها كورت بك ونتيجة لجهده المتواصل هناك اهتمام متنامي بالسودان من قبل الجامعات الألمانية حيث يقوم الآن العديد من أفراد الجيل الحالي بدراساتهم العليا هناك.

رابعا: في العقدين الماضيين بدأت جذوة الأنثروبولوجيا في السودان تخفت ما عدا بعض الدراسات التي قام بها باحثون من أوروبا وأمريكا بسبب الهجرة نتيجة للضائقة الاقتصادية أو لأسباب سياسية...لقد غابت الدراسات الأنثربولوجية المتعمقة بسبب شح الموارد الأمر الذي لم يترك خيارا الطلاب سوى اللجوء للمنهج السوسيولوجي في جمع البيانات الذي يعتمد على المسوحات قصيرة الأجل بدلا عن البحوث الميدانية المكثفة والتي تقوم على العيش وسط المجموعات السكانية موضوع البحث لعام كامل أو أكثر. أما السبب الرئيس في خفوت جذوة الأنثروبولوجيا هو غياب الحريات الأساسية ومن ضمنها الحريات الأكاديمية التي تتيح للباحث اختيار موضوع ومكان البحث...الجيل الحالي هو المكتوي بنيران التدخلات الأمنية التي تتراوح بين مصادرة المذكرات الحقلية، والصور الفوتوغرافية وأشرطة التسجيل، وفي بعض الأحيان المنع التام من إجراء دراسة في مكان معين أو موضوع معين لأسباب أمنية..

د. مصطفى بابكر