سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-30-2024, 06:31 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة انتهاكات شرطة النظام العام السودانية
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-21-2004, 11:30 PM

tariq
<atariq
تاريخ التسجيل: 05-18-2002
مجموع المشاركات: 1520

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم (Re: tariq)


    سقوط المشروع الحضاري في السودان ـ الحلقة الثالثة
    هل كانت البداية خاطئة؟، أربعة عناصر تشكل المشروع الحضاري كما تصوره منظرو الإنقاذ
    تأليف :د. حيدر ابراهيم
    يحلل الكاتبان أمين والتيجاني وضع السودان قبل الإنقاذ بأنه وقع ضحية تبعية مؤسسية للغرب في مجال المؤسسات الدستورية والحزبية ومؤسسات الثقافة والتعليم الحديث والإعلام بالإضافة إلى التبعية الطائفية حيث تحالفت النخب العلمانية المتغربنة مع الطائفتين الكبيرتين بهدف التواصل مع الجماهير التقليدية. وهذان هما مصدر الأزمات التي أدت إلى أن يكون السودان دولة أسيرة ومن هنا ينطلق المشروع الحضاري، يقول الكاتبان:
    ـ «إن مشروع النهضة الإسلامية المعاصرة في السودان يهمنا هنا من حيث هو مشروع للتحرير من الهيمنة الإمبريالية الغربية، ومن حيث أنه مشروع لإعادة البناء الاجتماعي وفق رؤية تجديدية للدين تجمع بين الأصل السابق للظاهرة الاستعمارية والعصر التالي لها. كما يهمنا من حيث أنه يوفر طاقة معنوية هائلة تمكن الشعب من تجاوز واقع التخلف بأقل قدر مما يتوفر من الإمكانات المادية والوسائل التقنية» .
    (ص 25).
    هذه هي الغايات أما الوسائل فقد عاد الكاتبان إلى تراث الحركة الإسلامية الحديثة منذ عهد جمال الدين الأفغاني حسب قاعدة: أن مشروع النهضة بالأمة لا يتحقق إلا بمشروع الرجعة للكتاب، لأن الأمة قرآنية. وترى الحركة الإسلامية في السودان ـ حسب الكاتبين ـ أن الاستعمار خرج ولكن خلف دولة أسيرة مرتبطة بالمصالح الاستعمارية من خلال ممثليه في قيادة مكونة من الصفوة الحديثة والزعامات الطائفية التقليدية. أما عامة الناس فقد تحول التدين لديهم إلى شعائر وطقوس خاوية من معاني القرآن والدين الحق.
    ويوصلنا الكاتبان إلى دور «الإسلامويين» بقولهم: ـ «لذلك فقد استبان للثلة الصالحة والطائفة القائمة بالحق من أبناء المسلمين في السودان، أن هذا الأمر لا يصلح أخره إلا بما صلح به أوله، وما صلح به أوله إلا بإصلاح النفوس. فلا سبيل لتحرير البلاد قبل تحرير النفوس ولا لاعمار البلاد قبل أعمار النفوس. والنفوس إذا تحررت وعمرت بالإيمان والشعور بالعزة والاستعلاء تفجرت طاقاتها الهائلة في الاجتهاد والجهاد».
    (ص 26) .
    لذلك اعتبر أن أهم مقاصد المشروع الحضاري هو صياغة الإنسان الحر، وهذا ما يفرض على المشروع ألا يكون «طقوسياً» بل هو مشروع حضاري لتحرير الأنفس والآفاق وأعمارها.
    (ص 26).
    إذن، كيف يمكن «بناء نظام إسلامي معاصر يرتكز على قيم الدين ولكنه يتجاوز، من جهة العصبيات العشائرية والطوائف التقليدية كما يتجاوز من جهة أخرى، الأشكال الغربية الجاهزة التي تقطع الناس عن كل ثقافة دينية، وينفذ بصورة مباشرة إلى العمق الجماهيري، وإلى الطاقة الروحية الكامنة فيه» وعندما استولى «الإسلامويون» على السلطة في 30 يونيو 1989 اتبعوا منهجية ـ حسب الكاتبين ـ قامت على هذه العناصر: أ ـ الثورة ، ب ـ النظرة الاستراتيجية ج ـ الاعتماد على الذات د ـ الجهاد الشعبي المستمر.
    الحلقة الشريرة
    يرى منظرا المشروع الإسلامي البديل أن مبدأ الثورة هو أهم ما يميز المشروع، ويقصد بها: ـ أ ـ فك علاقة التبعية للإمبريالية الغربية سواء أكانت أشكالاً مؤسسية ام أنماطاً سلوكية ب ـ تفكيك العلاقات الطائفية سواء أكانت علاقات استراتيجية كالتي بينها وبين أتباعها في الريف، ام علاقات تكتيكية كالتي بينها وبين العلمانيين في المدن.
    ج ـ النفاذ إلى العمق الجماهيري المسلم وإخراجه من هوامش الحياة وإعداده ليخوض معاركه المصيرية بنفسه والثورة ـ حسب المفهوم المعروض ـ لا يمكن أن تتصالح مع الغرب والطائفية، وهي ليست عملاً عسكرياً أهوج، ولكنها عمل دؤوب نحو «إحياء الأمة بالتذكير والتفكير والموعظة الحسنة، والقدرة وترفّع الهمة».
    أما العنصر الثاني، فهو أن يسير المشروع «على هدى رؤية استراتيجية معلومة». وخلافاً لكثير من الثورات التي انشغلت بعد المرحلة الأولى للوصول إلى السلطة، بهموم وقتية ومعارك جانبية دون أن تضع خطة عظمى. ولكن الإنقاذ بعد عامين فقط، قررت ـ حسب الكاتبين ـ العمل: «على تجاوز مرحلة الإنقاذ إلى آفاق النهضة الحضارية الشاملة، وذلك بحشد الطاقات إلى أهداف كبرى». وعملت وفق هذه الرؤية على وضع «استراتيجية عشرية شاملة خططت فيها كل قطاعات المجتمع في السياسة والاقتصاد والزراعة والعلاقات الخارجية والسلام».
    يرتبط العامل الثالث بما سبق مباشرة، وهو مبدأ الاعتماد على الذات باعتبار «أن تحرير الولاء لله والاستقلال بالقرار وتأسيس الحياة الاجتماعية» لا يتم دون ذلك المبدأ ولكن يستدرك الكاتبان بأن الاعتماد على الذات لا يقصد به الانغلاق على النفس ورفض الآخرين أو معاداتهم. ان أي عون يأتي من الخارج لا يفيد شيئاً إذا كان الداخل خرباً.
    المفهوم الرابع في نظرهما هو الجهاد الشعبي، لأن «الطريقة أو الحيلة الأساسية التي استطاع بها المستعمر أن يطيل بقاءه في بلاد المسلمين هي أن طمس معنى الجهاد الشعبي المقدس وأبرز مفهوم العسكرية المهنية حيث ينقسم المواطنون إلى فئتين: فئة تحمل السلاح وفئة تحررت منه.
    أما حاملو السلاح فهم صنائع الغرب وموالوه الذين يفرضون الخيار الحضاري الغربي على رؤوس المسلمين ويسدون كل النوافذ أمام الانبثاق الإسلامي» وهذا النص يكتسب أهمية قصوى في فهم سياسة نظام الجبهة في عسكرة المجتمع وتنمية العنف.
    كما أنه يهمش دور القوات المسلحة أو على الأقل يوظفه أيديولوجياً وسياسياً لنظام حاكم وهي حلقة شريرة تفتح الباب أمام الانقلابات وكل منتصر يفرض رؤيته على بقية الأمة. اهتدى دعاة المشروع الإسلامي ـ حسب المقال السابق ـ إلى ضرورة إعمال فريضة الجهاد ليس تمنياً لملاقاة العدو، وإنما إكمالاً لعملية التحرر النفسي والعقلي، ولعملية فك حلقات التبعية والخروج من حالة الحصار والأسر التي يفرضها الأجنبي ويقضي على الولاءات القبلية والطائفية.
    هذه طروحات عالمثالثية وطنية وليست إسلامية وقد نجدها عند فرانز فانون صاحب كتاب «المعذبون في الأرض» وعند رواد حركات التحرر الوطني من نكروما ونهرو ونيريري وكاسترو وكابرال وغيرهم. وعند مفكرين أمثال سمير أمين ومنظري التبعية في أميركا اللاتينية، وفي منظري لاهوت التحرير المسيحيين، ولدى التقدميين الإسلاميين مثل علي شريعتي ومحمد خاتمى.
    ولكن السؤال هو هل تستطيع الحركة «الإسلاموية» برؤيتها الدينية وأصول عضويتها الاجتماعية والطبقية وطريقة تنظيمها أي العلاقات الحزبية والبناء التنظيمي والشخصية الكاريزمية أن تنجز مهام الثورة الوطنية؟ فالحركات «الإسلاموية» تقدم برنامجاً غير واقعي كما أنها تعجز عن تأسيس دولة وطنية قوية باعتبارها الوسيلة لتحقيق شروط النهضة. فالدولة الدينية لا تقوم على حق المواطنة ولا تضم كل المواطنين بل تقصي الكثيرين.
    وقد طرح الإسلامويون هذا السؤال على أنفسهم: كيف تستطيع طليعة إسلامية ما أن تدير دولة حديثة أي أن تسير جهازاً بيروقراطياً عريقاً يرابط مفاهيمياً ومصلحياً بالقوى الأجنبية المعادية، وتسخره لتوطيد أركان الإسلام وتربطه بأصوله في الاعتقاد والاجتماع؟ (التيجاني عبد القادر حامد: السودان وتجربة الانتقال للحكم الإسلامي. مجلة قراءات سياسية السنة الثالثة. العدد الثالث، صيف 1992، ص 46) ويتفرع ـ في رأيه ـ عن هذا السؤال تساؤلات فرعية كثيرة مثل: ـ
    1 ـ ما هي الصورة التي يجب أن يتحول إليها العمل الدبلوماسي الحالي، هياكلاً ومقاصد وثقافة؟
    2 ـ ما هي الصورة والفلسفة الإسلامية التي تنظم فيها القوة العسكرية، تدريباً وعناصر وأهدافاً مرجوة؟
    3 ـ ما هي صور التنظيمات التي تتخذها القوة العاملة في دولة إسلامية حديثة وكيف تكون العلاقات بينها وبين رأس المال الخاص ورأسمال الدولة.
    4 ـ ما هو شكل النظام السياسي الإسلامي الحديث وما هو هرم السلطة فيه وما هي علاقته بالفاعليات الاجتماعية الرئيسية؟
    5 ـ ما هي خطط نمط التعليم في نظام إسلامي حديث وما هي علاقته بالأصول الإسلامية وبالحضارة الغربية، وبالطبقات الدنيا في المجتمع وبالخدمة العامة؟
    6 ـ كيف تدار حركة الاقتصاد في نظام إسلامي معاصر؟ (المصدر السابق، قراءات، ص 46 ـ 47) .
    يعترف الكاتب بعدم وجود إجابات مثالية جاهزة على الرغم من أحاديثهم عن أن الإسلام هو الحل وأن الشريعة تحتوي على كل الإجابات. والسبب في غياب الإجابات وهو أنه أثناء حكمهم أي من خلال التجربة والخطأ وبالفعل جعلوا من السودان معملاً كبيراً للتجارب. وبعد أكثر من عشر سنوات على استيلاء الحركة الإسلاموية على السلطة يعود الكاتب نفسه ليقيم التجربة بنفسه ويطالب ـ بعد كل هذه السنوات والأخطاء بانتهاج استراتيجية جديدة، ويسأل نفسه:
    «أو لم تكن لدينا استراتيجية من قبل؟ وهل كنا طيلة العهود الماضية نسير خبط عشواء؟ ونقول ليس الأمر كذلك، فقد كانت لدينا استراتيجية ثابتة وناجحة، ولولا وجودها لما تحقق نصف ما نراه ماثلاً في العمل الإسلامي في الدولة، وكان علينا يوم ذاك أن نجلس على الأرض وأن نعيد قراءة الواقع الجديد.
    وأن نرتب على ذلك استراتيجية جديدة ولكن أغمضنا أعيننا وسرنا في مرحلة الدولة باستراتيجية ما قبل الدولة وبعدد محدود من الشعارات الجميلة التي لا تستند إلى عمق فكري ولا تتحول إلى فعل محسوس وتحولت الشعارات وبقايا الاستراتيجية القديمة إلى نوع من الأيديولوجيا المغلقة» (الصحافي الدولي 4/3/2000). ويضيف أن الأفكار التي فسرت الواقع ذات مرة، لم تدرك كم تحرك الواقع بعيداً عنها. وكان الكاتب قد بشر عام 1992 بأن التجربة سوف تنجح لأنها احتمت بالعمق الشعبي وعدد المسافات التي سارت عليها: الدفاع الشعبي.
    الدبلوماسية الشعبية والغذاء الشعبي والتعليم الشعبي المستمر ونظام المؤتمرات الشعبية (قراءات ص 49 ـ 52) فهي أي الثورة لا تخشى الشعب بل تثق فيه ثقة عظيمة ولكنها ظلت تخاف الشعب فعلاً والدليل قوانين الطوارئ المستدامة والقبضة الأمنية المستمرة مع ممارسة التعذيب والقهر وكل أساليب الفترة الأولى ولكن بطريقة ناعمة تخاف الإدانات العالمية بينما لا تستحي من شعبها. فأزمة الإنقاذ أنها لم تكسب الشعب ولم توسع قاعدتها الشعبية. جاء مع ذلك الانشقاق الداخلي ـ الذي حذر منه.
    كان «الإسلامويون» في حالة تفاؤل ظاهري يقصد تعميمه إعلامياً وخلق أجواء قبول أو انتظار أو أمل بين المواطنين. يكتب محمد محجوب هارون: «أن ثورة الإنقاذ تطرح مشروعاً حضارياً، مضامينه إسلامية، ووسائله إعادة تفعيل الدين وتشغيل دينامياته وتحريك سكونه، وغايته بناء مجتمع إسلامي في أمثل صورة ممكنة» (قراءات سياسية، العدد الثالث صيف 1992، ص 7
    ويؤكد بعد مضي ثلاث سنوات أن الإنقاذ قد انطلقت فعلاً في إنجاز المشروع الحضاري ابتداءً من الإنسان الذي تمت صياغته في هذه الفترة القياسية، يقول «. . ولكن الثورة بما استنهضته من همم الرجال والنساء، وبما أحدثته من تعبئة للمجتمع قدمت نماذج تقدمت اختياراً للشهادة ووهبت الروح مهراً لمشروع التغيير في ملحمة عادت بالسودان تاريخياً إلى عهد المهدويين الذين خرجوا في عشرات الألوف في مواجهة رصاص الأجنبي فداءً لدولة الإسلام (. . . ) .
    ويبقى مطلوباً أن تنتقل روح الفداء والاستشهاد إلى أروقة المجتمع والدولة وأن تضحى تعبيراً دائماً في واقع الحياة اليومية». ( المصدر السابق) . وظل الجهاد الأكبر أي جهاد النفس بعيداً عن سلوك نظام الإنقاذ، فقد استثمر الكثيرون دماء رفاقهم كغطاء في تكريس الفساد والابتزاز باسم من تقدموا في المعارك، على الرغم من أنهم كانوا أقلية في العدد مقارنة بالطبقة الجديدة التي أصبحت تستمتع بثمار السلطة من امتيازات مالية وسيارات فخمة مظللة ومنازل وهواتف محمولة ورحلات للخارج وأرصدة في البنوك وأعمال في السوق.
    كشف الانجازات
    يقدم هارون كشفاً بإنجازات الإنقاذ خلال ثلاث سنوات وكأنه يقول هذا ما فعلته الإنقاذ في ثلاث سنوات فكيف سيكون المستقبل إذا امتدت بها السنوات؟ ففي الاقتصاد، شملت جهود السنوات الأولى «عدة محاور شملت ملاحقة الفساد الذي خلفته حكومة الصادق المهدي، وضبط وعدالة توزيع السلع التموينية وتوفيرها وتشجيع الاستثمار».
    ويرى أنها نجحت بالفعل في «إعادة تكييف السلوك الاستهلاكي للمجتمع من خلال تجارب توزيع المشتقات البترولية والمواد الغذائية مثل السكر والخبز». والنجاح الثاني تمثل في قيام الدولة وأجهزتها باكتشاف الفرص المتاحة والإمكانيات المهدرة في الحياة الاقتصادية. وعلى الصعيد الأمني. يرى الكاتب، أن الدفاع الشعبي أهم فكرة وأكثرها عبقرية في المسألة الأمنية. ويبدو أن الإنجاز الحقيقي للمشروع الحضاري والذي ابتهج «الإسلامويون» به كثيراً هو ما أورده ـ هارون ـ في تعداد الإنجازات:
    ـ «وليس ثمة شك الآن أن الثورة استطاعت ترميم الأجهزة العسكرية في البلاد (الجيش والشرطة) وتأسيس جهاز استخباري، بحيث أضحت هذه الأجهزة مجتمعة ذات كفاءة مقدرة انعكست في ضبط الأمن الداخلي وتصاعد حرب الجريمة من جهة، وتأمين الثورة سياسياً من جهة أخرى، ودفع عجلة السلام، بمجهود حربي» (نفس المصدر السابق) .
    ولم يكن مصادفة أن تقارير انتهاكات حقوق الإنسان قد تزايدت في هذه الفترة بالذات. فقد تجاوزت الأجهزة الأمنية التي يمجدها الكاتب كل الحدود الأخلاقية والدينية والمهنية. وقد نشرت منظمة العفو الدولية في إبريل 1992 شهادات من سجناء اعتقلوا في الخرطوم خلال شهر يوليو 1991 وضعوا فيها تحت التعذيب وتعرضوا لسوء المعاملة في كل أجهزة الأمن وبيوت الأشباح.
    على مستوى السلطة السياسية الحاكمة يعني المشروع الحضاري: التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية. وكما قالت القيادة في عيد الاستقلال الثاني بعد الانقلاب: «الثورة عقدت العزم على ألا ولاء ألا الله ورسوله. وأن تطبيق الشريعة الإسلامية يكون قدوة لمن أراد السير في الطريق القديم». ويقدم فهم النظام للاستقلال الحقيقي بقوله:
    «ثورة الإنقاذ جاءت لتحقيق الانعتاق من قيود الذل والهوان والتبعية للمستعمر وثقافته وقوانينه». وأكد أن استقلال السودان اكتمل بإعلان تحكيم الشريعة الإسلامية، مبيناً أن السودان لن يسأل أو يعتمد أو يلجأ أو يخضع لغير الله». (السودان الحديث 5/1/1991). ولكن الإنقاذ حاولت تجاوز الواقع بدون أدوات التغيير الحقيقية وليست المتخيلة ، فقد كانت شعارات كبيرة منها:
    تحرير ولاء المجتمع من المؤسسة التقليدية بأنماطها الطائفية والعرقية والقبلية والحزبية، إلى عهد الولاء لله بتمكين المشروع وترى التحدي العاجل هو تشكيل الشخصية الحضارية الإسلامية بدلاً عن الشخصية القومية السودانية. كان نظام الجبهة الإسلامية في 1992 يدعي أنه قد أكمل تقديم النموذج الإسلامي للحكم والذي يجذب الشعوب الأخرى وهذا ما يهدد الغرب في نظرهم، يقول الشيخ الترابي:
    «ليس لنا فضل مال لندعم به حتى الإسلام الشعائري فضلاً عن الإسلام السياسي. وليس لنا قوة جيش حتى نصدر بها الإسلام السياسي بالفتح، وكل الذي يمكن أن يتهم به السودان أنه نصب مثالاً ونموذجاً لدولة إسلامية في بلد كان منسوباً للتخلف والضعف. وربما يوحي ذلك لمن هم أقوى من السودان بأن يسيروا على طريق السودان لأنهم أولى بقوتهم السياسية والاقتصادية أن يقلدوا نموذج السودان.
    وهذا موضوعياً صحيح لأن قيام دولة إسلامية يشجع الإسلاميين من كل الدول الأخرى بقوة النموذج فقط وإشعاعه أن يقيموا دولة سياسية لأن كثيراً من المسلمين مهما كانت أشواقهم لقيام دولة إسلامية يظنون أن قيام دولة إسلامية في السياق الدولي الذي لا يقبل ألا نمطاً حضارياً معيناً، أمر عسير وتترتب عليه نتائج وخيمة ولكن هاهو السودان نصب دولة إسلامية. ويبدو أنه تمكن من ذلك بغير أزمة تطيح به. .
    وهذا هو ما يمكن أن يتهم به السودان، وإذا كان الأمر كذلك فالتهمة صحيحة». (القدس العربي: العدد 890 يوم 21 ـ 22 مارس 1992) . يعتبر هذا النص أهم مرتكزات فكر وممارسة «الإسلامويين» والذي حدد سياسات النظام في الداخل والخارج. فالنص تلخيص للرؤية التي وصل إليها نظام الإنقاذ بعد ثلاث سنوات من الانقلاب ولم يتعرض «لأزمة تطيح به». يقصد بذلك مقاومة من الداخل تقوم بها المعارضة.
    ولكن ضعف الآخر ليس دليلاً على قوة النموذج. كما أن النظام كان يتوقع خلال تلك الفترة أنه قادر على إنهاء الحرب الأهلية في الجنوب بأي وسيلة ثم يمكن له الاستقرار بالشمال. كما أن انتهاء حرب الخليج الثانية دون سقوط صدام أعطاهم الشعور بأن الشمولية والقمع خير وسيلة لاستمرار في السلطة حتى لو واجه مثل هذا النظام عاصفة الصحراء.
    يضاف إلى ذلك الأزمة الجزائرية والصدام مع جبهة الإنقاذ التي كادت أن تكسب الانتخابات، أعطاهم دفعة معنوية بأن التيار الإسلامي صاعد في كل المنطقة العربية. شهدت الفترة الأولى للإنقاذ تقارباً وثيقاً مع إيران باعتبارها النموذج الأمثل واقعياً، لذلك حاولت الإنقاذ الاستفادة من خبرات طهران.
    توالت زيارات المسئولين الإيرانيين وأصبح الوجود الإيراني كثيفاً وتبنت إيران بعض المشروعات. طريق السلام (الرنك ـ ملكال ـ جوبا) وعلى الرغم من الحديث عن استقلالية القرار السوداني، لم تكن السلطة تجد حرجاً في التدخل الإيراني الذي عادة ما يدرج ضمن الأخوة الإسلامية. ولم يكن السفير الإيراني في الأيام الأولى ـ مجيد كمال ـ يتحرج في تقديم النصائح والتصرف وكأنه مسئول سوداني.
    وهذا مثال لأحاديث السفير يؤكد فيه أن السودان وإيران سوف يتبادلان التجارب فيما يتعلق بتطبيق الشريعة الإسلامية مبيناً أن وفوداً من المختصين في البلدين ستلتقي خلال الأيام المقبلة. وأكد أن إعلان الشريعة يشكل بداية حياة جديدة للشعب السوداني المسلم، مبيناً أن طريق الشريعة محفوف بالصعاب خاصة من قبل أعداء الله والماديين الذين يعرفون بأن الإسلام يمثل صحوة للشعوب ضد الاستعمار. وأبان أن الغرب سيمارس الضغوط على السودان كما حدث في إيران. ويختتم حديثه:
    «أن الشريعة على الصعيد الداخلي تتطلب التنفيذ الصحيح للأحكام الإسلامية بعد صدور القرار السياسي» مؤكداً أهمية العلماء وأهل الدين والتقوى في تنفيذ الأحكام. وعدد مواصفات القائمين على تنفيذ الشرع والجهود التي بذلها الإمام الخميني في تأهيل الكوادر العلمية والفقهية لتنفيذ القرارات الإسلامية الكبيرة التي أصدرتها الثورة الإيرانية (الإنقاذ الوطني 7/1/1991).
    النقد الذي تأخر
    يعتبر هذا الإعجاب بالنموذج الإيراني ملمحاً مهماً لتجربة السودان الذي لم يفطن للنقد الذي بدأ الإسلاميون في الخارج يوجهونه لإيران حين رأوا الممارسات بعد سنوات. هناك من قال: «أن الثورة الإسلامية هناك أثبتت قدرة فذة في إزهاق الباطل، لكنها لم تكن بنفس القدرة في الكفاءة في محاولة إحقاق الحق» (هويدي، 198 وهذا كلام محمد حسنين هيكل عن:
    «مدافع آيات الله» فالمدافع تهدم ولا تبني، وهذه مهمة ناقصة: «إن سلاح الدين يمكن أن يؤدي دور المدفعية يهدم معاقل النظام القديم، لكن انتصار الثورة يحتاج في مثال الحرب إلى المشاة يحتلون المواقع. ومشاة الثورة هم المفكرون والفنيون والعلماء والخبراء إلى آخره، وخشيتي أنه قد ينجح في هدم النظام القديم، ولكن بناء نظام جديد يحل محله مسألة أخرى». (الأهرام 7/6/1989).
    ومن الواجب التوقف عند تحليل لأحد الباحثين الإسلامويين الجادين والذي يبرز كيف ملأت اليوتوبيا عقول الإسلامويين لذلك لم يروا الأخطاء الأولى التي قام أساس الدولة الإسلامية المزعومة. يكتب الأفندي: ـ «فالفكرة التي استبطنها التغيير الجديد أقوى من أن تحجب، والاتجاه أوضح من أن يجهل أو يتم تجاهله.
    والحلم الذي انطلق منه التغيير حلم عاشت عليه الأمة بأكملها قرابة أربعة عشر قرناً، فمنذ انهيار الخلافة الراشدة في العقد الرابع، وقلوب المسلمين معلقة بذلك اليوم الذي يتسنى فيه تنصيب هذه المؤسسة» (ص 24) . ويضيف: «ومن وسط كل هذه الغيوم الداكنة، يطل فجأة التغيير السوداني، فهذه المرة الأولى منذ رحيل عمر بن عبد العزيز التي تتولى فيها الحكم في إقليم إسلامي سلطة لا ولاء لها ألا للشرع ومبادئه». (ص 25) .
    يثير د. الأفندي قضية الأزمة الأخلاقية في الحركة الإسلامية في وقت مبكر ويمكن للقارئ أن يتابع مصير المشروع الحضاري بقراءة الفصل الخاص بالتقويم والنقد الذاتي، ولكن كل هذا جاء متأخراً وبعد الانقسام، يورد القصة التالية: ـ «في منتصف الثمانينيات، استضفنا في مقر مجلة «أرابيا» الشهرية في بكنغهام شاير الدكتور حسن الترابي، حيث قدم تحليلاً للوضع في السودان، وتوقعاته لفرص الحركة الإسلامية في النجاح في المستقبل، إضافة إلى توضيح لمنطلقات الحركة وشرح لمواقفها.
    وفي النقاش أثير سؤال حول «المسألة الأخلاقية»، وما يقال عن براغماتية الحركة التي تمثلت في التحالف مع نميري، وما يتناوله الشارع السوداني عن سلوك أفراد الحركة، خاصة بما يتعلق بدنيا المال والأعمال. كان رد الدكتور الترابي واضحاً وحاسماً على هذه الاتهامات. فهو لم يرفضها، ولكنه رفض مبرراتها ومنطلقاتها، وقد جاء في إجابته:
    أن خصومنا يريدوننا أن نبقى في برج عاجي أو جو معقم، بعيداً عن الحياة وشئونها، فنعيش كالرهبان في دير ونشتغل بالتسبيح والصلاة، بينما ينفردون هم بإدارة شئون الدنيا، فإذا زاحمناهم في هذا المضمار، صاحوا يا للويل والثبور، كيف يهبط الإسلاميون من علياء الطهر إلى الاشتغال بالمنافسة السياسية وإدارة الأعمال؟ هذا يعني أنهم تركوا الإسلام وراءهم ظهرياً!
    هذه الإجابة لا تخلو من وجاهة، بالطبع ترجع جزئياً إلى ضرورة منطقية تتعلق بكون الحركة اتخذت طابع الحزب السياسي الساعي لتولي السلطة، وكان د. الترابي قد تبنى في مطلع الستينيات الدعوة لتحويل الحركة من حزب سياسي إلى حركة ضغط» (القدس العربي 7 سبتمبر 1999) .
    تطورت الحركة سريعاً في مجال تكثير الأنصار بالذات بين المتعلمين كما ظهر في انتخابات الخريجين وانتخابات الاتحادات الطلابية، ومن ناحية ثانية راكمت الموارد المالية. لهذا دخلت الحركة في معارك الصراع على السلطة السياسية وهي لا تنكر أو تخجل من هذا الهدف باعتبار ذلك هو الوضع الطبيعي لأي حزب أن يصل إلى السلطة.
    وقاد الترابي هذا التوجه الذي مكن الحركة اقتصادياً كما استطاعت التغلغل في المؤسسات وبالذات الجيش: ـ «وكانت فلسفة الترابي في هذا رؤية يمكن ترجمتها بالتالي: أن أنصار علي ما كانوا ليخسروا لو أنهم اتبعوا أساليب معسكر معاوية (وهو بالمناسبة النهج نفسه الذي تتبعه إيران الإسلامية ـ على الأقل في فترة ما قبل خاتمي ـ حيث تنتهج الدولة نهجماً صارماً للدفاع عن الدولة، بمعنى آخر فأن القاسم المشترك الأدنى ـ أخلاقياً ـ هو الذي يجب أن يحكم قوانين اللعبة». (نفس المصدر السابق) .
    ويضيف مؤكداً الأزمة: «وقد شهدت فترة ما بعد يونيو 1989 تدنياً متزايداً ليس فقط بالالتزام الأخلاقي، بل في الإيمان بدور الأخلاق في المنظومة الاجتماعية. وفي حوار خاص مع أحد كبار المسئولين أخبرني الرجل مرة بأنه أصبح فاقداً للثقة في الدوافع الأخلاقية لكل الخلق، بينما أخبرني الرجل نفسه مرة أخرى في معرض حديث آخر بأن المال قادر على اجتراح المعجزات. وسمعت آخرين يتحدثون عن فاعلية الردع والتخويف، وكان هذا في حال إسلامي مخالف اعتقل بغرض «تلقينه درساً».
    وقد تفشى هذا الاعتقاد وسط النخبة في إشارة أولاً إلى أنه يلقى الدعم من القيادة على أعلى المستويات، كما أنه يشير إلى غياب العقول عند كثير ممن يردد هذه المقولات، ويتأثر بما يرده من فوق بغير كثير من التفكير.
    وقد بلغ الأمر حداً جعل الأجنحة المتصارعة في صراع القوى الأخير تتهم بعضها البعض في دوافعها. وإذا كان أحد الجانبين ـ أو كلاهما ـ صادقاً، فإن هذا يعني أن الحركة الإسلامية ـ بمفهومنا عنها كحركة تلتزم الإسلام وقيمه ـ لا وجود لها في السودان، وأن كل ما عندنا هو حفنة من الانتهازيين تجري وراء المكاسب والمغانم». (المصدر السابق) .
    يكاد تقويم د. الأفندي أن يكون هو المفسر الوحيد لدافع الكتابة عن المشروع الحضاري، لأنه كان الوعد بالسمو الأخلاقي وهذا ما يمكن أن يكون الإنجاز الحقيقي لو حدث، ولكن كما يقول الكاتب: «والدرس من كل هذا هو أن هناك حداً أدنى من الالتزام الأخلاقي والديني لا تستحق الحركة بدونه أن تنسب إلى الإسلام.
    وإذا كان جائزاً لأي حركة سياسية أن تناور في محيطها بما يناسب ظروفها، فأن مثل هذه المناورات محدودة بخطوط حمراء لا يصح تجاوزها وإلا فقدت الحركة هويتها وبوصلتها. ولعل المناسب للحركات الإسلامية التي لا تستطيع أن توفق بين طموحاتها ومقدراتها والتزامها الأخلاقي، أن تتحول إلى جماعة ضغط راغبة عن السلطة، قائمة بالشهادة لله، مبلغة لدعوته، إلى أن يتحول الرأي العام لصالحها» (القدس العربي، المصدر السابق).
    السؤال الآن: هل كانت البداية خاطئة وهل طريقة الوصول إلى السلطة بعنفها وقمعها وخديعتها ودهائها كان لابد أن توصل منطقياً إلى نتيجة خاطئة؟
                  

العنوان الكاتب Date
سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq09-21-04, 09:51 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq09-21-04, 10:55 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq09-21-04, 11:30 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq09-22-04, 01:20 AM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq09-23-04, 02:56 AM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم Hani Abuelgasim10-20-04, 05:10 AM
    Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم AnwarKing10-21-04, 12:41 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq10-21-04, 02:41 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq10-21-04, 02:43 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq10-21-04, 02:45 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq10-21-04, 02:46 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم tariq10-21-04, 02:47 PM
    Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم بكرى ابوبكر08-04-10, 06:29 PM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم Agab Alfaya10-22-04, 05:27 AM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم Khatim10-24-04, 00:06 AM
  Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم Elbagir Osman10-24-04, 11:21 AM
    Re: سقوط المشروع الحضاري في السودان - تأليف :د. حيدر ابراهيم AnwarKing08-07-10, 00:44 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de