القانون الدولي الإنساني ... للفائدة العامة

Quote: المطلب الثالث دولة بلجيكا بلجيكا من الدول المتقدمة فى مجال إحترام القانون الدولى الإنسانى ، فقد صادقت على كافة الإتفاقيات التى تشكله ، وكانت سباقة فى مجال إنشاء الآليات الوطنية لتنفيذ القانون الدولى الإنسانى ، وكذلك فى مجال التشريع وقمع إنتهاكات القانون الدولى الانسانى ولها تجارب جديرة بالدراسة فى هذه المجالات . كما لها إسهاماتها الواضحة فى مجال تطوير القانون الدولى الإنسانى وفى نشره . لكل ذلك كان إختيارنا لها كنموذج من نماذج التنفيذ على المستوى الوطنى . التوقيع والمصادقة على الإتفاقيات التى تشكل القانون الدولى الإنسانى تعد الخطوة الأولى لإحترام ذلك القانون ، حيث هنالك دول عديدة حتى الآن لم تصادق على معظم هذه المواثيق الدولية . بلجيكا تعتبر الدولة الأنموذج فى ذلك المجال ، حيث شاركت فى إعداد ونقاش كل هذه الإتفاقـيات ووقعت عليها فى حينها ثم صادقت عليهـا وذلك على النحو الآتى (1) : - الإتفاقية الخاصة بإحترام قوانين وأعراف الحرب البرية لاهاى 18 أكتوبر 1907. - إتفاقية حول حقوق وواجبات الدول المحايدة فى الحرب البحرية ،لاهاى 18أكتوبر 1907. - إتفاقية بشأن حقوق وواجبات الدول المحايدة والاشخاص المحايدين فى حالة الحرب البرية ، لاهاى 18 أكتوبر 1907م . - بروتوكول بشأن حظر إستعمال الغازات الخانقة والسامة أو ماشابهها والوسائل الجرثومية فى الحرب جنيف 17 يونيو 1925 . - إتفاقيات جنيف لعام 1949م. - إتفاقية لحماية الممتلكات الثقافية فى حالة نزاع مسلح ،لاهاى 14مايو 1954 . - البروتوكول الإضافي الاول لعام 1977م الخاص بحماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية . - البروتوكول الإضافي الثانى لعام 1977م الخاص بحماية ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية . - إتفاقية حظر أو تقييد إستعمال أسلحة تقليدية معينة يمكن إعتبارها مفرطة الضرر أو عشوائية الأثر جنيف 15أكتوبر 1980. - إتفاقية خطر إستعمال وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد وتدمير تلك الألغام أوتاوا 1997م . - النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية ، روما 1998. أما فيما يختص بإنشاء الآليات الوطنية لتنفيذ القانون الدولى الإنسانى ، فإن بلجيكا أيضاً كانت متقدمة على غيرها من الدول فى هذا المجال ، حيث كانت ضمن أول تسعة دول فى العالم تنشئ جمعية وطنية وذلك فى أقل من سنة من إنتهاء أعمال المؤتمر الدولى التأسيسى للحركة الدولية للصليب الأحمر لعام 1863 م ، وكانت هذه الجمعية هى الصليب الأحمر البلجيكى (1) . فى 20 فبراير 1987 أنشئت بلجيكا اللجنة الإدارية لحقوق الإنسان بقرار من مجلس الوزراء وقامت الحكومة فى 23 ديسمبر 1994 بإعادة تفويض اللجنة وتوسيع مهامها . تضم اللجنة فى عضويتها مختلف الوزارات المعنية بالقانون الدولى الإنسانى ،مثل وزارة العدل والمالية والخارجية والدفاع والصحة علاوة على الصليب الأحمر البلجيكى ، ولللجنة ،عند الضرورة ،طلب التعاون من مختلف الجهات ، ويعين رئيس اللجنة بواسطة وزير الخارجية . المهام الأساسية لللجنة هى دراسة الإجراءات الوطنية من أجل تنفيذ القانون الدولى الإنسانى ، ومتابعة وتنسيق التطبيق على المستوى الوطنى . نجحت اللجنة فى تحقيق العديد من الإنجازات الهامة ، منها إنشاء نظام للمستشاريين فى قانون الحرب لدى القوات المسلحة البلجيكية ، وإنتخاب عضو بلجيكى فى اللجنة الدولية لتقصى الحقائق ، وإقرار عدة قوانين خاصة القانون الصادر فى 16يونيو 1993 بشأن قمع الإنتهاكات الجسيمة لقانون الحرب ، وتعمل اللجنة كهيئة إستشارية دائمة لمساعدة الحكومة على تطبيق وتطويرالقانون الدولى الإنسانى(1) . فى مجال التشريع أصدرت الحكومة البلجيكية قانوناً بشأن حماية شارات ورموز والعلامات المميزة للصليب الأحمر ، منع هذا القانون أى إستعمال لهذه الشارات والرموز والعلامات المميزة بصورة تخالف ما نص عليه فى القانون الدولى الإنسانى ، كما منع إستعمال أى علامات أو شارات أو رموز أخرى تشابه تلكك المحمية بالقانون لمنع أى لبس أو خلط فى هذا المجال ، ونص القانون على عقوبات رادعة للمخالفين لـه فى زمن الحـرب (2). من أهم التشريعات البلجيكية التى صدرت فى مجال قمع جرائم الحرب هى قانون 1993 بشأن قمع الإنتهاكات الخطيرة للقانون الدولى الإنسانى ، وتميز هذا القانون بأنه أجاز للمحاكم الوطنية البلجيكية محاكمة الأشخاص المتهمين بإرتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية دون إعتبار لجنسياتهم أو لمكان وقوع هذه الجرائم . لذلك حظى هذا القانون بشهرة عالمية كبيرة . خضع هذا القانون لتعديلين مهمين قبل أن يلغى . التعديل الأول كان بشأن قمع الإنتهاكات الخطيرة للقانون الدولى الإنسانى ، حيث أضيفت فقرات خاصة بجرائم إبادة الجنس البشرى والجرائم ضد الإنسانية . أما التعديل الثانى كان بشأن قمع الإنتهاكات الخطيرة للقانون الدولى الإنسانى ، حيث أضيفت فقرات أخرى لإضافة عدد ثلاثة جرائم لقائمة الجرائم الموجهة ضد الإنسانية ، سبق أن حذفت من القانون ، ليصبح القانون مواكباً تماماً للجرائم المنصوص عليها فى النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية . شمل التعديل أيضاً ، إضافة عدد من إنتهاكات القانون الدولى الإنسانى وإعادة تعريف عدد آخر لكى يغطى ، ما أمكن ، أكبر عدد من الإنتهاكات الخطيرة لإتفاقيات جنيف لعام 1949م والبروتوكولين الإضافيين لعام 1977 من ناحية ، وكذلك كل جرائم الحرب ، كما عرفت فى النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية ، من ناحية أخرى . كما شمل التعديل إختصاص المحاكم الوطنية البلجيكية حيث تم وضع آلية لإبعاد الحالات التى لاتمتلك حد أدنى من العلاقة أو الارتباط بدولة بلجيكا من دائرة إختصاص المحاكم الوطنية البلجيكية الشى الذى يشير الى تراجع دولة بلجيكا عن مفهوم الاختصاص العالمى لمحاكمها الوطنية وذلك بتقييد القضايا المرفوعة أمام محاكمها الوطنية بتوافر حد أدنى من الارتباط بدولة بلجيكا (1) . رغم النجاحات التى حققها قانون 1993 لقمع الإنتهاكات الخطيرة للقانون الدولى الإنسانى والتعديلات الهامة التى خضع لها ، والتى وسعت من إختصـاصه من حيث الجرائـم المعاقب عليها ، رغم ذلك ، تم إلغاء هذا القـانون و دمجت محتوياته ، بعد إجراء جميع التغيرات الضرورية ، فى كل من القانون الجنائى ، وقانون الإجراءات الجنائية ، وقانون السلطة القضائية (2) . بهذا التعديل تكون بلجيكا قد تخلت عن إسلوبها السابق فى تجريم الإنتهاكات الخطيرة للقانون الدولى الإنسانى ، وهو مايعرف بإسلوب التجريم الخاص ، وأخذت مرة أخـرى بإسلوب التجريم المزدوج الذى كانت تعمل به . أفلحت بلجيكا بإدراج كل إنتهاكات القانون الدولى الإنسانى وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة الجنس البشرى فىقوانينها الوطنية ، كما إنها قد وفقت أوضاعها وفقاً للمواثيق الدولية بهذا الخصوص ، وذلك حتى مرحلة المحكمة الجنائية الدولية . لم يقف الأمر عند ذلك الحد ، إذ تقوم بلجيكا بتقديم منتهكى القانون الدولى الإنسانى ومرتكبى جرائم الحرب وجرائم إبادة الجنس البشرى والجرائم ضد الإنسانية الى محاكمها الوطنية ، وهنالك عدد من المحاكمات والملاحقات القضائية التى تمت بهذا الخصوص بموجب قانون 1993 ونذكر منها على سبيل المثال الأتى : - فى 9 يناير 2002 أصدرت محكمة النقض البلجيكية ( Belgian Court Of Cassation) قراراً فى قضية ثلاثة روانديين - أحدهم صاحب مصنع والأخرين راهبين – أتهموا بإرتكاب إنتهاكات خطيرة للقانون الدولى الإنسانى فى إقليم رواندا فى العام 1994 ، وكان قرار المحكمة هو رفض النظر فى الدعـوى لأسبابٍ ذكرتها (1) . - فى 20نوفمبر 2002 ألغت محكمة النقض البلجيكية حكماً لإحدى محاكم الإستئناف ( AppealsCourt ) بخصوص محاكمة بعض كبار القادة من جمهورية الكنغو الديمقراطية أتهموا بإرتكاب جرائم حرب ببلدهم ، وكان قرار محكمة الإستئناف عدم قبول الدعوى نسبةً لعدم تواجد المتهمين بإقليم بلجيكا ، وجاء حكم النقض مستنداً الى وجود أخطاء إجرائية ( Procedural Errors ) فى حكم محكمة الإستئناف ، ووجهت بإعادة نظر القضية بواسطة قضاة آخرين من محكمة الإستئناف (2) . - فى يونيو 2003 شرع المدعى العام فى بلجيكا فى التحقيق فى القضية التى رفعت بواسطة 23من ضحايا مذابح مخيمى صبرا وشاتيلا عام 1982 ضد أرئيل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلى لدوره ومسئوليته فى تسهيل قيام مليشيات الكتائب فى إرتكاب هذه المذابح ، وذلك بعد ثبوت شرعية التهم الموجهة له ، إلا أن شارون ألغى زيارته لبلجيكا التى كانت مقررة فى إطار جولته الأوربية تعبيراً عن غضبه من إحالته للمحاكمة امام القضاء البلجيكى ، وبررت مصادر الحكومة الإسرائيلية إلغاء الزيارة لإزدحام جدول الزيارة (3). من التشريعات المهمة التى أصدرتها الحكومة البلجيكية والتى تصب فى إطار التعاون الدولى والمساعدة القضائية فى مجال قمع الإنتهاكات الخطيرة للقانون الدولى الإنسانى ، وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية ، هى ’’ قانون 22مارس 1996 بشأن الإعتراف بالمحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة والمحكمة الدولية لرواندا والتعاون معهما ‘‘ . هذا القانون جاء مستنداً على المادة 29 من النظام الأساسى لمحكمة يوغسلافيا السابقة ، والتى تطابق المادة 28من النظام الأساسى لمحكمة رواندا (1) . طالبت هذه المادة المشتركة الدول الأعضاء بالتعاون مع كل من المحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة والمحكمة الدولية لرواندا فى التحقيق مع الأشخاص المتهمين بإرتكاب إنتهاكات جسيمة للقانون الدولى الإنسانى ، وفى محاكمتهم . كما طالبتها بان تمتثل ، دون أى إبطاء ، لأى طلب للمساعدة أو أمر صادر عن هذه المحاكم بما فى ذلك ،على سبيل المثال لا الحصر ، تحديد هوية الأشخاص وأماكن وجودهم ، الإستماع الى أقوال الشهود وتقديم الأدلة ، الإعلان بالوثائق ، القبض على الأشخاص أو إحتجازهم ، وتسليم المتهمين أو إحالتهم الى هذه المحاكم(2) . بذلك تكون بلجيكا من أول الدول التى إستجابت للمطالب والتوجيهات المذكورة آنفاً ، حيث أصبح هذا القانون ، أى قانون1996 ، من المراجع التى تشير إليها المحاكم الوطنية البلجيكية عندما يكون المتهمون من جمهـورية يوغسلافيا السابقة أو من جمهوريـة روانـدا (3). أما بخصوص مكانة ودور بلجيكا فى مجال تطوير القانون الدولى الإنسانى ، فيمكن إستقراؤه من المناقشات التى أعقبت إعتماد النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية ، حيث دار جدل حول مدلول بعض نصوص النظام الأساسى للمحكمة ، خاصة ما يتعلق بأسباب إمتناع المسئولية الجنائية حيث نص النظام الأساسى على عدم مساءلة الشخص جنائياً إذا ماكان يتصرف على نحوٍ معقول للدفاع عن نفسه أو عن شخصٍ آخر أو عن متلكات لا غنىً عنها بطريقة تتناسب مع درجة الخطر الذى يهدده (4) . أثار هذا النص مشاعر بعض المتخصصين البلجيكيين فى القانون الدولى الإنسانى ، فوجهوا رسالة مفتوحة جاء فيها ’’ ان بلجيكا وقد طلب إليها الإنضمام الى النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية ، وهى التى إكتسبت بمبادراتها وتشريعاتها فى مجال القانون الإنسانى إحترام المجتمع الدولى ، عليها أن تعلن صراحة تمسكها بإستبعاد تطبيق مادة تمثل دعوة مباشرة للجريمة ويمثل تطبيقها تقويضاً لأهم مكتسبات هذا القرن فى مجال حقوق الإنسان والقانون الإنسانى ‘‘ . هذه المادة فى جوهرها تجعل من حالة الخطر، والدفاع الشرعى ، والضرورة العسكرية مبررات تعفى من المسئولية الجنائية ، على حد زعم هؤلاء المتخصصين البلجيكيين . نظمت اللجنة الإستشارية للقانون الدولى الإنسانى بالصليب الأحمر البلجيكى ورشة عمل حول المشكلات التى تثيرها هذه المادة ، الشئ الذى يؤكد حرص وإسهام المتخصصين البلجيكيين فى مجال تطوير القانون الدولى الإنسانى(1) . نخلص الى أن دولة بلجيكا قد إقتحمت كل مجالات تطبيق القانون الدولى الإنسانى ، وأنها أصابت فيها نجاحاً منقطع النظير ، حتى أصبحت تجاربها ومبادراتها فى هذا المجال مكان إحترام وإعجاب الجميع ، حيث دفعت بقضائها الوطنى لإستغلال كامل صلاحياته فى محاكمة وملاحقة مجرمى الحرب ومنتهكى القوانين الدولية على مستوى العالم ، الشى الذى أكسبها حالة من الوقار والهيبة ، وأصبحت أراضيها محرمة على مرتكبى الإنتهاكات الخطيرة للقانون الدولى الإنسانى ومرتكبى الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية . عليه يمكن أن نتصور عالماً لا مكان فيه لمثل هؤلاء المجرمين إذا ما حذت دول العالم ، أو أغلبها على الأقل ، حذو بلجيكا فى مجال إحترام وتعزيز الإلتزام بالقانون الدولى الإنسانى.