مال منعم الجزولي لا ياتينا ويذهب الى القرية التي تلينا (يوجد ابداع)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-11-2024, 01:52 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2011م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-10-2011, 04:36 AM

د.نجاة محمود


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: زقاق نسوان (Re: د.نجاة محمود)

    (5)

    كاكا بنت فكى هارون


    زوجوها، وليس لها فى الأمر يد.
    وطلقوها، وليس لها من أمرها شئ.

    نشأت فى بيت تجرى من تحته الأنهار!! كان والدها من أثرى أثرياء البلدة. وكانت أبقاره وكباشه التى تذهب الى مصر كل سنة تزيد على آلاف الروؤس من هذى، وآلاف الروؤس من تلك.

    وكان أخوالها من أكبر تجار المحاصيل. الذرة، والسمسم ولب البطيخ.

    وكان زوجها ينافسهم جميعا من حيث الثراء.

    تزوجته وهى لاتعرف من أمره شيئا، فقد طلب يدها من أبيها وهى بنت اربعة عشر، ودخل عليها فى العام التالى. وبعد أقل من عام جاؤها وقالوا لها أنت طالق.

    بعد صلاة المغرب جاء فكى ز ين الدين مع والدها. نادوها، وقالوا لها إن زوجك اسحق ولد نورين كان قد أقسم بالطلاق فى أمر من أمور البيع وقد انكسر عليه قسمه، فوقع عليك الطلاق. وأضاف فكى زين الدين، أن هذا هو الطلاق الثالث. وأن الزواج ليس ملعبة، لذلك شَرَع الدين أن الطلاق مرتان.

    - الثالثة ثابتة.

    قال والدها مؤمنا على كلام الفكى، الذى إستمر يشرح لها الأمر:

    - أحسبى عدتك أربعة أشهر وعشرة أيام، لاتفارقى فيها البيت، ولاتنكشفى فيها إلا على محرم.
    - وبعد ذلك فليفعل الله مايشاء
    .

    لم تفهم من الأمر شيئا، فأومأت برأسها موافقة، كعادتها دائما، حين يتكلم أبوها.
    ثم جاءت أمها، وخالتها زمزم. قالتا لتقيما معها أبام العدة، أو بالأحرى لتحرسانها من شياطين الإنس المتربصين بكل مطلقة، ناصبين آلاتهم، يرومون الدخول بها.

    عاشت أيامها فى هدوء، وإن كانت فى بعض الأحيان تحن الى زوجها ومداعباته فى ليالى الشتاء الموحشة.

    ذات مساء جاء والدها فى معية فكى زين الدين، وجلسا يتناضمان فى الراكوبة الخارجية، كانت أمها حاضرة، وكانت الأعلى صوتا. سمعتها تقول أن الزواج ليس لعبا، ويبدو أنها كانت ترد على حديث قاله فكى زين الدين. ثم سمعتهم يتهامسون وقتا طويلا، دون أن تستبين قالة لأحدهم، حتى ارتفع صوت الفكى فى حسم:

    - البنت ليست بكرة، ولابد من مشاورتها فى الامر.

    وارتفع صوت والدها فى حدة

    - نحن ماعندنا بنات نشيرهم فى مثل هذى الأمور!
    - هل أنت مسلم مثلنا أم أن لك دين وحدك؟ الشريعة تقول بإن الثيب تستشار ويجب أن يُسمع ردها بالقبول واضحا.

    قليلا، ودخلت عليها أمها. طلبت منها أن تغطى رأسها بثوب كان بالقرب منها، ثم دخل والدها يتبعه فكى زين الدين. جلس الرجلان بينما بقيت أمها واقفة عند الباب. تنحنح الفكى ثم قال لها:

    - زوجك طلقك ثلاث طلقات، وبهذا أنت لاتجوزين له إلا إذا دخل عليك غيره.

    إلتفتت الى امها. لم تفهم شيئا. فقال والدها:

    - يعنى لابد من محلل يحللك حتى تجوزين لولد نور الدين مرة أخرى.

    إزدادت حيرتها، فصمتت. فقال الفكى:

    - شوفى يابنية، ولد أبَّكر الفلاتى، طلبك للزواج.

    قفز رأسها لا إراديا، وهى تنظر ناحية أمها مرعوبة، وقد جَحُظَت عيناها. ثم سمعت صوتاً يخرج من بين أسنانها المصطكة دون وعى:

    - الفلاتى!!؟؟
    - نعم الفلاتى.

    قال والدها بحزم:

    - مالقينا غيره ليحللك لولد نور الدين
    - يعنى أتزوج الفلاتى!؟
    - سيكون زواجا مؤقتا..ويطلقك فى اليوم التالى.
    - يعنى أتزوج الفلاتى!؟ ووبٌ علىَّ يا أُمى!!!

    فى يأس حاد قال والدها:

    - نعم.. تتزوجين الفلاتى.. وماذا نفعل لك!!؟

    صباح اليوم التالى، جاء خالها فكى حبيب الله، وكان هائجا كعادته:

    - ولد الغلفاء، دفعنا له ألف جنيه.
    - وقال سيطلق فى اليوم التالى!؟

    تساءلت خالتها زمزم، وهى لاتزال تسوط إناءً على النار. فالتفت إليها شقيقها غاضباً:

    - لو ماطلق، والله إلا سكينتى هذى تأباه، ولد أم ظـُبر!!

    بعد صلاة المغرب، جاء والدها، فى صحبة أخوالها الثلاثة، والفكى زين الدين ومعهم ولد أبكر الفلاتى. كانوا كأنهم يقودونه الى المشنقة. ناداها فكى زين الدين أن تخرج لتصافح عريسها!! فخرجت من غرفتها تصحبها أمها وخالتها، وجلسوا جميعا فى الراكوبة أمام الغرفة. كانت صامته طوال الوقت، حتى التفت اليها فكى زين الدين يسألها إن كانت تقبل به زوجا، فنظرت الى أبيها، الذى حدجها بنظرة قاسية فحولت بصرها الى أمها التى طأطأت تنظر الى تل صغير من الرمل كومه النمل بجانب الراكوبة. فصاح فيها الفكى غاضباً:

    - لابد أن أسمع الإجابة، تقبلينه أم لا؟

    فلاذت بصمتها على حين قال خالها فكى نور الله:

    - السكات علامة الرضا
    - الا فى هذه الحالة.

    قال فكى زين الدين مصححا:

    - البنت ثيب، والثيب لابد لها من القول صراحة بالقبول أو الرفض. هذا شرع الله وليس ملعبة.

    فنهرها والدها:

    - قولى نعم وخلصينا.
    - نعم

    قالتها بصوت خفيض. فانهمك فكى زين الدين فى تلاوة آيات من كتاب الله، أو هكذا خُيِّل لها، وإن كانت ليست متأكدة من أن هذا كلام الله أم كلام من عند الفكى. ثم زأر الرجل:

    - الفاتحة.

    فتمتم الرجال خلفه فى فتور ظاهر ثم نفضوا ملابسهم وقاموا، ومعهم ولد الفلاتى، الى المسجد، لصلاة العشاء، قالوا.

    ظلت فى مجلسها ذاك، لم تغادرة منذ أن خرج الرجال، لم ترفع عينها عن الأرض، وماكان تفكيرها محصورا فى شئ معين. قفزت الى خاطرها أغنية قديمة، تلبك لحنها فى باطن العقل، بينما غابت كلماتها تماما عن شاشة الذاكرة، فراح اللحن يجرى وحده، دون هدىً، أو دليل من مفردات، تتساعد بها على فهم مايدور حولها من أمور، يقررها الكبار، ويسعون بها بين الخلائق، نافذة الى عمق حيوات الناس، ولا أحد بمقدوره أن يعترض، أو يتذمر. بينما راحت أمها تساعد خالتها، ونساء أشقائها، فى تجهيز عصيدة الدخن لأغراض العشاء. فالرجال لابد أنهم سينكسرون بعد الصلاة الى هنا بحثا عن الطعام، الذى كان جاهزا لحظة أن دفر فكى حبيب الله الباب الخارجى، مندفعا الى جيث مجلسها وسكينته فى يده مشهرة. تبعه فكى نور الله، وأولاد خالها الثلاث، مثل التيران الهائجة، جاثوا فى الدار، وسيوفهم فى أياديهم مشرعه. ثم جاء ولدى فكى نور الله، ثم أولاد عمها المرحوم شيخ الدين، يتبعهم رهط من أهل السوق والرعاة، وجلسوا كيفما اتفق، والكل يحمل فى يده آلة من آلات الحرب. ثم جاء والدها، يتبعه فكى زين الدين وولد أبكر، الذى دخل مترددا، وهو يرى كل تلك الأسلحة البيضاء مشهرة تلمع تحت أضواء الفوانيس الموقدة.

    جاءت أمها وقادتها الى داخل الحجرة، بينما تنحنح فكى زين الدين مخاطبا الجمهور الصغير الذى تبعثر حول المكان:
    - يا أخوانى هذا لايجوز. الرجل لابدَّ له من أن يختلى بزوجته خلوة كاملة، حتى يقع الزواج صحيحا.
    - إنت يافكى تريد أن تسوى لنا عادات بمزاجك؟

    قال فكى حبيب الله غاضبا، فنظر اليه فكى زين الدين، نظرة متحسرة وأجاب:

    - هى يافكى. أنت الذى يريد أن يخترع لنا فى ديننا مايخرجنا من الملة. إذا لم يختلى الرجل بزوجته فلازواج. هل فهمت؟؟ الزواج باطل، وحرام، حرمة الزنا، وأنا والله لن اتحمل مسؤلية زيجة ناقصة، لتحليل مصائب نسيبكم الذى يروح يحوم فى السوق ويرمى بايمان الطلاق يمنا ويسارا. الله قال الطلاق مرتان، يعنى الطلاق الثالث لافكاك منه. الا بمحلل، وها نحن ملمومين هنا نحاول أن نباصر له تحليلا يرضاه الله ويرضاه الرسول

    همهم الخلق كلهم أن صلى الله عليه وسلم. فواصل الرجل:

    - ذا الحين كلكم تقومون الى بيوتكم، لايبقى منكم أحد، نترك الرجل يختلى بزوجته فى ليلته هذى والصباح رباح. من كان عنده كلمة فليلمها عليه. أنا قلت كلمتى وأجرى على الله.

    ثم التفت جيث يجلس والد البنت

    - يافكى هارون. أنت رجل تقرأ كتاب الله وتعرف دينه، لو تريد لبنتك أن تعود لزوجها الأول ولد نور الدين وتبقى معه زانية الى يوم القيامة، فأبق فى مجلسك هذا. أما لو كنت تريد أن تتبع كتاب الله وسنة نبيك، فقم الى هؤلاء الناس وأطردهم خارج البيت حتى يختلى الرجل بزوجته خلوة كاملة، ويصبح الزواج زواجا صحيحا،

    راح الخلق يتهامسون بعض يؤيد وبعض يرفع عصا الاعتراضات، ولكنهم فى النهاية إمتثلوا للأمر وغادروا الدار تصحبهم نساؤهم، ولم يبق مع ولد أبكر سوى فكى هارون و فكى زين الدين الذى، لما خلا الدار، قام ودخل الحجرة، وطرد النساء منها، ثم بقى بالداخل فترة مع العروس، يُسمع مهمسه، ولايُستبان مقاله. ثم خرج اليهم، والتفت الى فكى هارون آمرا أن يأخذ زوجته، أم العروس، ويذهب هو الآخر الى بيته، فامتثل الرجل وتبعتهم زمزم شقيقة زوجته. ولم يبق معه سوى ولد ابكر الفلاتى. فالتفت عندها الفكى الىه، قائلا له فى لهجة صارمة:

    - لابد أن تذوق عُسيلتها.

    إالتفت الفتى اليه مستفهما فأجابه الفكى فى لغة مستقيمة وواضحة

    - تنام معها وتدخل بها دخولا كاملا.
    - يقتلوننى لو فعلت.
    - وتخرج من أمة المسلمين لو لم تفعل!! ووالله لن تعرض على الجنة أبدا.

    استغرق الفتى فى تفكير عميق وجسده ينتفض وقد رآى نفسه يمسك به ملائكة العذاب يريدون أن يرموه فى جهنم، فهب من غفوته مذعورا، ليجد نفسه منكفئا على مرقد فى الراكوبة، وليس معه أحد. نظر فوجد باب الغرفة مفتوحا، وبعض ضوء يتراقص من لهب الفانوس بالداخل،. ثم تذكر كلام فكى زين الدين، فتوكل على الحى الذى لايموت وقام الى عروسه بالداخل. وجدها جالسة فى منتصف السرير، متدثرة بثوب، أزرق. تفيض بهاء تحت لهبة الفانوس المتراقصة. شهية كقطعة الدليب غسلها المطر، وقف ينظر اليها فترة، فخفضت بصرها الى ثوبها تتشاغل ببعض خيوطه، فأغلق الباب خلفه، ثم ذهب الى الفانوس، وأطفأ شعلته الشاحبة.

    عندما صاح المؤذن أن الصلاة خير من النوم، نهض، وراح ليغسل نفسه، ثم خرج الى المسجد. كان الرجال مجتمعون كلهم حول فكى زين الدين، الذى رفع رأسه الى الفتى، برهة ثم أمر بإقامة الصلاة.

    لم يكد يفرغ من السلام عليكم، الى يساره حتى سارع ولد نور الدين وأمسك بتلابيب الفتى ناهراً اياه والشرر يتطاير من عينيه، وأمره أن يلقى يمين الطلاق. فنظر ولد الفلاتى مرعوبا ناحية الامام، وهو لايزال فى مصلاته فأومأ الرجل اليه علامة الإيجاب.

    فالتفت الى فكى هارون قائلا بصوت مستحٍ، خفيض:

    - بنتك طالق يافكى.

    فنهض الرجال يهنئون بعضهم البعض، وصاح أحدهم مناديا إسحق ولد نور الدين:

    - أبشر بالخير يا إساغة.

    إالتفت اليهم فكى زين الدين، وقال مخاطبا فكى هارون:

    - يافكى، بنتك تحسب عدتها من اليوم ولغاية أن تتم أربعة أشهر وعشرة أيام أو تستبرئ رحمها.

    فقال له فكى حبيب الله، خال الفتاة:

    - والله يافكى زين الدين، أنت تحب أن تعقد الأمور، قلت تمسك عدتها، ومسكتها، قلت لابد من محلل، وحللناها، والآن تريد لها أن تبدأ عدة جديدة!؟ اترك الرجل يعود الى زوجته بدون ملاواة.
    - إنت يافكى حبيب الله تريد أن تكيف الإسلام بمزاجك!!؟؟ أستغفر الله العظيم!! تريد أن تغير كلام الله؟؟
    - لا أنا ماقصدت..

    قاطعه الإمام بحدة:

    - قصدت أو لم تقصد، هذا هو شرع الله، من أراد خيرا فليأخذ به ومن أراد أن يصنع لنفسه إلهاً من العرديب ويتعبد اليه، فهو حر. زواجها لن يجوز إلا إذا إنقضت عدتها، واستبرأت رحمها، شرعا. ماعدا ذلك فهو عند الله زنا، يوجب الحد. أنا قلت ماعندى، وأنتم أعملوا مابدا لكم، السلام عليكم.

    ونهض مغادرا المسجد.

    أحست كاكا، بدوار خفيف، فمدت يدها الى عود الراكوبة، تستند عليه. ثم فاجأها مغص حاد. مدت يدها تمسك بطنها، علها تزيل بعض الألم، فتقيأت بعضا مما أفطرت به. كانت أمها وخالتها تتعاونان على قِدرٍ فوق النار، فتوقفتا وراحتا تنظران اليها.

    كان قد انقضى شهران أو أقل قليلا منذ أن وقع الطلاق.

    لم تتردد خالتها لحظة، بل خطفت ثوبا كان معلقا على حبل بالجوار، وضعته فوق رأسها كما اتفق وغادرت البيت مسرعة، لتعود بعد قليل وفى معيتها حاجة مرضية، الداية.

    إنتشر الخبر، همسا وجهرا، حتى وصل السوق، والرجال منهمكين فى انهاء معاملاتهم بيعا وشراء. جاء منعم ولد فكى زين الدين يبحث عن فكى هارون، أرسله والده اليه، فوجده يتيمم، استعدادا لصلاة الظهر. لبس الرجل قنجته، وحمل عصاته وتبع الولد، فى صمت. وجدا الفكى الأمام جالسا فى المسجد يقرأ، فوضع كتاب الله جانبا، حين رآهما، واعتدل فى جلسته، وقال مبتدرا فكى هارون.

    - شوف يافكى، الطلاق لايجوز، إذا ظهر الحمل.
    - كيف يكون هذا؟؟

    تساءل فكى هارون، وعينه لاتزال الى الأرض.

    - هذا شرع الله الواحد الذى نعرفه وتعرفه. الولد للفراش، وبنتك حامل فى فراش الفلاتى. فحتى تضع حملها تكون شرعا زوجته، والطلاق باطل.

    سمعا جلبة عظيمة خارج المسجد ثم اندفع نحوهما ولد التنجراوى، وعمامته السوداء، نصف فوق رأسه، والنصف يجرها على الأرض خلفه:

    - ولد نور الدين ذبح ابكر الفلاتى فى السوق!!

    قفز الرجلان كالملسوعين، وتبعاه خارج المسجد، مهرولين ناحية السوق، وسط جماعة ممن كانوا قد دلفوا الى المسجد لأداء فرض الله، بينما راح التنجرانى يرمى لهما بقية القصة، فى سرعة. ولهوجة بادية، وأنفاسه تتقطع عند مخارج الحروف، فيتوقف قليلا ليأخذ بعضا من أنفاسه ثم يواصل:

    عندما انكسر الخبر إلينا كنا نستعد للصلاة، فغضب إساغة ولد نورالدين غضبا شديدا، واستل سكينه وجرى قاصدا ولد الفلاتى تحت الشجرة عند زريبة الحطب. المسكين كان يشرب الشاى مع أولاد عابد، حين فاجأه إساغة وتكاه كالشاة، وذبحه من الأُذن إلى الأُذن، والله دمه إندفع على الأرض كالهبوب.

    - إنا لله وإنا إليه راجعون، وأين هو الآن؟

    قال فكى زين الدين متسائلا. فأجاب الشاب:

    - تركته فى مكانه تحت الشجر تلك، ينازع الموت وجئت أُبلغكم. ولد الجزولى ذهب ليبلغ المركز.
    - أعنى إسحق ولد نور الدين
    - لا أعرف ، تركته يقف فوق القتيل يسبه.
    - يسبه!!؟

    قال فكى هارون، مستعجبا، فعقَّب فكى زين الدين عليه:

    - إنا لله وإنا إليه راجعون.

    عند أول السوق، رأوا جمهورا كثيرا، متجمعا، عند طرف زريبة الحطب. شقوا لهم طريقا، بين الصفوف المتراصة، حتى وصلوا الى عند شجرة الكُليت الضخمة، التى تتوسط المكان، فرأوا ولد نور الدين لايزال هائجا والسكين فى يده‘ عليها آثار الدماء، التى تلطخ جبته، وحذاءه. وكان ثائرا يسب ويلعن، ويصف الجثة الهامدة تحته بنعوت وأوصاف كثيرة، مثل ولد الغلفاء، والتكرونى العفين، وولد أم طيز، فوقف عنده فكى زين الدين:

    - الذى تعمله هذا لا الله ولا رسوله يقبلان به
    - دينك ودين دينك ياولد الفاجر، هذا كله من رأسك ومن رأس دينك الذى قطعته لنا من أين لاندرى، والله اليوم ياولد أم طيز إلا أن تأباك سكينتى هذى.

    ثم هجم على الرجل وغرس السكين فى صدره حتى بان نصلها من وراء ظهره، فخر الرجل الى الأرض صريعا. وقبل أن يتمكن من إنتزاع سكينته من جسد ضحيته الثانية، كان ولدى الجابرى قد قفزا فوقه دفعة واحدة، وسط صراخ الناس، وهيجانهم، فألقيا به على الأرض، وكتفه ولد الجابرى الكبير، منصور، بعمامته، وشقيقه المتين البنيان جالس فوق صدره لايسمح له بحركة من جسمه إلا بقدر مايتنفس به الهواء. وهرع الناس يحاولون اسعاف فكى زين الدين، إلا أن صاحب الوديعة كان قد أخذ وديعته وترك لهم جثة لاتصلح إلا لأشغال الدفن والعزاء.

    إندفر الباب الخارجى، بعنف، ودخل فكى حبيب الله. الشرر يتطاير من عينيه، كان، وكانت سكينته فى يده مشرعة. أمها كانت تغسل شيئا فى طست نحاس كبير وسط الحوش، فانتهرها الفكى،فى هيجانه ذاك:

    - أين بنتك الفاجر؟

    أدركت المرأة أن شقيقها لايريد سوى الشر، فحالت بينه وبين المضى الى الأمام، نحو الراكوبة، حيث كانت إبنتها تستريح من نوبة القئ الذى فاجأها قبل قليل:

    - ماذا تريد يافكى؟ اقصر الشر.
    - بنتك لطخت سمعتنا فى الطين، كيف تحبل من ولد الفلاتى؟!!
    - زوجها على كتاب الله وسنة نبينا، أنت نفسك، حضرت ورفعت فاتحتها مع الناس، هنا فى الراكوبة التى تشهد على افعالك.
    - إبعدى عن طريقى

    كانت المرأة قد لفت يديها حول وسطه محاولة أن تمنعه من المسير الى حيث توجد ابنتها، ولكن الرجل، وبقوته الجسمانية الهائلة، والتى زادها الغضب قوة على قوة، حاول دفعها بعيدا عن جسمه، وسكينته كانت لاتزال مشرعة فى يده، فانغرست فى صدرها حتى النصل، وكانت مباشرة فى موقع القلب من الجسم. لم تفعل المرأة أكثر من أن أنَّت أنةً واحدة ورفعت عينيها الى عينى شقيقها، ثم أغلقتهما الى الأبد.

    وقد رأت أمها تنقتل هكذا وببساطة أمام عينيها!! بدون أسباب واضحة، أدركت أن هنالك شئ خطأ فى هذا الكون، خاصة وأنها لم تكن لتفهم كثيرا مما يدور حولها، ولم يكن عندها من الوقت مايكفى لتتدبر لنفسها أمرا من أمور السلامة، فقفزت من مكانها الى آخر الحوش والرعب يملأها، واخترقت حائط الصريف الخارجى المعمول من القش، وراحت تجرى وليس عليها سوى فستان وبعض قماش وضعته لا إراديا فوق رأسها.

    دخلت المسجد، لتجد منعم ولد فكى زين الدين يبكى عند المحراب، سألته عن أبيه فرفع رأسه ونظر إليها صائحا:

    - هذا كله بسببك يابنت الحرام!

    وقام إلى عصاة كانت بالجوار، فأسلمت المرأة ساقيها للفرار،تقودانها كيفما اتفق، الى أبعد مكان يمكن أن تجد فيه ولو بعض الأمان، وقد أصيب العالم من حولها بجنون مباغت. كان الناس يهرولون فى كل الإتجاهات بلا هدى. وكانوا يصرخون فى وجوه بعضهم البعض بلا سبب تفهمه. وكانوا يتصايحون، وعربات تجرى، وخيول تهرول، والبعض على ظهور حمير يستحثونها الإسراع، وكأن الحلة قد تحولت إلى ساحة حرب. جيوش من عساكر البوليس تحمل البنادق، بعضهم فوق العربات، وبعضهم على الأرجل يدبون دبيبا. سمعت من يقول بأن ولد نورالدين قتل فكى زين العابدين، وبعض يقول إن فكى هارون هو الذى قُتل. والبعض يعلن مقتل ولد نور الدين نفسه على أيدى أولاد الجابرى، وكان بينهم وبينه ثأر قديم. وقال قائل إن فكى زين الدين قتل زوجة فكى هارون، ظبطها تزنى عند الطاحونة!! فأقام عليها الحد، وقائل إن كاكا بنت فكى هارون قتلت زوجها ولد الفلاتى ثم قتلت أمها وأبيها!! وكانت تجرى ولاتعرف أين توجد الحقيقة. حتى تعثرت فى عربة تحمل بشرا كثيرين يحلسون فوق جوالات لعلها تنباك، فوقعت على الأرض تبكى بأعلى صوتها وتصرخ أن أنجدونى، ثم أُغمى عليها.

    أفاقت لتجد نفسها فى حجرة من الطين الأخضر، طليت جدرانها باللون الأبيض، وتناثرت حولها بعض البنابر والكراسى. وكانت تنام على برش من السعف الى جوار الحائط، ورجل، يقف عند الباب، فى جبة بيضاء، وعمامة سوداء كبيرة تغطى رأسه، وتخفى أغلب ملامح وجهه، فلم تستبن سوى عينين نفاذتين تحدقان بها، فصرخت. قام اليها الرجل، وأزال لثامه من على وجهه، فاستبانت، لحية بيضاء مستديرة فى عناية، فهدأت قليلا. سألها:

    - ماذا حدث فى الحلة؟

    فلم تجد ماتجيب به، فصمتت، ونظرت الى أسفلها. كانت مغطاة بثوب داكن الزرقة، لاتدرى من أين جاء.

    - إبنة من أنت؟

    عاد الرجل يسألها وقد جلس على أحد البنابر فى الجوار، فسكتت. وراح الرجل يتفحصها، ثم قال:

    - أرى آثار الحنة على يديك ورجليك، هل أنت متزوجة؟

    فاومأت برأسها ايجابا، فتشجع الرج وسأل:

    - من زوجك؟

    دخلتها حيرة, هى لاتدرى بالضبط من هو زوجها، فسكتت. دخلت إمرأة فى منتصف العمر، تحمل قدحا كبيرا، فيه عصيدة، مسقَّاة باللبن، وتفوح منها رائحة السمن البلدى. أحست بإمعائها يحركها الجوع، وراحت تأكل فى صمت، والرجل يتابعها بعينيه، وقد أعاد اللثام الى وجهه، بينما جلست المرأة بجوارها، على البرش، وراحت تتفحصها بعناية.

    تركوها، لحالها يوما أو بعض يوم، فنامت. ثم أفاقت على صوت المؤذن ينادى أن الصلاة خير من النوم. عندها أدركت أن الوقت فجرا، ثم تتالت الأحداث فى ذاكرتها، فأدركت لتوها فجيعتها فى أمها، وماسمعته عن مقتل أبيها، فراحت تبكى. وارتفع صوت بكائها، فدخلت عليها المرأة، وفى يدها فانوس، تشبحت شعلته قليلا،وراحت تهدئ من حزنها وتخخف عليها فاجعاتها. ثم دعتها إلى التيمم لأداء فرض الله. وخرجت قليلا ثم عادت لها بشاى اللبن، وبعض قطع الزلابية. هدأت قليلا وأكلت أقل، ثم شربت الشاى، وراحت تسأل أين هى.

    - أنت فى حلة بورانا فى وادى بيرة، أنا بنت بنقة، وزوجى الماهرى،الذى رأيتيه، تاجر تنباك، يأخذه باللوارى الى دار بحر، فيشترونه منه، وله زبائن كثيرون من التجار هناك.
    - أنا عندى خالة فى دار بحر، يقولون فى امدرمان، زوجها سمعت انه تاجر جلود وأريد الذهاب عندها
    - أكلم زوجى، والخير فيما إختاره الله.

    بعد عدة أيام جاء الماهرى يقول بانه وقع على من دله إلى أن زوج خالتها، تاجر معروف فى سوق الجلود بأمدرمان، وبما أن بضاعة له ستسافر باللوارى الى بحر ابيض، فيمكنها من هناك أن تركب القطار إلى الخرطوم، ثم الى أمدرمان بأية وسيلة للمواصلات، لتبحث عن الرجل. وزودوها ببعض الطعام، وشئ من المال، يعينها على منفقات الرحلة. ثم توكلت على الواحد الأحد وركبت فى أحد اللوارى بجوار السائق، الذى أنفق جل الرحلة يغنى بلغة، تفهم بعضها ويغيب عن فهمها أكثر مغناه. وتوقفت العربة مرات عديدة فى الطريق، إما لأجل التزود ببعض الماء والطعام، أو للراحة، ولكن غالب وقوفها كان بسبب موجات القئ الذى تكاثر عليها حتى أنها أصيبت بنزف حاد قبل الدويم بقليل. فاضطروا إلى أن يعرجوا بها الى حلة خارج المدينة، علهم يقعون على طبيب، فما وجدوا سوى قابلة عجوز، عرفت على الفور أنه لم يعد هنالك من رمق فى الجسد الممدد داخل الرحم الصغير. وأن حياة المرأة فى خطر إن لم تجهضها، ففعلت. وكان لزاما أن تبقى عندها بضعة أيام حيث لن تقوى على مواصلة السفر وهى فى تلك الحالة من الضعف، والهزال، فتركها السائق، هناك، تتدبر أمرها، وانطلق ببضاعته، إالى بلاد المجهول.

    بقيت عند المرأة عدة أسابيع، لاتدرى ماذا تفعل، فقد انقطع القليل من المال الذى زودها به الماهرى، وليس لها من سبيل الى الطعام والشراب إلا ماتجود به القابلة العجوز. التى قالت لها يوما إن فى مدينة الدويم متسع من ابواب الرزق، يمكنها أن تتقوى عليه حتى تجمع القدر من المال الذى يكفيها للذهاب الى أهلها فى أمدرمان. فوافقتها، وذهبت معها الى المدينة الكبيرة. حيث تركتها المرأة عند من قالت إنها شقيقتها، والتى أبدت ترحيبا كبيرا ومبالغا فيه بها. وقادتها الى غرفة من الطوب الأحمر المطلى بلون لم تألفه فى سابق ايامها، بها سرير كبير، نظيف الفرش، وعلى نوافذها تنسدل ستائر فاترة اللون، وبها دولاب كبير من الخشب. قالت لها إن هذه ستكون غرفتها، حتى يقضى الله أمراً كان مفعولا.

    إستسلمت لقدرها، فراحت تنفذ ماتأمرها به المرأة. وهى بطبعها، كانت سهلة مطيعة. ابوها جاءها برجل غريب، لاتعرفه، وأمرها أن تعاشره، ففعلت. وظل الرجل يؤلمها كل ليلة، قرابة العام. وشكت لأمها، ولكنها أمرتها بالصبر عليه، ففعلت. ثم جاؤها برجل آخر، وأمروها بمعاشرته، ففعلت. والآن، كل ليلة يأتونها برجل. وأحيانا بعدة رجال، ويأمرونها بمعاشرتهم، فكانت تفعل فى صمت، وتجلس اليهم، يداعبونها، ويتحسسون مواطن الفتنة فى جسدها، ثم يعرونها ويفعلون بها ما اعتادت عليه، منذ أن كانت عند أهلها، فلم تشعر بفرق كبير، ولا بإختلاف شديد، والأمر عندها كان سيان.

    عرفت رجال أغراب، يأتونها كل صباح، وكل مساء، وهم لايصدقون أن يجود عليهم الزمان بمثلها. دخلت للتو فى ربيعها السابع عشر، طرية الحال، أخاذة الجمال، سهلة المنال، وكانت القابلة العجوز قد أعادتها الى سيرتها الأولى، قبل الزواج، وليس لها من أهلها فئ، ولا من أمرها شئ، فجادوا بالمال والحلى، وبالطعام والشراب، أصنافا لم تعرف طريقها إلى مائدتها من قبل، وهى، هى، إبنة العز المدللة، وسليلة أغنى أغنياء بلدتها.

    كانت، وقد سال بعض المال فى يدها، قد رأت أن تبقى هنالك بضعة أيام، تجمع فيها مايكفى، ثمنا، لتذكرة القطار، ومصاريفا، لرحلتها المرجوة الى أمدرمان، ولكنها بقيت فى ذلك البيت مايزيد قليلا على الاربعين سنة!!

    كانت على عتبات الستين، حين تركت ذلك البيت، الى ودمدنى، حيث بقيت هنالك عشر سنوات أُخر، تفعل نفس ماكانت تفعله فى الدويم، ثم جاءت الى أمدرمان، وتنقلت بين أحيائها، وبيوتها، وكانت قد إعتادت بعض ما ظنته من متع الحياة، التدخين، والخمر. وأنفقت كل ما إدخرته فى سنيها الأُول على متعتها، التى أدمنتها، حتى نفذ ماكان تحت يدها من مال ومصاغ، فنبذتها البيوت التى عرفتها، والرجال الذين ألفتهم، وهامت ردحا من الزمان، تستجدى طعامها وشرابها، ثم تدحرجت قليلا، قليلا، حتى دخلت الزقاق، فبقيت فيه.
                  

العنوان الكاتب Date
مال منعم الجزولي لا ياتينا ويذهب الى القرية التي تلينا (يوجد ابداع) د.نجاة محمود09-10-11, 04:29 AM
  زقاق نسوان د.نجاة محمود09-10-11, 04:32 AM
    Re: زقاق نسوان د.نجاة محمود09-10-11, 04:33 AM
      Re: زقاق نسوان د.نجاة محمود09-10-11, 04:34 AM
        Re: زقاق نسوان د.نجاة محمود09-10-11, 04:35 AM
          Re: زقاق نسوان د.نجاة محمود09-10-11, 04:36 AM
            Re: زقاق نسوان د.نجاة محمود09-10-11, 04:37 AM
              Re: زقاق نسوان د.نجاة محمود09-10-11, 04:48 AM
                Re: زقاق نسوان محجوب البيلي09-10-11, 06:24 AM
                  Re: زقاق نسوان د.نجاة محمود09-14-11, 00:49 AM
                    Re: زقاق نسوان Huda AbdelMoniem09-14-11, 09:12 PM
                      Re: زقاق نسوان Huda AbdelMoniem09-14-11, 09:16 PM
                        Re: زقاق نسوان Al-Shaygi09-14-11, 09:42 PM
                        Re: زقاق نسوان د.نجاة محمود09-16-11, 09:19 AM
                          Re: زقاق نسوان د.نجاة محمود09-17-11, 04:14 AM
                            Re: زقاق نسوان Mohamed Abdelgaleel09-17-11, 09:30 AM
                              Re: زقاق نسوان Abd-Elrhman sorkati09-17-11, 02:09 PM
                                Re: زقاق نسوان د.نجاة محمود09-18-11, 06:22 AM
                                  Re: زقاق نسوان عبدالله الشقليني09-18-11, 12:58 PM
                                    Re: زقاق نسوان Elkhawad09-18-11, 01:23 PM
                                  Re: زقاق نسوان Abd-Elrhman sorkati09-18-11, 04:58 PM
                                    Re: زقاق نسوان د.نجاة محمود09-18-11, 05:09 PM
                                      Re: زقاق نسوان بله محمد الفاضل09-24-11, 12:09 PM
                                        Re: زقاق نسوان Rasha Swaraldahab09-24-11, 12:57 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de