|
Re: زقاق نسوان (Re: د.نجاة محمود)
|
(3)
جوزفينا أولينق مدينق.
وكعادة أهل المدن الكبيرة، كانوا، استسهالا، ينادونها شول.
إمرأة سبعينية، يابسة، كعود جراز محترق. سوادها تخالطه غبشة، تجعل لونها أقرب إلى الجير المتسخ.
زحفت ذات مساء الى الزقاق، تطلب الراحة، واتخذت لها مرقدا بجوار بالوعة الجزارة الكبيرة. ثم قليلا، قليلا، ألفت المكان، وألفها، فصارت من علاماته.
كانت صامتة طوال الوقت. وإن تكلمت لاتستهلك سوى كلمات قليلات. تتدثر بثوب داكن الزرقة، ممزق فى أكثر من موضع، ومتسخ جدا. تحته فستان، لاتستطيع تحديد لونه بالضبط. ولها من المتاع حقيبة حديدية صغيرة، لا تفتحها إلا نادراً وتتخذها وسادة تضع عليها رأسها حين تنام.
أعطيتها جنيها، فانفرجت أساريرها، وهرولت تشترى لنفسها رغيفا، وطعمية، من بائعة تجلس الى طبلية فى الجوار. وعادت تجلس فى مكانها تقضم طعامها فى صمت، فتركتها الى حال سبيلى.
جئتها بعد أيام وفى يدى بطانية حكومية سوداء، جديدة. أبدت فرحة عارمة، ومرة أخرى منحتها جنيهاً ، خطفته وهرعت الى ذات البائعة على الطبلية واشترت طعاما، وعادت الى مرقدها، تأكل، فى صمتها المعتاد، وأنا جالس بجوارها على البطانية، بعد أن فرشَتْها، وهيَّأتْها مرقدا. ثم فجأة التفتت إلىَّ وسألتى من أى المدن أنا.
إستغربت لسؤالها، وإن كنت قد استبشرت خيراً، بسنوح فرصة للأُنس معها. وقلت لها إننى من هنا، من نفس هذه المدينة، فهزت رأسها وسكتت. فسألتها من أين هى. فلم ترد. وأردت الذهاب فى حال سبيلى حين سمعتها تنادينى:
- هى.. إنت..
فالتفت اليها وعدت أجلس بجوارها. فتحت حقيبتها، فرأيت بداخلها فستانا أخضرا صغيرا، وحذاء من المطاط الأبيض، صغير جدا هو الآخر، يبدو أنهما يعودان لطفلة ما. وأخرجت صوراً فوتوغرافية بالأبيض وأسود، ناولتنى إحداها، فنظرت رجلا فى ملابس العسكريين، قميص على أكمامه شريط واحد، وسروال قصير تنحدر منه ساقان نحيلتان مغروزتان داخل حذاء عسكرى ضخم، وفى رأسه برنيطة عليها ريشات الى الجانب، ويمسك ببندقية ابوعشرة. يقف، كان أمام قطية من القش، وفى خلفية الصورة كثير من الأشجار. ثم ناولتنى صورة أخرة لذات الرجل، وبنفس ملبسه، يقف بجانب فتاة، تامة النضج الأُنثوى، حلوة التقاطيع، تقف مبتسمة، وادعة. وإلى يسار الصورة يبدو جانب من نفس القطية فى الصورة الأُولى، وبضع دجاجات سمينات الى الخلف قليلا.
نظرت إليها مستفهما، فقالت:
- زوجى.
صمتت فترة ليست بالقليلة، فناديت بائعا للعصير يحمل جردلا، ويحوم بين زقاقات السوق، واشتريت لها ولنفسى كوبين. شربت كوبها دفعة واحدة ونظرت إلى، فطلبت لها كوبا آخر، شربته على ثلاث دفعات، ثم مسحت فمها بطرف ثوبها.
صمتت قليلا، ثم تداعت تحكى قصتها.
تزوَّجَتْ فى بور من الوكيل عريف جعفر الفحل، من أهالى شندى، وكان قائدا لجماعة، ضمن فصيلة عسكرية ترابط بالجوار، وتتبع الفرقة الأولى. كانت قد دخلت توها لمرحلة النضج، فانتقل بها الى أويل، ومنها الى مريدى، فيامبيو وجوبا، وأخيرا نقلوه الى القيادة الشمالية فى شندى، فأسكنها عند أهله فى المسيكتاب.
عانت عند أهله معاناة شديدة، ونادوها منذ اليوم الأول بالخادم، وبالغلفاء، وبنعوت أُخر. وجافوها، لايزورها أحد ولاتزور. فعاشت عزلة شديدة حتى أنها كانت تخشى أن تسير الى الكنتين فتتعرض للسخرية. وأخيرا إنتقلت إلى الإشلاق بعد أن أخلى أحدهم بيته بسبب النقل الى جهة ما.
وضعت ابنتها الوحيدة فى بيت الإشلاق وسمَّوها ليلى، ويوم ان أكملت عامها الأول، مات أبوها!! إنقلبت بهم عربة جهات الميجة، فمات مع ثلاثة آخرين.
نازعها أهل زوجها فى المكافئة، وفى المعاش، قالوا إن الشرع يوجب تعصيم الطفلة!! فذهبت تتشكى الى اليوزباشى صمويل، الذى أنصفها وقال لهم إذهبوا للمحكمة. ثم استعجل صرف مكافئتها، وكانت ثلاث وتسعون جنيها وأربعين قرشا وخمسة ملاليم، صرفتها كاملة، ثم حجز لها فى القطار المتجه الى الخرطوم، هى وطفلتها، فى الطريق الى أهلها فى قريتها خارج بور. وسلمها خطابا إلى قائد الحامية هناك، لتدبير أمر أن يصلها معاشها شهريا.
فى رحلة بين القطار، والوابور من كوستى، ثم العربات من ملكال، وتعطلات فى الطريق أكثر من مرة، بسبب الخريف. وأخيرا... لم تجد من قريتها إلا بعض حطام، وآثار حريق كبير. ولاتعرف إلى أين تفرق أهلها. وذهبت الى الحامية تحمل خطاب اليوزباشى، فقابلها ضابط شاب بنجمتين على كتفه، وشتمها وشتم أهلها ومزق الخطاب وطردها.
فى ملكال، حيث عادت بنفس الدرب، لتشتكى، لم تجد معاملة أحسن من الأولى.. وفى كوستى مرضت طفلتها وماتت. وكان مالها قد تناقص بشكل مريع. عادت الى شندى تبحث عن اليوزباشى صمويل، فقيل لها أنه انتقل الى القيادة العامة. وفى الخرطوم منعوها حتى من دخول القيادة، ولم تجد من تشتكى له، ولا من لديه الإستعداد أصلا ليقف ويسمعها.
فتدحرجت قليلا ..قليلا حتى وجدت لها مرقدا فى الزقاق، فسكنته.
جئت فرحا ذات صباح لأبشرها بان العميد بيومى فى الشؤون المالية بالجيش يرغب وبشدة فى مساعدتها لكى تحصل على معاش زوجها. كان مرقدها خاليا من أى أثر لها. سألت هيكلا متآكلا ترقد فى الجوار، فلم تعرف عمن أتكلم، ثم استدركت أخيرا:
آآآه...تقصد الخادم؟!! ماتت.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
مال منعم الجزولي لا ياتينا ويذهب الى القرية التي تلينا (يوجد ابداع) | د.نجاة محمود | 09-10-11, 04:29 AM |
زقاق نسوان | د.نجاة محمود | 09-10-11, 04:32 AM |
Re: زقاق نسوان | د.نجاة محمود | 09-10-11, 04:33 AM |
Re: زقاق نسوان | د.نجاة محمود | 09-10-11, 04:34 AM |
Re: زقاق نسوان | د.نجاة محمود | 09-10-11, 04:35 AM |
Re: زقاق نسوان | د.نجاة محمود | 09-10-11, 04:36 AM |
Re: زقاق نسوان | د.نجاة محمود | 09-10-11, 04:37 AM |
Re: زقاق نسوان | د.نجاة محمود | 09-10-11, 04:48 AM |
Re: زقاق نسوان | محجوب البيلي | 09-10-11, 06:24 AM |
Re: زقاق نسوان | د.نجاة محمود | 09-14-11, 00:49 AM |
Re: زقاق نسوان | Huda AbdelMoniem | 09-14-11, 09:12 PM |
Re: زقاق نسوان | Huda AbdelMoniem | 09-14-11, 09:16 PM |
Re: زقاق نسوان | Al-Shaygi | 09-14-11, 09:42 PM |
Re: زقاق نسوان | د.نجاة محمود | 09-16-11, 09:19 AM |
Re: زقاق نسوان | د.نجاة محمود | 09-17-11, 04:14 AM |
Re: زقاق نسوان | Mohamed Abdelgaleel | 09-17-11, 09:30 AM |
Re: زقاق نسوان | Abd-Elrhman sorkati | 09-17-11, 02:09 PM |
Re: زقاق نسوان | د.نجاة محمود | 09-18-11, 06:22 AM |
Re: زقاق نسوان | عبدالله الشقليني | 09-18-11, 12:58 PM |
Re: زقاق نسوان | Elkhawad | 09-18-11, 01:23 PM |
Re: زقاق نسوان | Abd-Elrhman sorkati | 09-18-11, 04:58 PM |
Re: زقاق نسوان | د.نجاة محمود | 09-18-11, 05:09 PM |
Re: زقاق نسوان | بله محمد الفاضل | 09-24-11, 12:09 PM |
Re: زقاق نسوان | Rasha Swaraldahab | 09-24-11, 12:57 PM |
|
|
|