|
Re: التغيير (Re: adil amin)
|
الثورة الثقافية الثورة:
الثورة ، في معناها العام ، هي الحركة ، الحسية و المعنوية ، من أجل التغيير .. و قد لازم العنف هذه الحركة في جميع أطوار نشوء المجتمع البشري .. و ذلك لأن المجتمع البشري قد نشأ في الغابة .. و كان قانونه قانون الغابة ، الذي لا نزال نعيش في أخريات أيامه .. و قانون الغابة إنما يعطي الحق للقوة .. و فيه القوة تصنع الحق ، و تتقاضاه .. فهي لا تحتاج إلى قانون ينص على حقها .. و لا تحتاج إلى قضاة يقضون لها بذلك الحق .. و إنما هي ، في حد ذاتها ، القانون و القضاء .. و منذ أن بدأت حركة المجتمع في هذا الوضع المهين بدأت الرغبة في التغيير تدب في صدور الضعاف .. و لكن هذه الرغبة لم يكن هناك سبيل إلى إبدائها .. و كانت كلما بدت تجد من العنف ما يضطرها إلى الإختفاء ، و ما يكبتها كبتاً .. و قد أصبح الضعاف ، وهم فريسة القوي ، يحتالون للتغيير إحتيالاً ، بالمراوغة و بالمداهنة ، و بالتملق ، في أغلب الأحيان ، إذ تعييهم القدرة على المناجزة .. ثم هم ، حيث وجدوا للمناجزة سبيلاً ، ناجزوا .. و بين الأقوياء ، فيما بينهم ، ثورات عنف ، تتخذ صور الحروب ، لأنها نزاع على السلطة ، أيهم يملك ، و أيهم يسود .. وقد ربى هذا العنف العنيف أفراد المجتمع البشري ، عبر التاريخ ، تربية لم يكن منها بد .. بل أنه ، على التحقيق ، ما كان للقيم البشرية أن تمخض من المستوى الحيواني إلا بفضل الله ، ثم بفضل هذا العنف ... و لقد تصور بعض المفكرين الإجتماعيين أن المجتمع إنما نشأ في صورة شركة تعاقد الناس على إقامتها ، و أسهم كل فرد من أفراد المجتمع بسهم من حريته ليكون رأسمال الشركة. هذه الصورة ، في جملتها ، مقبولة .. و في تفصيلها نظر .. و هذا النظر لم يكن غائباً على المفكرين الإجتماعيين هؤلاء ، و لكنهم أرادوا أن يبسطوا المسألة لتجد طريقها إلى الأذهان .. النظر في التفصيل يظهر أن الضعاف لم ينزلوا عن حريتهم في الإختيار و إنما صودرت حرياتهم بتسلط الأقوياء عليهم و من هذه البداية ، الموغلة في البدائية ، بدأت سلسلات الحروب ، و سلسلات الثورات .. و كانت الحروب سابقة للثورات .. و الفرق بين الثورة و الحرب: أن الحرب صراع بين الأقوياء على إمتلاك الضعاف ، هذا في أغلب صورها ، و الثورة إنتقاض من الضعاف على الأقوياء لإسترداد الحقوق و الإمتيازات التي إستولى عليها الأقوياء ، و رفضوا أن يتنازلوا عنها .. و معلوم أن الطبيعة البشرية فيها الشح ، و الحرص ، و منع ما تملك ، و لذلك فقد كان الأقوياء يواجهون حركات الضعاف بالكبت العنيف ، مما إنتهى بأغلب الثورات إلى الهزيمة ، و التصفية ، والوقيعة بزعمائها .. و هذا ، في حد ذاته ، أكسب الضعاف خبرة ، و مرانة على التنظيم ، و حذراً في التنفيذ ، و عنفاً عنيفاً صحب الفشل ، و صحب النجاح .. حتى لقد تعدى هذا العنف العنيف أعداء الثورات إلى أبنائها .. و لقد أصبح معروفاً عن الثورات أنها ، حين تنتصر على خصومها تأكل أبناءها. و في أيامنا الأخيرة هذه أكبر المفلسفين لثورات العنف كارل ماركس .. فكارل ماركس أبو الإشتراكية المطبقة في العالم اليوم ، سواء أكانت سوفيتية ، أم صينية ، أم في أيٍ من الدول التي تسير في فلك أيٍ من هاتين الدولتين ..و هو قد فلسف العنف ، و رفض التطور الوئيد ، الذي يدعو إلى التغيير عن طريق القوانين .. فلم يكن كارل ماركس أول داعية إشتراكي ، و إنما وجد معاصر له و سابق عليه بقليل ، هو روبرت أوين ، الصانع الإنجليزي ، الثري ، المحسن .. فقد كان روبرت أوين هذا أول داعية للإشتراكية الحديثة .. و كان ذلك عام 1820 .. و كان روبرت أوين يؤمن بإمكان تحقيق التحسين الإجتماعي ، و الإقتصادي ، عن طريق الوسائل الإختيارية و الدستورية الوئيدة ، و المستمرة ، التي تجنب الشعوب الشرور التي تسير في ركاب التغييرات الثورية العنيفة ، و بخاصة السيئة الإعداد منها .. و حين كان إصطلاح (الإشتراكية) متداولا في بريطانيا ، بفضل روبرت أوين هذا ، كانت كلمة (الشيوعية) متداولة في فرنسا .. و كلمة (الشيوعية) هذه مشتقة من كلمة لاتينية معناها (عام) أو (مملوك للجميع) .. و لقد إستخدمت في أول الأمر حوالي عام 1835 .. بواسطة الجمعيات الثورية السرية الفرنسية ، التي كانت ترمي إلى قلب الطبقة الوسطى بالعنف ، ثم السيطرة على فرنسا بهدف إنشاء إقتصاد يكون فيه جميع المتاع المنتج مملوكاً للشعب و تكون فيه طبقة العمال هي العنصر الحاكم .. و دخل كارل ماركس في الصورة ، و أخذ يدرس ، و يرصد ، و يطور أفكاره على أساس النظريات ، و التطبيقات الإشتراكية ، و الشيوعية المختلفة .. و كانت دراسته هذه في بريطانيا .. و كان يرفض أفكار روبرت أوين ، و يزري بها ، و يصفها بالمثالية .. و يقرر ، في وضوح ، أنك لا تستطيع أن تقنع من أغتصب حقك بالتخلي لك عنه بالوسائل السلمية .. و لذلك فقد فضل إصطلاح الشيوعية ، و إختاره ليصف به أفكاره ، لأن هذا الإصطلاح قد كان مرتبطاً بفكرة تغيير المجتمع بالعنف .. و كان هذا هو رأي كارل ماركس أيضاً .. و كان ماركس يقيم مذهبه على أربعة مبادئ:ـ 1ـ مجرى التاريخ تتحكم فيه القوى الإقتصادية. 2ـ التاريخ ما هو الإ سجل لحرب الطبقات. 3ـ الحكومة ما هي الإ أداة تستخدمها طبقة في إضطهاد طبقة أخرى. 4 ـ العنف و القوة هما الوسيلتان الوحيدتان لتحقيق أي تغيير أساسي في المجتمع. و على هذه المبادئ ، و وفاءً بها ، ظل ماركس ، منذ كتاباته الأولى ، يهاجم بإلحاح التجارب الإشتراكية ، كالتي كان يرعاها روبرت أوين ، و يصفها بأنها غير علمية ، و غير واقعية ، لأن التاريخ كما هو واضح في رأيه ، قد سار على قوانين عامة قاسية ، و أن تغييراً إجتماعياً جوهرياً بغير طريق القوة والعنف لا يمكن أن يتم .. ولهذا فقد سخر بإعتقاد أوين و غيره من الإشتراكيين بإمكان إصلاح إجتماعي عن طريق الزمالة ، و التعاون ، والتطور الوئيد .. و كان يسمي عملهم هذا بالإشتراكية: "المثلى" و يهتم كثيراً بالتفريق بينها و بين مذهبه هو ، و يسمي مذهبه الإشتراكية "العلمية" أو "الشيوعية" .. و قد توصل كارل ماركس إلى رأيه هذا عن طريق ملاحظة تطور المجتمع البشري ، و هو يخرج من الغابة إلى المدينة .. و ملاحظته ذكية ، ما في ذلك ريب ، و لكنها خاطئة أيضاً حين ظنت أن مستقبل البشرية يمكن التنبؤ به من رصد ماضيها ، و إستقراء تطور هذا الماضي .. و ذهل ماركس عن حقيقة كبرى ، تلك الحقيقة هي أن حاضر المجتمع البشري ، في أي لحظة من لحظات تطوره ، إنما يصنعه تفاعل و تلاقح بين قوى المستقبل ، و قوى الماضي .. هذه القوى التي تجئ من المستقبل ، هي التي تعين على تطوير الماضي ، و تحفز و توجه ، خطوات التغيير فيه .. هذه القوى توفر على تقريرها الدين ، ذلك الدين الذي رفضه كارك ماركس ، رفضاً تاماً ، و من ههنا تورطت أفكاره في الخطأ . لقد كان روبرت أوين يحلم بعهد لم يكن وقته قد حان ، يومئذ ، و من ههنا فقد كان "مثالياً" كما وصفه ماركس .. .. و كان ماركس يترجم عن وقته أكثر مما يفعل روبرت أوين .. فقد كان حكم الوقت يومئذ يتطلب القوة و العنف معاً .. و لولا أن العنف ليس أصلاً في العلاقات الإنسانية ، و إنما هو مرحلة يتخلص منها الإنسان كلما بعد عهده بعهد الغابة ، و كلما نزل منازل القرب من عهد المدينة ، لولا أن هذا لكان كارل ماركس محقاً كل الإحقاق .. و لقد أصبح تفكير كارل ماركس بسبب هذا الخطأ الكبير ، تفكيرا مرحلياً .. و هو اليوم على عهدنا يمثل حقبة ضرورية في مراحل تطور المجتمع البشري لكي تدخل عهدها الجديد .. إن القوة أصل ، و لكن العنف ليس بأصل .. و لا بد من إخراجه من معادلة التغيير التي صاغها كارل ماركس في النقطة الرابعة من نقط مبادئه التي ذكرناها ، تلك النقطة التي تقول: "العنف و القوة هما الوسيلتان الوحيدتان لتحقيق أي تغيير أساسي في المجتمع" و لقد ذكرنا في كتابنا بإسم: "لا إله إلا الله" الذي صدرت الطبعة الأولى منه يوم 25 مايو 1969 ، في مقدمته ، تحت الكلام عن "ثورة أكتوبر" ما يأتي: ـ (إن ثورة أكتوير ثورة فريدة في التاريخ ، و هي لم تجد تقويمها الصحيح إلى الآن ، لأنها لا تزال قريبة عهد ، فلم تدخل التاريخ بالقدر الكافي الذي يجعل تقويمها تقويماً علمياً ممكناً .. و لقد يكفي أن يقال الآن أنها ثورة فريدة في التاريخ المعاصر تمكن بها شعب أعزل من إسقاط نظام عسكري إستأثر بالسلطة مدى ست سنوات .. ثم كانت ثورة بيضاء ، لم ترق فيها الدماء .. و كانت ، إلى ذلك ، ثورة بغير قائد ، و لا مخطط ، وبغير خطباء ، و لا محمسين للجماهير .. و تم فيها إجماع الشعب السوداني ، رجالاً و نساء ، و أطفالاً ، بشكل منقطع النظير ، فلكأنها ثورة كل فرد من أفراد الشعب تهمه بصورة مباشرة ، و شخصية .. و لقد كانت قوة هذه الثورة في قوة الإجماع الذي قيضه الله لها. و لقد كان من جراء قوة هذا الإجماع ، و من فجاءة ظهوره ، أن إنشل تفكير العساكر فلم يلجأوا إلى إستعمال السلاح ، مما قد يفشل الثورة ، أو يجعلها ، إن نجحت ، تنجح على أشلاء ضحايا كثيرين. و عندنا أن أكبر قيمة لثورة أكتوبر .. أن الشعب السوداني إستطاع بها أن يدلل على خطأ أساسي في التفكير الماركسي ، مما ورد في عبارة من أهم عبارات كارل ماركس ، في فلسفته ، فيما عرف "بالمادية التاريخية" وتلك العبارة هي قوله: "العنف و القوة هما الوسيلتان الوحيدتان لتحقيق أي تغيير أساسي في المجتمع" فما برهنت عليه ثورة أكتوبر هو أن القوة ضرورية للتغيير ، و لكن العنف ليس ضرورياً .. بل أن القوة المستحصدة ، التامة تلغي العنف تماماً .. فصاحبها في غنى عن إستخدام العنف و خصمها مصروف عن إستتخدام العنف بما يظهر له من عدم جدواه .. و حين تنفصل القوة عن العنف يفتح الباب للبشرية لتفهم معنى جديداً من معاني القوة ، و تلك هي القوة التي تقوم على وحدة الفكر ، و وحدة الشعور ، بين الناس ، بعد أن لبثت البشرية في طوال الحقب لا تعرف من القوة إلا ما يقوم على قوة الساعد و قوة البأس .. و مفهوم القوة بهذا المعنى الأخير ، هو تراث البشرية من عهد الغابة .. عهد الأنياب الزرق ، و المخالب الحمر .. و هذا المفهوم هو الذي ضلل كارل ماركس ، فأعتقد أن مستقبل البشرية سيكون صورة لإمتداد ماضيها ، و غاب عنه أن العنف سيفارق القوة ، بالضرورة ، في مستقبل تطور الإنسان ، حين يصبح الحق هو القوة . و مهما يكن من الأمر ، فإن شعب السودان ، في ثورة أكتوبر ، قد كان قوياً بوحدته العاطفية الرائعة ، قوة أغنته هو عن إستخدام العنف ، و شلت يد خصومه عن إستخدام العنف .. و تم بذلك إلغاء العنف من معادلة التغيير الماركسي .. إذ قد تم التغيير بالقوة بغير العنف .. و هذا ، في حد ذاته عمل عظيم و جليل .. و ثورة أكتوبر ثورة لم تكتمل بعد .. و إنما هي تقع في مرحلتين نفذت منهما المرحلة الأولى و لا تزال المرحلة الثانية تنتظر ميقاتها . المرحلة الأولى من ثورة أكتوبر كانت مرحلة العاطفة المتسامية ، التي جمعت الشعب على إرادة التغيير ، و كراهية الفساد ، و لكنها لم تكن تملك ، مع إرادة التغيير ، فكرة التغيير حتى تستطيع أن تبني الصلاح ، بعد إزالة الفساد .. من أجل ذلك إنفرط عقد الوحدة بعيد إزالة الفساد ، و أمكن للأحزاب السلفية أن تفرق الشعب ، و أن تضلل سعيه ، حتى وأدت أهداف ثورة أكتوبر تحت ركام من الرماد ، مع مضي الزمن .. و ما كان للأحزاب السلفية أن تبلغ ما أرادت لولا أن الثوار قد بدا لهم أن مهمتهم قد أنجزت بمجرد زوال الحكم العسكري ، و أن وحدة صفهم قد أستنفدت أغراضها. و المرحلة الثانية من ثورة أكتوبر هي مرحلة الفكر المستحصد ، العاصف ، الذي يتسامى بإرادة التغيير إلى المستوى الذي يملك معه المعرفة بطريقة التغيير .. و هذه تعني هدم الفساد القائم ، ثم بناء الصلاح مكان الفساد .. و هي ما نسميه بالثورة الفكرية .. فإن ثورة أكتوبر لم تمت ، و لا تزال نارها تتضرم ، و لكن غطى عليها ركام من الرماد .. فنحن نريد أن تتولى رياح الفكر العاصف بعثرة هذا الرماد .. حتى يتسعر ضرام أكتوبر من جديد ، فتحرق نارها الفساد ، ويهدي نورها خطوات الصلاح .. و ليس عندنا من سبيل إلى هذه الثورة الفكرية العاصفة غير بعث الكلمة: " لا إله إلا الله" جديدة ، دافئة ، خلاقة في صدور النساء ، و الرجال ، كما كانت أول العهد بها ، في القرن السابع الميلادي) .. هذا ما جاء في ذلك الكتاب في محاولة لتخليص ثورة أكتوبر من العنف.
|
|
|
|
|
|
|
|
|