رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction"

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-09-2024, 07:22 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2011م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-06-2011, 03:01 AM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5472

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    ***5***



    -"............ تفضلى من هنا أيتها الحسناء ، بهدوء ، أرجو ألا يثير هذا الصبى أي ضوضاء ، عليك أن تذكري دائما أن وجودك على ظهر هذه الباخرة غير شرعي؛ لذا عليك أن تحذري كل الحذر، وأن تجدي طريقة حكيمة للتعامل مع هذا الصبي؛ لكي لا يثير لك ولي المتاعب؛ فأن القبطان إذا علم بوجودكما هنا ربما تكون العواقب وخيمة".
    هكذا أطلق الطباخ البدين تحذيره الأول.
    طأطأت فاتومة رأسها:
    -" سألتزم قطعاً بالهدوء، سألزم به ابني أيضاً، وسيكون دائماً تحت ناظري".

    فاتومة و الطفل مادي، كانا يختبئان فى الغرفة الصغيرة، ذات السرير الخشبى الصغير وهى الغرفة المخصصة أصلاً للطباخ . كانت عينا فاتومة دامعتين عندما أصيب الطفل بدوار البحر وأخرج كل ما فى أحشاءه: قطعة موز، شريحة مانجو وحوالى ربع رطل من خبز الدخن المقدد.
    مسحت فاتومة أرضية المكان بفستانها الأزرق الذى استبدلته لتوها بآخر أكثر رونقاً. كانت تحب أن تكون جميلة حتى فى مثل تلك الظروف .
    كان الرجل البدين ثملاً عندما كرر تحذيره السابع عشر والأخير بلهجة لا تشى بالخير:
    -" لقد كاد القبطان أمسية البارحة فضح أمرك وأبنك.. كنت تشخرين بصوت مسموع. أنت تشخرين!.. أنا أخشى على نفسي. المال الذى دفعتين لي لا يعنى شيئا.. سأفقد وظيفتي بكل بساطة.. عليك أن تجدي وسيلة.. لا تنامي.. تصرفي!". ثم لاطفها زيفاً ومارس معها الحب قسرا. قال لها أن كل ذلك ربما ساعدها على عدم النوم حتى الوصول إلى بر الأمان.
    استطاعت فاتومة أن تصمد صحواً ثمان وأربعين ساعة لا أكثر. ثم ما لبث أن صدرت من حلقها أصوات مسموعة، تصادمت بأركان عديدة فى جوانب الباخرة ، اختلطت بموج البحر؛ ملح البحر و حتى القاع. كان الطفل مادي هادئاً فى نومته تلك كصحوه، عندما ألقى الطباخ البدين بجسد أمه فى قاع المحيط ، ليحتفظ بوظيفته طباخا بدينا. فقد مادي أمه بمثل تلك البساطة. غير أن الطباخ كان كريماً مع الطفل في ظاهر الأمر، فهدأ من روعه، فعل به ما فعل ولاطفه وكذب عليه:
    -"أمك نزلت فى جذر الكناري! عندما كنت أنت نائماً ، قالت إنها ستلحق بنا بالباخرة القادمة، أظنها نزلت للتبضع ، هل أنت جائع؟ ".
    -" لا!".
    -"أتريد أن تشرب قليلا من الماء ؟".
    -" نعم !".
    انتحب الطفل في صمت، لكنه صدق رواية الطباخ، صدقها لأنها الرواية الوحيدة التى سمعها عن اختفاء أمه، ولأنه لا يستطيع أن يتصور موتها. لكن فاتومة لم تلحق بهم فى أي من البواخر العابرة. لم تلحق بمادي فى عنوانه الأخير بامستردام. و لن تلحق به أبداً بهيئتها المعتادة لان الحوت نال منها وأكل من وجهها الملامح. ولما وجدوا بعض فاتومة طافياً بعد ثلاث أيام فى نقطة ما من وجه الماء واروا ذلك البعض فى بقعة ما من وجه الأرض .

    في اللحظة التالية بينما تهيأ مادي لرفع رأسه في اتجاه السلم الخشبي كي يلقي نظرة وداع علي مؤخرة الآنسة سو المكتنزة، شعر بوخز عنيف في رأسه لكنه عابر. انفجرت محتويات ذاكرته و كأنها بالون صغير شك بدبوس حاد. فلم يقوى علي رفع رأسه لمدة خمس عشرة ثانية. استكان آنها لهول الانفجار، وكأنه يحاول عبثا غسل جرح متقيح لكن لا يدري مكانه على وجه الدقة، مما يستدعي غسل الجسد كله، فانفتح عقله فى كل إتجاه يستحضر الماضي ويعرضه بقدر المدى الذي تتيحه الذاكرة في زمن قياسي كلمح البرق. أشياء رآها بعينيه ساطعة تارة ، مشوشة تارة أخرى، رواها أبيه عن نفسه أو كتبها من مثل مشاكله مع السلطات اليمينية في السودان وفراره إلى بورجوازا؛ (الأوراق التى قرأها على مستر دافريز) ، أشياء أخرى عديدة، أشياء سمعها من أمه وأشياء سمعها من آخرين أو جربها بنفسه.

    الأب أختفى، لكنه ترك وصية تؤكد حدسه فى قدر اختفائه، وخلف ثلاث أصابع من قدمه اليسرى؛ مبعثرة على مقربة من سور الدار الخارجي تعرفت عليها فاتومة؛ فى نفس اللحظة التى تصادف وأن نظرت اليها، فأصابها ذهول؛ لم تستطع الحراك لبعض الوقت، وامتلأ وجدانها بالحزن لكل الوقت.
    قرأ مادي علي صديقه مما كتب والده المعلم نصر الدين الولي:

    "............". "كنت اعمل بكل ما أملك من مقدرة على محاولة تغيير الواقع الإجتماعي والاقتصادي فى السودان بشكل حاسم بكل الوسائل الممكنة بدءً بتغيير السلطات اليمينية المتشددة.........". "...............". "وكان لزاما علينا.........". " الصراع......الطبقي...... الفقراء......هزيمة......الطفيلية......الثورة."
    كتب نصر الدين الولي أشياء لم تعد مقروءة، طمسها الماء ، حوالى سبع صفحات لم يظهر منها بشكل جلي غير عبارة واحدة مكررة ومكتوبة بخط مركز وفي لون مختلف، هى عبارة:
    "كان لزاماً علينا النهوض بالمشروع التقدمي.... التنويري" .
    وقرأ مادي مواصلاً :

    "المهم فى الأمر حكم علي بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة وسأكمل القصة : تظاهر الجنود وكأنهم قد اختلفوا فى قيمة أمر إعدامي ، جاءني أحدهم وقال لي :
    -"كلام أخير أتقبل التعاون أم لا، أجب، أعلم انك لن تجد بعد ذلك فرصة للندم ".

    كنت حينها أود أن أتخلص بالموت وعاجلاً!.
    فأجبته بلا كبيرة. لطمني على وجهي بقوة حتى أغمي علي لبضع دقائق، كنت اعلم أن التعاون المعني شيء لا أطيقه؛ أن أكون عضواً فى جهاز الأمن السياسي؛ وأن أمارس القهر ضد الثوار التقدميين من زملائي وضد كل مختلف عن ما يدعونه حكومة الثورة المقدسة.
    أوثقوني على شجرة كبيرة بحبل من حول البطن تاركين يدي حرتين، جعلوني على هذا الحال حوالي ساعتين ثم جاءوني مره أخيرة ، فقالوا:
    -"بماذا توصي قبل موتك؟".
    قلت:
    -"لا شيء!".
    قالوا:
    -"أتريد أن تصلي!".
    قلت:
    -"لا".
    فغرز أحدهم قبضته في بطني قائلا:

    -"ستموت على سوء الخاتمة ..وحتى لو صليت فإن الله لن يغفر لكائن مثلك!".

    ثم أطلق ثلاث عيارات وهمية ذات دوي عال، كنت أتصور أنها عيارات حقيقية قد اخترقت جسدي، فالقتل ليس شيئا مستغرباً أو مدهشاً فى عالم هؤلاء القوم رأيته في الحقيقة كما يراه البعض في الأفلام السينمائية. لدقيقة كان وجوم. حسبت أنني مت!. لكن وجدتني اسمع أصواتاً ما ،و أستطيع أن أحرك أصابع يدي. كنت أترقب بفظاعة كيف أن روحي ستنفصل عن جسدي ،و بشكل لا إرادي انتفضت بقوة ، خلعت العصابة عن عيني، أخذت أتحسس صدري ، أترقب ثمة دم ما كثيف قد ينهمر من منطقة ما فى جسدي ، ربما كان الرأس تلمسته، لكن لا دم وأنا ما أزال حي برغم العيارات التى أطلقت على جسدي.
    عندما أخذ الجنود يقهقهون ويهزءون بي، عندها أدركت أن فى الأمر معنى آخر ، لم يكن المقصود فصل الروح عن الجسد بالمعنى التقليدي المعروف ، كان محاولة لفرز الإرادة عن الروح بشكل مبتكر فى سبيل أن يتحول الإنسان إلى حيوان داجن حيث تسلب الإرادة علة التمرد والثورة".

    "تمكنت أخيرا من تخليص نفسي من السجان، كان الحظ ولو لمرة واحد حليفي. كنا نعمل فى شق طريق صخري فى أعالي جبل مرة فى غرب السودان؛ حوالي مائتي سجين. استأذنت من أحد الجنود الأغبياء وكان ثملا:
    _"سأذهب لأقضي حاجتي تحت تلك الشجيرات".
    ضربني بعصاه على ظهري موافقاً وحذرني بصوت غليظ:
    -" سأراقبك من هنا ، عندك دقيقة واحدة للعودة إلى عملك".
    لم نلزم ذلك اليوم بارتداء الزي الخاص بالسجناء بمناسبة عيد التحرير الوطني. كان الحراس يحتفلون بطريقتهم الخاصة؛ باحتساء العرقي _كحول محلي- من قناني يدسونها في جيوب بزاتهم ويرددون أناشيد تمجد انتصارات وطنية زائفة. دحرجت جسدي فى لمح البصر إلى اسفل التل ، هرعت إلى طريق الشاحنات القريب حوالي كيلومتر واحد جهة منطقة زالنجي ، لم أوفق طوال وقت كبير من القلق فى إقناع أحدهم لحملى بعيداً عن ذاك المكان المشبوه، صعدت شجرة هجليج كبيرة وغزيرة؛ حشرت نفسى بين أغصانها، كانت تربض فوق رأسي أسراب من العصافير تشقشق بتوحش، وكل ما أحست بوجودي تصمت مجفلة. ظللت حتى منتصف الليل، ثم سلكت -راجلاً- طريقاً مختلفاً، ضد اتجاه السكنى، مشيت ومشيت حتى مطلع الفجر ، وصلت صباحاً قهوة صغيرة، كان حراسها نائمين، تمكنت بعد قليل انتظار من إقناع سائق شاحنة قال انه ذاهب إلى منطقة منواشي :
    -" ليس بعيداً ."
    وضعت هدفاً واحد فى رأسي هو حريتي الشخصية. لقد تعبت من السجن، الملاحقة والتعذيب ، أريد أن أعيش حياة هادئة وآمنة لمرة واحدة . كنت اعرف جيدا أن مثل هذه الحياة لن تكون إلا بالفرار عن قبضة السلطة المركزية، والانزواء بعيداً فى مكان مختلف أستطيع العيش فيه دون أن يتعرف على هويتي أحد . كان هذا الخيار مؤلماً لي، لكن حسبته اقل إيلاما من عذاب السجن وغباء حراسه . إلى أين اذهب ؟ كيف؟

    كانت تلك هى الأسئلة الصعبة. وتلوح فى خاطري بورجوازا كالحلم المضيء ، برغم سوء ما قرأت وسمعت عن أمرها . ذلك وحده هو المكان الذى ظننته يناسب واقعى المؤسف . تقمصت شخصية معلم مدرسة ابتدائية مبعوث إلى مدرسة بلدية الجنينة -أقصى غرب السودان-؛ بواسطة وزارة التعليم المركزية في الخرطوم؛ كي أنال تعاطف الناس الذين أتوقع مساعدتهم لي فى طريقي -الصعب- مجهول النهايات. وصلت مدينة الجنينة فى نهاية نهار الخميس، استقبلني الدملج بحر الدين الدملج زقل إبن عمدة المدينة السابق. عمدت بقصد مرتب إلي طرق بابه. قلت له فى البدء ما يخالف الحقيقة:
    -" أنا مدرس مرحلة ابتدائية مبعوث من الخرطوم لأعلم أولادكم ".
    ولأنى بالطبع لا أملك ما يؤكد صحة هذا الزعم، تذرعت بطريقة ناجحة أمام الدملج:

    -" كل أوراقى الخاصة بالبعثة وبطاقتي الشخصية سرقت مع بعض المال الذى كان يلزمني للوصول إلى هنا؛ ومن ثم تسوية الأمور مع بلدية المدينة".
    رد الدملج بأسي حقيقى :
    -" يا لهؤلاء اللصوص المجرمون كيف يسرقون معلم أبناءنا ، لكن لا عليك سأقوم باللازم ، أنت ضيفي ولن يصيبك البأس طوال إقامتك عندي".
    فى المساء نحر الدملج خروفاَ على شرف ضيفه المدرس وأحضر "العرقي". شربت بشراهة رجل اعتاد الشرب كلما سنحت له الفرصة، وأصبحت ثملاً بدرجة لم تتح لي الإمساك بذمام التستر على حقيقة أمري. أعلنت بطريقة فاضحة :
    -" أنا هارب من السجن ولا أريد العودة إليه".
    قلت للدملج كل شيء:
    -" هدفي هو الفرار إلى بورجوازا، إلى مكان غريب وزمان مختلف! ".

    طلبت منه أن يغفر لي تضليلي له، بالتستر على الحقيقة الواقعة ورجوت مساعدته . أذكر أن الدملج ابتسم ثم تنهد وقال لي :
    -" أتظن أنني لم أحس بغرابة وضعك! ."
    وطمأنني:
    - " لكن لا عليك أنت رجل صاحب مبدأ ولست مجرماً، سأساعدك بما أستطيع، وأظنك تعرف أن بقاءك هنا فى هذه المدينة ليس حلاً ، أنا اتفق معك، بورجوازا هى الحل لشخص مثلك ملاحق و يريد الاختباء إلى أمد غير معلوم ".
    فى صباح اليوم التالي شرح لي الدملج أشياء مهمة من قبيل حكاية الشابة مهرة ومعرفة والده قديماً بشخص مهم قد يساعدني عند وصولي إلى بورجوازا، هو مستر يوب مدير شركة تسمى "شاكونيل".
    أشار الدملج بيده قائلا :
    -" أتعرف من تكون هذه المرأة ".
    أجبت:
    - " نعم ، نعم إنها .....".
    أكمل هو:
    - " المرأة التى استضافتك أمسية الأمس ".
    قلت:
    -"إنها امرأة طيبة و... وجميلة ، أشكرها على أنها احتفت بى وخففت من متاعبى أمسية الأمس ".

    مهرة شابة جميلة بالفعل. فى العشرينات من العمر. صادفتني مع الدملج أمسية قدومي إلى مدينة الجنينة ، أنفقت معي قسطآ من ليلتي تلك وحبتني برعايتها. فظلت شيئاً جميلاً فى خاطري كل الوقت.
    أكمل الدملج حديثة حول حكاية مهرة:

    -" قتلوا جميع أفراد أسرتها فى أحد غارتهم المنظمة على قبيلة المساليت وسبوها ثلاث سنوات، حتى استطاع فرساني أخيرا تخليصها من العبودية، واختارت العيش بجانبنا، وهي حرة الآن فيما تريد أن تفعل بنفسها".
    قلت بتعجل:
    -" من هؤلاء؟!".
    فأجاب بأكثر من عجلتي:
    -" العرب ".
    قلت أستدركه:
    -" أتعني بعض القبائل العرببية في غرب السودان؟".

    فأكمل الدملج حديثه برنة الأسى!:
    -" القبائل العربية المجاورة تغير علي القبائل الأخرى غير العربية بالسلاح الناري وتنازعها على مناطق رعيها ، على مواشيها ، تقتل رجالها و تسبي نسائها".
    وشرح لى بمرارة كبيرة:

    " القبائل العربية فى الغرب تجد العون من السلطة المركزية _في الخرطوم- على عدوانها على الآخرين يمدونهم بالسلاح والمال . الأمر فادح في هذا الزمان، الناس تكدح فى مجابهة أخطار كبيرة فى هذه المنطقة، العرب ينهبون أبقار الناس كى يقللوا من شأنهم اجتماعياً ويجففوا اصل رزقهم ، يقتلون كل من يقف فى طريقهم دفاعاً عن حقه كى يتخلصوا من أي معارضة لخططهم فى القضاء على القبائل الأخرى وطردها نهائياً من البلاد. ويسبون النساء كى يعملن خدماً عندهم ومتعة لفتيانهم. الأمر في الماضي القريب لم يكن بمثل هذا السوء، كان الناس يعيشون في سلام، نحن والعرب".
    ثم رفع صوته وكأنه كشف سر الداء فوجد الدواء:

    "الخرطوم هي التي تشعل الحرب بيننا، أنت تعلم!".

    الدملج يعرف أنني أيضاَ عربي، لكنه يعرف أيضاَ أنني لست من السلطة التي تشعل الحرب.

    عند المساء كان كل شيء قد رتب جيداً لمغادرتي إلى بورجوازا بمصاحبة ثلاثة من فرسان الدملج ، كانت تلك أول مرة أستخدم فيها حصاناً للسفر كما إنها المرة الأولى والأخيرة التى امتطى فيها ظهر دابة. انطلقنا في محاذاة وادي مورني ثم جعلناه خلفنا، نتبع اثر النجوم فى اتجاه بورجوازا .
    حملني والد الدملج رسالة قصيرة مكتوبة بتروٍ إلى مستر يوب ، يقول فيها:

    " السيد يوب .. تحية طيبة ، منذ وقت طويل لا اعرف شيء عن أخبارك فى بلاد صعبة ، الحياة فيها قاسية، أرجو أن تكون بخير على أى حال ، حامل هذه الرسالة من طرفنا، سأعتبره أمانة عندك ، أرجو أن تعاونه فى بداية حياته فى بورجوازا ، له بالطبع أن يروى أسباب قدومه إليكم وتقبلوا منا الاحترام. صديقكم القديم الدملج زقل بحر الدين" .

    قدرت أن والد الدملج استخدم كلمة صديقكم فى الرسالة من باب اللطف الطبيعي فى مثل هذه الأحوال، فقد أكد لى من باب أدراك الأمور أن لا شيء مهم يربطه بمستر يوب غير تبادلات تجارية صغيرة كان يقوم بها عبر وسطاء وزال أوانها منذ وقت طويل ، لكن للضرورات أحكامها . للدملج ووالده منى كل معزة؛ أكرماني ، وعملا جهدهما وبلا مقابل أسديته لهم على إنقاذي وبقائي حراً بحسب الطريقة التى اخترتها أنا لنفسي و نوع الحرية الذى رأيته .
    عندما وصلت إلى مشارف بورجوازا بعد مسير مضني، قفل فرسان الدملج راجعين، لوحوا لي بأيديهم ، وابتسموا فى وجهي لطفاً ######رية من قدري، فهم حتماً يعرفون بورجوازا مثل ما يعرفون الطريق إليها .
    و ها أنا علي مشارف بورجوازا حصانى يخب فراراً ، بدأت كفارس هزم فى آخر المعارك ، عاد منكسر الكبرياء، ترك سيفه من وراءه وجاء يطلب العيش فى بورجوازا. فهل يعيش مثله و حيوان أليف‍‍‍‍‍ !
    تبدت مظاهر بورجوازا على بعد أميال ، حصانى يسير فوق الحصى و الرمال، يشق خلاءً وعراً لا كائن حي إلا بالكاد، بعض طيور القطا والقمري. من على سطح الرمال تبرز بين حين وآخر بقايا حيوانية ، عظام وجلود وأسنان وأظافر وجماجم آدمية وسلاسل فقرية لأناس بالغين وهنا وهناك أشجار منخفضة كالحة الخضرة . كلما تقدمت شبراً من بوابة بورجوازا الشمالية تختبئ ملامح الحياة أكثر فأكثر ويتحول الحصى إلى لون احمر فاقع تأطره خطوط رمادية داكنة . أركز ناظري إلى الأمام ، أحث حصانى على المسير، و كأني أخشى من نفسي أن تحدثني بالتراجع، يلطم وجهي هواء يميل إلى السخونة و أشتم روائح نتنة كلما عملت على تبين مصدرها تجددت بلون لم أسعف بإدراكه .

    بورجوازا فى ذاكرتي منذ الطفولة، سمعت عنها حكايات كثيرة متناقضة من جدتي و قرأت عنها أشياء عديدة فى فترات مختلفة من عمرى . بورجوازا فى ذاكرة المجتمع الذى عشت فيه طفولتي وصباي: مكاناً للحق و متحفاً للرذيلة والشر. مأوى الدجالين والكذابين. يقولون ضده: يسكنها أناس طيبون ، أمناء، رجالاً ونساء وكأنهم الأنبياء. يقولون: أهلها من أكلة لحوم البشر. ذكروا قديماً أسطورة لامرأة شديدة المراس من أحفاد بنى هلال سافرت إلى بورجوازا ومن ضمن ما روي عنها أنها شهدت بأم عينها ثلاث من أهل بورجوازا يأكلون مخ آدمي فى مطعم على قارعة الطريق. حكوا عن ثلاثة أطفال ضلوا الطريق ووقعوا فى يد امرأة من بورجوازا حبستهم فى دارها وكانت تعلق كل يوم واحداً منهم حياً على شجرة فى فناء دارها؛ وتثقب شريانه وتشرب من دمه وتمصمص شفتيها . قالوا : أهلها عبيداً فقراء لا شرف ولا كرامة لهم. قالوا غيره: جبالها من ذهب و مساكن أهلها من فضة وأوانيهم من الماس. و عدوا أسماء أناس اصبحو اثرياءا لمجرد انهم زاروا بورجوازا لمرة واحدة أو صادقوا أحداً من أهلها .
    بورجوازا كالغول والعنقاء فى ذاكرة الناس الذين قدر وأن ولدت وعشت بينهم حتى عصفت بي الأقدار إلى الشهادة؛ فجئت فاتحاً صدري إلى غولي و عنقائي.و ها أنا ادخل الي بورجوازا من أوسع أبوابها .
    ترجلت من على حصانى فوطأت قدماي أرض بورجوازا فاجتاحنى فرح لا اعرف له مبرراً ، سرى فى عقلى شعور بالأمان لا تفسره قواعد المنطق التى أعتدتها و دمعت عيناي من وقع مشاعر لا أعرف نوعها. فسألت أول كائن قابلته عن موقع شركة شاكونيل، فأشار بيده اليسرى فى الاتجاه الصحيح مرتين ، لم يزد على ذلك ، لم ينطق بحرف واحد ، لم يراقبني مستغرباً ، لم يتفحص هيأتي ومضى فى شأنه. تركني أتلذذ فى مكاني بترحاب أهل بورجوازا فى سلوك أحد أبناءها، فهو لم يسألني عن هوية لا املكها وفسر لى ملتبس الطريق إلى مقصدي الأول فى بورجوازا .

    تعرفت إلى مستر يوب بغير جزم قبل التحدث إليه. لمحته داخل سور صغير من السلك الشائك يحوم حول عدة أقفاص صغيرة محشوة بحشرات لم استطع التعرف كنهها فى تلك اللحظة . فى الستين من العمر، ابيض اللون، ربع القامة، وذو لحية بيضاء مرسلة مثلثة الشكل تنتهي بذنب صغير يلامس القفص الصدري، ولم يكن بوسعي (تلك الأثناء) التنبؤ بملامحه الأسكتلندية. استوقفني قبل الوصول إليه مشيراً علي بالجلوس علي أريكة فى فناء الدار منحوتة من الصخر. بينما أنا لا أزال فى ذلك الوضع خرجت ثلاث نساء من أحد مبنيين صغيرين يقومان فى منتصف السور، كنّ نساء عاديات، لكن ما لفت انتباهي أن جميعهن يغطين سواعدهن بقفازات من المطاط وكان مستر يوب يفعل نفس الشي . وضعن الأقفاص المحشوة بالحشرات فى عربة صغيرة بالية من ماركة لاندروفر بمساعدة مستر يوب، ثم انكببن في إصلاح شي ما ،لم استطع تبينه لصغر حجمه. فى تلك الأثناء تقدم نحوي الرجل الذي قدرت سلفا أنه مستر يوب، حياني بطريقة عادية، لم ألحظ أي ملامح اندهاش أو استغراب فى وجهه كما توقعت. دعاني إلى دخول مجلسه الخاص . قال لى انه ذاهب فى أمر ما وسيعود فى خلال ساعة. حاولت عبثاً أن اشرح له فى الحال من أكون، لماذا أنا هنا، و رجوت اطلاعه علي الرسالة بحوزتى ، لكنه قال لى بطريقة ودودة:
    " لا داعي لكل هذا، أنا اعرف الأمر جيداً، دعنى اذهب وسأعود حالاً ".

    لكن تحت وطأة قلقي لم أستطع الصبر والإستكانة لأمره فألححت عليه اكثر ، فبدا وكأنه غضب من سلوكي، حسب تقديرى للأمر فى تلك اللحظة. فأشار إلى نازوزة طالباً منها بشكل متعجل :
    -" عليك أن تقومي باللازم مع هذا الرجل ."
    وذهب إلى حاله.
    هل يعمل مستر يوب فى تجارة اليورانيوم يا ترى؟. خطر على بالى هذا السؤال قبل أن أطلع على حقيقة الأمر، وعذري أننى سمعت وقرأت أن تجارة اليورانيوم الخام رابحة فى مثل هذه المناطق وقيل أن قوافل من الجمال تسافر عبر الصحراء إلى صعيد مصر يخاط فى أحشائها اليورانيوم الخام ويباع فى باكستان وإسرائيل والهند بأثمان باهظة . وتحتكر تجارة اليورانيوم عصابات من أوروبا وأمريكا.
    حيتنى نازوزة بطريقة عملية وعرفتني بنفسها:
    -"أنا رئيس العمال هنا ".

    كدت اشبع فضولي فى الحال فأقول: عمال ماذا!. لكني لحسن الحظ لم أفعل. فقلت بدلاً من ذلك:
    -" عندى وصية لمستر يوب".
    فأجابت :
    -"هذا شى إذاً لا يعنيني. أنا هنا لأسلمك أدوات العمل وفاتومة ستدربك عليه".
    فتعجبت :
    -" عمل!".
    قالت:
    -" نعم، العمل ".
    ابتسمت ببلاهة وأنا أتطلع إلى وجه نازوزة: امرأة قصيرة، داكنة السحنة. قيل: هاجر أسلافها إلى بورجوازا من جبال جنوبي منطقة كردفان بفعل مشادة كلامية بين أحد أسلافها وجنود السلطان على دينار، فهدر على اثر ذلك السلطان دمه. كان السلطان قوياً لا يقاوم ، كان ثرياً و قيل أن قصره يحوى ثلاثمائة من الغلمان المخصيين جلب جلهم من داخل حدود المملكة واسر الباقين فى معارك حربية أو سلبهم فى غارة من الغارات.

    علمت بعد وقت طويل أن رجلاً من طرف فاتومة كان ينوي العمل مع مستر يوب واتفق أن جئت أنا فى ميعاده بدلاً عنه ،كانت فاتومة غائبة فى تلك اللحظة، فحسب الجميع أنني هو قادم لأخذ مهمتى. اتضح فيما بعد أن ذاك الرجل وجد عملا مع جمعية الإله كورا لمكافحة الجذام .
    أخذتنى نازوزة إلى سكنى داخل المدينة تقيم فيها هي وفاتومة بعد أن سلمتنى ثلاث ملاقط للعناكب السامة مختلفة الأحجام ، قفاز، وسترة واقية. عرفت فيما بعد أن العناكب تصدر بطريقة معقدة إلى دول في أوروبا الغربية حيث يستفاد من سمها فى علاج أمراض مستعصية.

    كان علي القيام بالتقاط أنواع بعينها من العناكب السامة علي طرف المدينة مقابل أجر معقول مكنني من العيش كل الوقت فى بورجوازا ودون أن أكابد مشقة الفراغ .
    بعد تسوية جميع الأمور ساهمت فاتومة بطريقة حكيمة في معاونتي فى أداء عملى ، فهى تعمل منذ فترة طويلة مع مستر يوب .


    " كنت متعب حقاً في مساء اليوم الأول من وصولي إلى بورجوازا. نمت بشكل مفاجئ على أرضية الغرفة .

    عند الصباح التالي نهضت باكراً ، أطللت من خلال النافذة المفتوحة على الأفق، ثمة سحب بيضاء صغيرة وساكنة، اقتربت من النافذة أكثر فأكثرحتى تلامست أصابع قدمي مع الجدار، فأنحنى رأسي بطريقة تلقائية عابراً مساحة صغيرة من ارض بورجوازا لا تتجاوز بضع أمتار بفعل ترامي المباني المتناسقة الاشتباك والاهتراء، وكأن البيوت تشعر بلطمة طاريء فتتلاقى وتساند بعضها البعض. رأيت ثمة أناس قليلين بين الفينة والأخرى، يتسكعون فى الطريق مطأطئ الرؤوس مطلقى اللحى والشوارب، ثقيلي الحركة وكأنهم خشب مسندة .
    برغم ما سمعت وقرأت عن بورجوازا إلا أننى أستطيع أن ألحظ أن الطريق نظيفة لا أوساخ مقززة أو قطط هائمة كما خطر على بالى لأول وهلة وأنا ادخل بورجوازا . حتي القاذورات في بورجوازا نادرة!.
    قررت النزول إلى الشارع، إلى بورجوازا . فى اللحظة التى أصبحت فيها خارج الباب، وأنا ممسك بمقبضه حاولت أن أتبين الاتجاه الذى أود أن أسلكه. لاحظت أن الشارع على اليمين أوسع مما هو عليه فى الشمال؛ الذى يضيق وينحنى إلى الوراء .
    أخذت الطريق على يمينى وخطوت حوالى مائة ياردة، ثم توقفت، قفلت راجعاً واضعاً سبابتي فى أنفي. رباط حذائي ينفلت بغير إحكام كقرني استشعار خنفساء، غير أني لم اعبأ بذلك وتراءى لى الانحناء لإصلاحه شيئاً ثقيلاً وغير مهم. أمني نفسي في التسكع على طريقة أهل بورجوازا ثقيل الحركة غير ملتفت أو عابٍ. عاينت المكان جيداً فقد كنت اخشى أن أضل طريق العودة. لفت نظري مشهد الباب كان منخوراً ويخشاه سواد عريض، لكنه علي أي حال مثل كل أبواب بورجوازا. لم يكن ثمة رقم مكتوب على لوحة الباب ، كل ما أستطيع أن اعمل به للتعرف على محل إقامتى، هو أن احتفظ في خاطري بأشكال المباني المجاورة وتعرجات الطريق. لا اسم محدد للشوارع فى المدينة . الشارع الوحيد المسمى هو شارع الإله كورا. لأقصى درجات الحذر؛ توجب علي بالضرورة أن احنفظ في ذاكرني ببعض المعالم المميزة كقفص فئران بشكل محدد أو بيت قديم مهجور . بعد أن تيقنت من أنني أستطيع التعرف على مكان إقامتي ، أنفقت ربع ساعة من التروي، ثم أطلقت لساقي العنان ، فوجدتني شرقي المدينة أقف على ارض المكان الأثري الإله نافورة؛ النبع العذب الذى جف قبل عشرات السنين ، وكان يروي أرض بورجوازا آلاف السنين ، على ضفافه قامت حضارة بورجوازا الأولى، وما يزال بعض أهل بورجوازا يعبدونه كأحد آلهتهم ويدينون له بفضل لا قيمة له فى حياتهم العملية . وقفت على ضريح الإله كورا الأول؛ روح النبوءة وجسد الإله. إله بورجوازا الحاضر بروحه المقدسة في أحفاده، الغائب بجسده، والمقيم في جوهر الأشياء إلي الأبد. ومشيت دون أن أعي عابرا فوق التل الصغير منبر الإله كورا......."

    " مررت بمركز المدينة وسوقها الرئيس، بعض الحوانيت الصغيرة فى شكل دائرة قطرها حوالى مائة متر مكدسة بأنواع من البضائع مثل اللحوم المجففة، الذرة ،الحلى المحلية ،الأعشاب الطبية: فئران مملحة ومجففة بعناية تسمي الجقر او أم ضلف ، جراد محمر ، قطا ، قمرى وأبى منقار ودخن ، ضفرا وزيت سمسم وقهوة وسكسك ، سوميت وعطور نباتية مختلفة ، منشطات جنسية ، عيدان نباتات نفاذة الرائحة يسمونها طارد الناموس ، عرديب ، عيدان طندب ، قرض ، قضيم ، غبيش ، لالوب ورؤوس ثعابين، ومفروشات من السعف، وشاهدت أشياء كثيرة لم أجد لها أسماءً في ذاكرتي. كل الأصناف يمكن أن توجد فى مكان واحد دون تخصص ، ولا توجد مطاعم لبيع الأطعمة أي كان نوعها، معظم المباني من القش، القصب البري و قليلها من الحجر أو القرميد .

    عبرت فى آخر مطافي وما أزال فى ذروة فضولي ذلك اليوم على قصر الإله كورا ماندا كورا عمدة المدينة و حفيد الإله كورا الأول، منزل صغير من الحجارة المائلة إلى الحمرة. قفلت راجعاً عبر الطريق الرئيسية الوحيدة المرصوفة بالحجارة الخرصانية. كانت تلك بعض ملاحظاتي الانطباعية فى ذلك اليوم.
    وقرأ مادي:

    "...............". "وضعت فاتومة صحن مطلي باللون الأصفر على حصيرة مفروشة منتصف أرضية الغرفة ونادتني بلطف :
    -" تعال أيها الرجل إلى تناول شيئاً من الطعام".

    جلست بجانب نازوزة يتوسطنا الصحن، بينما ذهبت فاتومة لتحضر الماء من جرة كبيرة موضوعة على حمالات من الحديد خارج الدار ومغطاة بقطعة من الخيش. كان الطعام عبارة عن فطيرة من الدخن عليها إدام بلحم جقر. سألت نازوزة عن ماذا يعني الجقر!. فعرفت انه حيوان فى شكل فأر كبير نسبياً. سألتني نازوزة بلا اكتراث حقيقي :
    -" من أين أنت؟ ".
    قلت :
    -" من الخرطوم ".
    -" كيف تجئ من الخرطوم إلى بورجوازا !. يقولون أن الخرطوم مدينة جميلة فيها أنوار كهربائية ، حنفيات للماء العذب فى كل بيت ، وسيارات يتنقل بها الناس بين حي وآخر داخل المدينة نفسها ".
    أجبت بابتسار :
    -" أقدار، أقدار"!.
    ثم سألتني عن اسمي بالكامل. ترددت قليلاً هل أفصح عن إسمى الحقيقي أم اذكر أي اسم آخر مستعار؟. هل ثمة شى بعد يدعوني إلى تزييف إسمي؟. لقد اطمأننت بقدر كافي، لكن هواجسي الزائدة لم تتح لى الفرصة بعد.. فأجبتها :
    -" هادي .. هادي حمدان.. هادي حمدان شكول. ".

    و أصبحت استخدم ذاك الاسم المستعار حتى هذه الأيام الأخيرة، حين حدثت الفوضى فى المدينة وحدق بي الخطر مره أخرى. رأيت انه لازماً على أن أصارح فاتومة بكل شيء، أنها أم ولدي الوحيد ، وأستطيع الاعتماد عليها. ومثل هذه العواطف هى التى حثتني إلى كتابة هذه السطور فى الوقت الراهن، وأعمل فيها على أن أكون صريحاً وأتعرض لكل ما استطعت تذكره ورأيت ذكره مفيداً، وان كنت اشك فى فائدة أي شيء هذه الأيام؛ لكن على أي حال على المرء أن يحاول دائما عمل شيء ما إيجابي"."......".

    " يحد بورجوازا من الشمال الصحراء. من الجنوب غابات السافانا الفقيرة، والنجم المسماة جوازا. من الغرب صدي عوي الذئاب ، أعشاش العناكب، فحيح الثعابين. و من الشرق لا شيء غير الفضاء المفتوح على النافورة الميتة؛ على العدم ، وأطياف من البحر الحامض؛ تنام وتصحو بورجوازا على سرابه المتصل.

    بورجوازا استعصت علي كل تقلبات الزمان، مذ أسسها قوم لا يعرف لهم اصل ، لا من أين جاءوا!. ولا متى!. مدينة قديمة قدم التاريخ ، مثلها مثل أي جبل شاهق يكسوه الغبار السرمدي. تعاقبت عليها حضارات بشرية لا حصر لها . وما زال يقطنها أناس، مذ متى اقاموا بها لا احد يعلم. مشى فوق ترابها الهاربون، المجرمون ، الطامحون والطغاة.

    وجاءها الرومان ، من قبلهم الاكسوميون ، البجا ، السواحليون، النوبيون واغار عليها الفولانى ، الفور ، قبائل النيل وغزاها الانجليز والفرنسيون فطردوا من على ترابها العثمانيين. ورحلوا جميعهم، تركوا بورجوازا كما دخلوها أول مرة . كما ظل فوق ترابها آلاف الناس البسطاء عبر آلاف السنين، يفلحون الارض ، يصطادون ، يحتربون، يعشقون ويكرهون ، فيهم من كتب الشعر ، وبينهم الحكماء ، العلماء، الصعاليك، القساوسة والفقهاء .

    دخلت بورجوازا المسيحية فلم تتمسح كلية كما أرادوا لها وجاءها الاسلام فلم تسلم كلية كما عملوا له، ولم يجد كل ذلك سوى جرحا فى جسد عقيدتها الأولى؛ فتجاذبها المد في كل إتجاه وركبها موج الطوائف من كل ناحية، مرة يبرز التاريخ فى الحاضر ومرة يغوص الحاضر في الماضي . و لا حاضر لدي بورجوازا ولا مستقبل لها!. لكنها ما تزال آهله بالناس بقدر ما هى آهلة بشتى صنوف الموت؛ لا فرق عند أهلها أقاموا فى بيوتهم أو في المقابر .كما نفذت اليها اللبرالية، الماركسية، الدارونية و البنيوية عبر حقب عديدة فلم تنصت بورجوازا الى غير صوت واقعها؛ ولم ينصت الي صوتها أحد من هؤلا".

    وقرأ :
    "ابتكرت بمشاركة فاتومة طريقة جديدة لاصطياد العناكب: نضع الصمغ على قطعة من جلد القطط البرية المدبوغ ونوسطها موقدين يعملان بزيت السمسم. بتلك الطريقة ازداد دخلنا وأصبحنا نقبض إسبوعياً ثمانين قدوقدو _عملة معدنية- تكفى لتغطية مصروفاتنا الإسبوعية وندخر ربعها فى مكان أمين داخل الغرفة، فوفرنا بذلك وقتاً وجهداً استثمرناه فى مساعدة جمعية مكافحة الجذام؛ (منظمة خيرية أسسها الإله كورا ماندا كورا) تعمل على إستخدام سم الثعابين بعد خلطه بالقطران لعلاج الجذام المنتشر بكثرة فى الأحياء الغربية من بورجوازا. وهناك أيضا مرض آخر مصاحب لا يقل خطورة، مجهول الأسباب، يكاد لا أحد يتحدث عنه، يسميه أهل الطرف الغربي بالرعاش .
    كنا كل مرة نخرج فيها إلى الغابات الواقعة على مقربة من الطرف الغربي أو الجهة الأخرى فى الاتجاه المضاد للبوابة الشمالية، ننجح فى إلتقاط ثعبان أو ثعبانين، نضعهما بعناية فى كيس فضفاض من الخيش ونسلمها إلى أعوان كورا بلا مقابل مادي .

    "مرت اثنتا عشر عاما وأنا ما أزال أمارس لقط العناكب السامة ليتداوى بها أناس فى عالم آخر لا اعرفه ولن اعرفه طوال حياتي. يا لهذه المهنة المجنونة‍!. تعلمت فى هذه السنوات الكثير واعلم أننى أضعت الكثير الآخر وكان ميلاد طفلي مادي عزاءً مهماً فى هذه المدينة صعبة الحياة......".
    رجع مادي تونقا عدة صفحات إلى الوراء لان صديقه مستر دافريز أراد معرفة اكبر قدر ممكن من الوقائع المجنونة، فقرأ من جديد بعضا مما أغفله وظنه غير ملائم أو لا يناسب الزمان :
    " ......... فاتومة دخلت حياتى من كل أبوابها المفتوحة ، أصبحت جزءاً من اليومي، من المستقبل ، كانت تتحدث بطريقة ناعمة وتلبس فساتين مزركشة غريبة الألوان، لكنها أنيقة؛ تخيطها هى بنفسها. تعاملت معي بحنو منذ البداية، نشأ بيني وبينها ود كبير وتعاهدنا أن نبقى سوياً تحت سماء بورجوازا ....... علمتنى فاتومة كيف ألتقط العناكب السامة كي أعيش بحر مالي فى بورجوازا ، علمتني كيف انجب طفلاً من رحمها ، علمتني كيف أحبها كل هذا الحب، و علمتنى أن الحياة ليست هي بالضرورة تلك التى عرفتها من قبل. كما علمتني أن الحياة تكون دائما ممكنة وان كانت هذه الحياة فى بورجوازا ، فالحياة هى الحياة. و .........".

    و قرأ مادي أقساطاً يسيرة من الصفحات الأخيرة:
    "فى يوم عيد الاستغاثة الكبرى وبينما كان الناس مصطفون فى انتظار كبيرهم وإلههم كورا ماندا كورا انسل من بين الزحام رجل عجوز مقوس الظهر ورفع صوته من على التل الصغير :
    -" يا أهل بورجوازا ، يا أصحاب متاهة العدم و الخراب، أخشى عليكم من مصيبة جديدة تضاف إلى مصائبكم المقيمة".
    وردد تلك العبارة سبع مرات.

    غير أن أهل بورجوازا لا يعبئون بالحوادث مهما كان وقعها صارماً. فبورجوازا تعيش فى حضن الموت منذ ألف عام فهي لا تخشى الموت. وصعد آخر على أثره وذبح حلوف بري كانت تحرسه امرأة تقف فى مقدمة الزحام، هرعت مجموعة من الناس فى الصفوف الأمامية، أخذت تبلل أصابع كفوفها بدم الذبيحة وتلون به جباهها؛ انه قربان كورا المقدس!.
    فى حضرة كورا هتف الجميع، مرددون شعار المدينة إسم روح سلفهم المقدس :

    -" كورا كورا كورا".
    وفعلت أنا مثلهم رددت الكلمة ثلاث مرات .
    أعتلى كورا التل الصغير منبر السلف وتلى الشعائر المقدسة التى أرساها كورا الأول روح النبوءة وجسد الإله:
                  

العنوان الكاتب Date
رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:16 AM
  Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" سفيان بشير نابرى08-06-11, 02:20 AM
  Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:22 AM
    Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:31 AM
      Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:37 AM
        Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" سفيان بشير نابرى08-06-11, 02:43 AM
        Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:44 AM
          Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:50 AM
            Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 03:01 AM
              Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" سفيان بشير نابرى08-06-11, 03:15 AM
              Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 03:21 AM
                Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 03:35 AM
                  Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 03:39 AM
                    Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" سفيان بشير نابرى08-06-11, 05:47 AM
                      Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 04:50 PM
                        Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" سفيان بشير نابرى08-06-11, 06:04 PM
                          Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 11:07 PM
                            Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-07-11, 02:55 AM
                              Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-07-11, 07:16 PM
                                Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-15-11, 03:35 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de