رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction"

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-09-2024, 06:17 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2011م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-06-2011, 02:37 AM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5472

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    *** 2****


    "الفرح الكوني العظيم". ردد مادي هذه العبارة بانبهار حقيقي واظهر انتباه فائق. أنه بالفعل عنوان جذاب ومثير للاهتمام. بل أن المؤلف لامادانيش هو في حد ذاته رجل عجيب المظهر ذو لحية سوداء مرسلة تحيط بوجه صغير اصفر اللون في راحة الكف اليسرى لإمرأة شمطاء، وبطن منتفخ بشكل مناقض لحجمه الضئيل. ذلك لم يكن كل شيء، إن اكثر ما يثير الانتباه، عينا دانيش ، عينا قط بري صغيرتان دائريتان ملتهبتان كجمرتين متقدتين . اعتدل دانيش في قعدته تلك بينما ما هو مشغول بمداعبة لحيته بين لحظة وأخرى وبدا وكأنه غير عاب أو مكترث بالأسئلة التي طرحت عليه. لكنه علي أي حال كان يتحدث وهو في حالته تلك بطريقة لبقة وذكية، يطلق عبارات مثيرة للجدل ومستخدماً في كثير من أقواله كلمات غريبة أو معطياً معان جديدة لكلمات قديمة .
    -"نعم أنا أمريكى ".

    قال ذلك وهز رأسه بطريقة درامية ثم رفع رأسه إلى حافة السماء وأردف:

    -" لكنني افخر بأصولى الهندية وإننى......."
    وصمت لبرهة من الوقت ثم فتح فمه بحيث أصبحت المسافة الفارغة بين شفتيه حوالي بوصة ونصف، غير إنه لم يصدر أي صوت لبضع ثوان أخرى، فأنبعثت في الفراغ الزماني مقطوعة موسيقية صغيرة حزينة مصدرها آلة الكمان، حتى نطق دانيش:
    -"إننى اصبح سعيد أو اكثر سعادة ..."
    وصمت ثانية حتى كاد يكرر تجربة الصمت الأولى الطويلة نسبياً لكنه أكمل :
    -"عندما اذكر أسلافى الهنود ".
    و أبتدر بعد ذلك حديثه بعبارة :
    -"الإنسان عظيم ، نعم هذه حقيقة ".

    ثم تساءل :
    -" هل بالإمكان تصور الكون قانون فيزيائي محض، مجرد مادة؟".

    وأجاب من تلقاء نفسه :

    -" نعم، الأصل فى الكون هو النظام الفيزيائي، كما هو من البدهيات عند معظم الناس . المؤمنون بآلهة خالقة يقولون فى البدء كانت الأرض والسماء ولا شيء هنا على الأرض ولا هناك فى الآفاق التي يعتقد انها تحوي نفس مادة الأرض، وأن الإله يقيم خارج الأرض وخارج الآفاق. والآخرون يجزمون بالأمر نفسه لكنهم جعلوا من الأصل المادي جوهر مقيم بذاته فى ذاته، باعث لذاته من ذاته وباقً فى ذاته إلى الأبد".
    شرح دانيش كيف يكون الإنسان أي إنسان عظيماً :

    -" النظام الفيزيائى يعتمد وظيفته فى الحفاظ على نوع المادة. المادة المعينة لا تريد سوى ان تكون تلك المادة المعينة، لهذا تصنع لنفسها كينونة فيزيائية مختلفة فى المقدار عن المواد الأخريات.
    هذا الإحساس بالذات المتميزة فى جسد المادة هو الذى يخلق التحولات الفيزيائية والكيميائية فى الكون. كيف؟. من واقع عشق الذات، الإحساس داخل المادة بالتميز يخلق حالة من الخوف من الاندثار. هذا الخوف يجعل المادة المعينة تسعى الى تقوية نظامها الفيزيائي -قانونها الحاكم- يؤدي هذا الحراك الفيزيائي إلى توسع أفقي: تحالف أو اندماج مع مواد أخرى هى بدورها خائفة او يؤدي الي اغتيال أو انتحار فتبدل المادة المعينة قانونها في المقدار أو تفنى بشكل نهائي.

    مثل هذه التحولات تبقى مستمرة فى جسد المادة عبر مليارات السنين حتى تبلغ المادة المعينة دائرة منتهى الكمال النوعي . فتحدث طفرة فى النوع والمقدار، يبدل قانون المادة مساره فيتحول الى نمط حياة بدائية - قانون عقل غريزي-. عندما يبلغ قانون العقل الغريزي مرحلة منتهى الكمال النوعى عبر آلية الخوف من الألم و الطمع في اكتساب اللذة و "الأمن" يتغير القانون الغريزي نوعياً عبر ملايين أخرى من السنين، فيصبح عقل موضوعي-انسان العصر الحاضر . العقل الموضوعي يهدف الى السيطرة على الفيزيائي والغريزي - الوعى بهما - عبر آلية الخوف - الاحتياط الواعي- من الألم و الاكتساب المدبر للذة. وهذه مرحلة الوجود الإنسانى القائمة الآن. حتى اذا ما بلغ العقل الموضوعي مرحلة الكمال النوعي يتبدل فى المستقبل القريب الى قانون عقل كامل يعي قانون العقل الموضوعى ويسيطر عليه -يحتويه- عندها فقط تحل عقدة الذاتية والموضوعية- نسبية الوجود- ويتحقق الحياد المطلق حيث يتخلص الإنسان من الخوف والقلق ويعيش حياة سعيدة حقاً بمقاييس مطلقة. كيف يكون الإنسان عندئذ خائفاً وقد وعى مصادر الخوف وتجاوز مواقعها!، وكيف لا يكون سعيداً وقد وعى ذاته بذاته مذ كان قانونآ فيزائيآ محضآ!.. ففى الإنسان يتلخص الكون كله -تختصر قوانينه ذاتها فى الإنسان- إن الإنسان لعظيم !."
    مقدم البرنامج ينفعل ويتفاعل مع عيني القط:

    -"هذا عظيم، حدثنا أستاذ دانيش عن الفرح الكونى العظيم".

    فى تلك الأثناء بغتة رن جهاز الهاتف القابع فوق منضدة صغيرة موضوعة على الجانب الأيمن من الأريكة، ذلك حدث في نفس اللحظة التي رن عندها جرس الباب وبدا أن أحدهم ينتظر بالخارج!. رفع مادي سماعة التلفون والصقها علي أذنه اليمني ماشيا نحو الباب . كان كل ذلك متسقاً مع مصادفة حسنة لدورة جديدة من الإعلانات التجارية، إذ اندفق الحبر الأحمر القاني مرة ثانية ليتأجل حوار الرجلين المتقابلين إلى اكثر من خمس دقائق. حوالي خمس وأربعين ثانية ويصل مادي إلى الباب الخارجي . الرجل الهولندى العجوز مستر بيتر دافريز يخطئ العنوان الذي أراد للمرة الثانية، لا لأن أبواب البيوت متشابهة وهو فى وضع لا يحسن الرؤية بشكل جيد. الأمر لم يجز وأن يكون بتلك البساطة. زوج مستر دافريز مريضة، مصابة بداء السرطان وهى فى ذاك الأوان ترقد فى دار رعاية مرضى السرطان في حالة ميئوس منها كما اقر الأطباء . انه إذاً لشي طبيعي أن يكون الواحد منا إذا قدر له أن يكون في وضع مستر دافريز في حالة من الإرباك وعدم التركيز في الوقت الذى يكون فيه علي ثقة تامة انه لا محالة فاقد شخص عزيز في مقام شريكة مثل مسز أنكا دافريز.
    يستدرك مستر دافريز أنه قد اخطأ العنوان بالفعل لكن بعد فوات الأوان لقد ضغط علي الزر وعليه إذاً أن ينتظر ليقدم اعتذاره للمرة الثانية لذاك الشاب الأسود الذى اعتذر له بالأمس عن نفس الخطأ. حدث مستر دافريز نفسه:
    -"نعم هذه 24ب وليست 26 ب".
    ثم ابتسم لهذا القدر العجيب الذى جعله يخطئ العنوان الذي أراد مرتين ويكرر هذا الخطأ في غضون أمسيتين متتاليتين .بعض الأعراف والقيم الإنسانية تحتمان عليه أن ينتظر ليقدم اعتذاره قبل أن يهم بالمغادرة .
    فتح مادي الباب بيده اليمنى بعد ما حول سماعة التلفون المتحركة إلى أذنه اليسرى وأشار إلى الرجل المسن؛ الذى ألفاه عند عتبة الباب بالدخول، ثم أمسك بذراعه حتى جاوز به عتبة الباب. بدل مستر دافريز مشاعر الدهشة إلي ابتسامة ونطق بكلمات لم يستطع مادي سماعها. كان مادي في ذاك الأثناء مشغولاً جداً ومستنزف الانتباه بفعل محادثة هامة مع مم.
    من هي مم!؟.

    كل الناس الذين تصادف وجودهم لصيقين بمادي لسببٍ أو آخر؛ يسألون ذاك السؤال. مم مجرد امرأة متوحدة ليس لها زوج ولا أبناء، عاش معها مادي العام الأول من حياته بامستردام ، إذ كانت خريتا، و ذاك هو اسم مم الحقيقى قد أرادت في البداية تبنى الطفل مادي عند وصوله إلي امستردام. وأخذت منه عهداً أن يناديها دوماً مم أو ماما. كانت تظهر له حبا و كأنه طفلها وتعلق بها مادي . كان مادي صبياً طيب القلب ، مطيعاً وقد اجتهدت مم خريتا في تدريسه مبادئ اللغة الهولندية وعملت على تلقينه بعض تقاليد الحياة في ارض غريبة؛ سقط عليها كورقة شجر قذفتها الرياح من الغابة. إلى أن حان موعد مغادرة مم خريتا إلي البرازيل؛ حيث تحتم عليها العيش هناك كمديرة لدار رعاية الطفولة المعذبة فرع ريودي جانيرو. كانت فرحتها لا توصف إذ تم اختيارها لهذا المنصب الرفيع؛ بواسطة مركز المنظمة العالمية. سبق أن كانت مم خريتا عضواً نشطاً بهذه المنظمة منذ اكثر من عشر سنوات. سافرت في أعمال طوعيه إلي بنغلادش ، الكنغو ، رواندا ، جنوب السودان وأثيوبيا. وهى امرأة متمسكة حقاً بمبدأ رعاية الأطفال و عدم اذائهم.
    و منذ سفرها قبل تسع سنوات خلت لم تعد أبداً إلى امستردام ، فهي مشغولة دوماً بفعل الحروب التي يشعلها البشر والكوارث التي تثيرها الطبيعة فتخلف ورائها ضحايا لا حصر لهم من الأطفال مشردون، جائعون وأيضاً موتى. إلا أن مم خريتا ظلت تداوم على الاتصال بمادي بشكل دوري وفى كثير من المناسبات لا سيما أعياد الميلاد، و ترسل له كروت تهنئة وهدايا صغيرة رمزية من البرازيل؛ لها وقع لا يوصف على عقل مادي. مادي بدوره يحاول دائماً أن يحفظ صوره مم في عقله. يرسل لها هو أيضاً كروت تهنئه ورسائل صغيره ويخبرها بآخر التطورات في حياته. ويراها كإنسان ذا قيمة نادرة . لهذا كان الاتصال التلفوني بينهما ذو متعة فريدة لا يستشعرها غير أم وأبنها .

    في المسافة الزمنية الفاصلة بين انقشاع صورة الفتاة ذات الأسنان البراقة والإعلان عن مباراة كره القدم بين فريقي اياكس و مانشستر يونايتد، جلس مستر دافريز عاكفاً يديه فوق حجره موجهاً نظره الحسي إلى الجهة التى وضع عليها جهاز التلفزيون. ولبرهة صغيرة من الوقت مس بإبهامه المنضدة الخشبية بنية اللون و أجال بصره في التفاته دائرية متوسطة الفضول على أركان الغرفة الأربع. لم يكن أساس البيت جميلاً إلى حد يجذب النظر ويثير الإعجاب. ليس هناك شيئاً ثميناً في البيت بالمعنى المادي على الإطلاق. ثم نظر إلى ساعته فقدر أن ما تبقي لديه من الوقت حوالى ساعة ونصف؛ وهو زمن اكثر من كافى لتفقد العنوان الذى أراد؛ ومن ثم الرجوع مره ثانية خلال ذاك المساء؛ إلى دار رعاية مرضى السرطان.

    استنفذ مادى حوالى أربع دقائق وبضع ثوانى فى تلقى محادثة مم خريتا، قبل أن يتفرغ لقهوة الرجل المسن الجاثم على الأريكة. ويستمر فى متابعة الحوار الشيق مع المؤلف الأمريكى لامادانيش، ذاك الحوار الذى تقطع أربع مرات بفعل إندفاق الحبر الأحمر القانى. وخلال معظم ذاك الوقت كان الشاب وكذلك الرجل المسن مأخوذين تماماً مع تصورات دانيش الغريبة والمبهمة أحياناً. ولو أن الرجل المسن والمجرب تعمد فى بعض الأحيان التماهي مع دانيش بقصد الراحة النفسية متخذاً من مادي قدوة له فى تلك اللحظات العجيبة من وحشة اللقاء الأول وفى وقت حاسم من حياة مستر دافريز.
    بدا مستر دافريز هادئاً وهو ما يزال عاكفاً يديه فوق بعضهما البعض وكأنه غير عاب أو منخور بالقلق. فوق السبعين من العمر. لكنه ظهر قوياً، مديد القامة، متماسك الأطراف ومحتفظ بفراغ صغير بين ظهره والوسادة الخلفية للأريكة. ذو رأس اصلع بدا معتاد الحجم، يلفه حزام من الشعر الأبيض تراءى مع ضوء الشموع الأصفر الخافت وكأنه قطعة صخر حمراء ملقاة فوق بركة صغيرة من الجليد ، وذلك ربما لأن وجهه الأبيض الناصع يعطي مثل هذا التصور الظاهري دفقة إلى الأمام.
    خلع مستر دافريز نظارته السميكة وشرع فى الوقوف قبل أن يجلس ثانية فالتقت يد مادي بيده ، يدان تقبضان بعضهما البعض بغير وهن أو ارتباك قبضة كأنها الوعد بالسلام.
    -"أنا بيتر دافريز".
    -"مرحباً بك مستر دافريز ".
    -"وأنا مادي تونقا".
    اعتاد مادي منذ قدومه إلى أمستردام أن يسمي نفسه باسم عائلة أمه، برغم أن ذلك لم يكن اسمه الرسمي .
    -"شكراً لك مستر تونقا".
    لم يجد مستر دافريز أي مبرر للإعتذاز عن إخطائه العنوان. انه فى قلب الدار لا ينقصه الترحاب. حتى انه لربما نسي تماماً، وقوفه قبل خمس دقائق تقريباً، عند الباب الخارجي للدار، رجاء الاعتذار ثم المغادرة كونه قد اخطأ العنوان. ولم يجد مادي أي مبرر لسؤال الرجل الغريب الواقف لحظتها وسط داره عن ماهية مقصده. ليس ثمة شي يدعو لمثل هذا الأجراء الذى اصبح غير لائق بشكل مؤكد!. لقد فات أوانه بكل بساطه . مستر دافريز اصبح فى لحظة واحدة وكأنه أحد المعالم المعتادة في البيت. فى مقام الأريكة الحمراء ناصلة اللون ، أو قل المدفأة الغازية المسجاة بغبار شفيف يغطي سطحها العلوي. تلك المدفأة لم يبتاعها مادي لقد وجدها هكذا كأحد الثوابت فى البيت عندما استأجره قبل بضع سنوات خلت.
    وكان دانيش ما زال محدقاً فى طرف السماء. وبدا هذه المرة وكأنه يراقب سقوط نيزك يتلظى وهو يقول:

    -"كانت تلك قراءة عامة، أما من الناحية العملية، فإن قراءة رواية الفرح الكونى العظيم، تعالج الكآبة والأمراض الناجمة عن الوحدة والفراغ بشكل حاسم. ذلك أن كلمات الرواية - جملها وتراتب معانى سردها- تقوم باهدار طاقة الخوف المترسبة في قعر عقل الانسان الموضوعي و من ثمة تفتح أبواب الفرح الكونى العظيم الكامن فى بوادر العقل الكامل. قمت فى عملية تأليف هذه الرواية بالإفادة من وسائل التكنولوجيا الحديثة وتطور علم هندسة الوراثة للوصول إلى آلية معنوية تعمل على فرز و ازالة نوع محدد من الهواجس الانسانية الموروثة عبر أزمان سحيقة، حيث كان الإنسان فى مرحلة التكوين، إبان كان الجنس البشري في مراحله الأولية يرتقي فى مراتب النشوء والتطور في المسافة الزمنية القائمة ما بين القانون الفيزيائي والعقل الموضوعي. كانت طاقة من الخوف مهولة، أختزنت عبر مليارات السنين. كل تلك الطاقة لم يستطع العقل الموضوعي الخلاص من أسرها واثرها بعد، فأصبحت كالزائدة الدودية، و أضاف اليها مخاوفه الخاصة التي اقتضتها قوانينه الجديدة: "أعني الخوف اللازم للمرحلة"، ذاك الخوف الممزوج بالقلق. على هذا النحو أصبح الإنسان الخائف الأعظم على وجه الأرض، ومأزوماً نفسياً بلغة علم النفس. وبالتالي أصبحت حياته المعنوية أكثر معاناة من ذى قبلـ ، بما ينتجه العقل الموضوعي " ومع أزمته تلك" من مقدرات على التصور والتخيل والإدراك. فالإنسان الحاضر يستطيع تصور الألم قبل حدوثه. وتصور الألم في حد ذاته ألم. وحدوثه فى مثل هذه الحالة يصبح أكثر إيلاماً. كما يخطط الإنسان فى هذه الأزمان المتأخرة من وجوده على ظهر الأرض الى اكتساب أكبر قدر من اللذة. وأحياناً كثيرة أكثر مما يلزمه، والتخطيط لاكتساب شىء هو نفسه جهد يتطلب المعاناة النفسية والبدنية. إضافة إلى أن لذة متوقعة ومرتبة مع سبق الإصرار هى اقل إمتاعاً من ذي قبل حيث كان الإنسان الأول -في مرحلة الغريزي المحض- يسعى إلى اللذة بوحي الحاجة الفطرية ويقصدها للكفاية لا الإدخار".
    البريق الأخضر المثير، فالحبر الأحمر القانى، و الرسم العجيب يعاود الشاشة. ثم نشرة الأخبار؛ بعد قليل. كتم مادي الصوت فى تفاعل تلقائي مع مقتضيات اللحظة، ولأن على أي حال ذلك الحوار الباهر مع لاما دانيش قد انقضى.
    صب مادي قهوة الضيف . وقال بينما كان يفرغ نصف زجاجة البيرة المتبقية فى الكأس المزركشة:
    -" أظنني قابلتك مساء الأمس مستر دافريز، أليس كذلك؟ "
    -"نعم ، نعم ، لقد وقفت أنا بالأمس على باب دارك، كنت قد أخطأت العنوان".
    ثم ضحك مستر دافريز حتى اهتز جسده كله واهتز معه القماش الأحمر السميك الذى يغطى الأريكة. لكنه على أي حال حتى تلك اللحظة لم يعتذر صراحة عن إخطائه العنوان أيضاً هذا المساء، ولو انه قال شيئا بطريقة غير مباشرة بنفس المعنى.
    حك مادي انفه وسأل هذه المرة بفضول:
    -" أى جهة كنت تقصد مساء الأمس؟".
    ثم أضاف سؤال آخر بعد تردد واضح‍‍‍:
    -"وماذا عن مساء اليوم؟ ".
    أجاب مستر دافريز باقتضاب:
    -"المنزل رقم 26 ب".
    -"تعني الشقة المقابلة لهذه الشقة ؟".
    -"نعم ".
    عندها ضحك مادي ضحكة صغيرة صافية وكأنه يستمع إلى طرفه ظريفة لم تكتمل بعد. ونجح فى كتم فيضاً من الفضول. فالمرأة العجوز-هاس- التى تقيم فى الشقة المقابلة 26ب هى بالنسبة لمادي لغزاً لم يجد أي رغبة للتفكير فيه أو السعي لحله. فقط كان يفكر أحياناً أن حياتها لابد وأنها صعبة. فهى على الأقل تكاد تكون وحيدة، دائماً، لا يزورها أحد. فقط تربي ######ا و ثلاث قطط. أن الحياة أحياناً تجعل جوار الضرورة أمراً روتينياً حتى أن بعض الناس يشعرون بمأساة الناس الذين يشاهدونهم على القنوات التلفزيونية، ولا يشعرون بأي شيء تجاه ما يحيق بجيرانهم الذين يشاركونهم نفس البناية .

    لمادى فكرة ما سيئة عن هذه المرأة وبنفس القدر فأنه كثيراً ما يحس بأنها تحمل شعوراً غير طيب نحوه، ولو أن كليهما كان جيداً فى نفاقه تجاه الآخر. المرات القليلة التى اشتبكا فيها بالكلام تكاد تحصى على أصابع اليد الواحدة وكان مصدرها غالباً وضع أكياس القمامة وأحياناً فوضي القطط، زيارة قطط هاس الثلاث شقة مادي كل ما سنحت الفرصة، واحتفاظ مادي بها لبعض الوقت، الشيء الذي يثير غضب الأرملة هاس. لكن لا شيء غير ذلك يكاد يجمع بينهما بمعنى التفاعل إيجاباً أو سلباً برغم جوارهما الذى استمر بضع سنوات. كانا يتبادلان عبارات التحية أحياناً بشكل خجول ومقتضب، متى ما تصادفا، مثلاً فى الممر المؤدي إلى مدخل العمارة أو عندما يفتحا أبوابهما فى وقت واحد. وكثيراً ما ينطقا بتحية روتينية فى وجه بعضهما البعض، فى وقت واحد دون أن يسمع أحدهما ما قال الآخر على وجه الدقة. ذلك ربما عنى على أي حال أن شيئاً من العقد الاجتماعى يشبه العرف والعادة قد أخذ ينشأ بينهما بشكل تلقائي. بمعنى أن يعيشا جيراناً دون أن يحاول أياً منهما التعرف إلى الآخر أو أن ينتابه شيء من الفضول الفاعل تجاه حياته.
    فتح مستر دافريز صدره لمادي و شرح بتفصيل وافى لماذا هو الآن هنا. وكان يتحدث برنة حزن واضحة :

    -" المرأة التى تسكن جوارك كانت زميلة زوجتي فى المدرسة المتوسطة، كانت أحد سبع بنات فى ذلك الأوان كن صديقات حميمات لزوجتي أيام الصبا الباكر. وزوجتي الآن مريضة جداً ".
    وظهر وجه مستر دافريز أكثر حزناً وبدت جفونه مائلة إلى الصفرة:

    -"وقد أكد الأطباء أن حالتها ميئوس منها وأنها ربما تموت فى غضون أسابيع قليلة، أنها مصابة بداء السرطان".
    وصمت مستر دافريز لبرهة، ثم مسح وجهه بيده اليسرى وواصل:

    -" أنها تود أن ترى صديقات صباها يجتمعن حولها قبل موتها، تقول أن هذه أمنية عزيزة لديها".
    تلك قطعاً من الأنباء التى تثير الحزن فى قلب أى إنسان ناضج وسوي العقل. الشيء الذي يفسر تعاطف مادي و تماهيه مع المأساة. ذاك ما عبر عنه بقوله:
    -" أنه لأمر محزن وأنه لمن حقها أن تحاول رؤية صديقات طفولتها كل ما كان ذلك مستطاعاً ".
    ردد مستر دافريز عبارة: " كل ما كان ذلك مستطاعاً ".
    وواصل شارحاً:
    -"نعم ، منذ أسبوع تقريباً، أبحث عن عناوين عديدة، وأتصل تلفونياً، ولكنى لم افلح حتى الآن سوى فى الاتصال باثنتين، وافقت أحدهما، والأخرى صحتها معتلة، بحيث أنها ربما لا تستطيع المجيء إلى امستردام، فهي ما تزال تقيم فى ليمبورخ -فى جنوب هولندا- المكان الذى ولدت فيه زوجتي وعاشت طفولتها وصباها. حصلت بالأمس بعد جهد كبير على عنوان هذه السيدة، جارتك، ولم أجدها مساء الأمس، وأنا هنا الآن للمحاولة مرة ثانية".
    وبدا مستر دافريز فجأة متعباً ما دعى مادي ليقترح بتعجل:
    -"سوف أذهب لأرى إن كانت السيدة موجودة الآن أم لا، الا ترى أن هذه فكره جيدة ".
    لم يكن مستر دافريز مع هذه الفكرة بدايةً غير أن مادي نفذ فكرته بطريقة تعسفية دون أن ينتظر إجابة مستر دافريز أو يذعن إلى اعتراض قد يبديه. ترك الضيف فى البيت وقذف بنفسه كالصاروخ ليدق الباب المجاور .

    فتحت الأرملة هاس الباب. كان مادي متعرق اليدين:
    -"أيتها السيدة هناك ضيف جاء من أجلك رجل طاعن في السن يقول أن زوجته كانت صديقتك و..." .
    قاطعته هاس وفى عينيها ريبة وإستياء:
    -" ضيف!. ضيف من؟. أنا لا أري أحداً معك الآن ولا افهم ما تعني".
    وحاولت هاس إغلاق الباب في وجهه. لكن مادي ألح عليها بالرجاء وشرح لها أن هذا الضيف متعب جداً وتصادف أن دخل منزله:
    -" وهو الآن موجود هناك".
    فى تلك الأثناء كان مستر دافريز قد فتح الباب، وقف على العتبة ينظر ما ستسفر عنه المناقشة، مستسلماً للعزم الذى أبداه مضيفه. ولما كانت المسافة الفاصلة بين الشقتين لا تتعدى ثلاث أمتار فأن هاس قد تأكدت بعض الشيء من صحة ما قاله الشاب الذى اجتهد فى شرح المسالة و دعاها بإلحاح إلى دخول بيته لمقابلة ضيفها وكان يكرر مبرراً:
    -"انه متعب جداً ".
    تقدمت المرأة بتلكؤ واضح نحو مستر دافريز وحيته باستغراب وهو إذ ذاك ما يزال يقف على حافة عتبة الباب. نظر إليها مستر دافريز مبتسما:
    -" أنا دافريز زوج انكا فان كوك، ألست أنت السيدة هاس فان هارن؟."
    أجابت هاس بالإيجاب غير أنها قطبت حاجبيها مما احدث طيات إضافية على جبينها فبدت شمطاء أكثر مما هى عليه وقالت إنها لا تذكر هذا الاسم
    -"أنكا فان كوك! ".

    وقبل أن يجد مستر دافريز الفرصة ليشرح المسألة واصلت هاس:
    -"لكن قل لى ما الأمر؟".
    اتكأ مستر دافرايز على الزاوية الخارجية للباب وأخذ في بضع دقائق يشرح الخطوط العريضة للحكاية المؤسفة، قبل أن يفاجئهما مادى بطريقة هي الأخرى تعسفية حيث اقترح أن كانا يودان إكمال حديثهما بالداخل، وقد عنى بالداخل بيته، لكنه لم ينتظر الإجابة وأخذ السيد والسيدة من أيديهما ووجه الحديث إلى هاس :
    -" السيد متعب جداً، أرجوك أن تدخلي لتدعينه يكمل حديثه معك على الأريكة، أستطيع أن أحضر لكما القهوة إن كنت تحبين ".
    قبل أن يكمل مادي حديثه كان ثلاثتهم داخل البيت. علاقة مادي بمستر دافريز ربما كانت و حتى تلك اللحظة من الألغاز الباعثة لفضول هاس. أحيانا بعض العادات الاجتماعية الراسخة قد تخرق وتنهار كلية لمجرد فيض من المشاعر الوجدانية.

    تذكرت هاس كل شيء وأصبحت أكثر ليناً وعاطفة وبدت محزونة وآسفة على ما ألم بصديقة قديمة منسية.
    بعد أن ضرب مستر دافريز موعداً مع هاس عصفت لحظات من الصمت بالمكان. هاس استغرقت فجأة فى الذكريات البعيدة. مستر دافريز استسلم لأحزانه. ومثل تلك اللحظات الفريدة لا تتيح لشاب فى وضع مادى فرصة لقول الكثير. غير أن مستر دافريز أخيراً قطع رتابة الصمت، قائلا:
    -"لقد توجب على أن أذهب الآن ".
    و شكر هاس على تفهمها وقبولها الحضور مساء الأحد إلى دار رعاية مرضى السرطان وأخذ فى نهوض متعثر. فى تلك الأثناء شرع مادي فى لبس حذاؤه الجلدى السميك؛ وبينما كان لا يزال مشغولاً برباط حذاءه؛ طلب شيئاً بطريقة مفاجئة لم تخطر أبداً على بال مستر دافريز:
    -"سأذهب معك أيها السيد لزيارة السيدة المريضة، إننى أود أن أراها ".
    ثم واصل متسائلاً:
    -"هل السيدة ستوافق على زيارتي لها؟. وهل أنت موافق أيها السيد؟" .

                  

العنوان الكاتب Date
رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:16 AM
  Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" سفيان بشير نابرى08-06-11, 02:20 AM
  Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:22 AM
    Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:31 AM
      Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:37 AM
        Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" سفيان بشير نابرى08-06-11, 02:43 AM
        Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:44 AM
          Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:50 AM
            Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 03:01 AM
              Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" سفيان بشير نابرى08-06-11, 03:15 AM
              Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 03:21 AM
                Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 03:35 AM
                  Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 03:39 AM
                    Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" سفيان بشير نابرى08-06-11, 05:47 AM
                      Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 04:50 PM
                        Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" سفيان بشير نابرى08-06-11, 06:04 PM
                          Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 11:07 PM
                            Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-07-11, 02:55 AM
                              Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-07-11, 07:16 PM
                                Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-15-11, 03:35 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de