رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction"

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-18-2024, 08:50 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2011م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-06-2011, 02:22 AM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5487

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    *** 1***

    1999 يوليو 23 ، صباح الجمعة الساعة السابعة والنصف. إذا قدر لك في ذلك اليوم وفي تلك اللحظة و ان كنت تسير لغرض ما في شارع فانمولنار الضيق الذي لا يتسع لأصغر سيارة فلوكسفاجن وتصادف مرورك في ذات الوقت بمحاذاة الشقة الأرضية الصغيرة رقم 24 ب ، لكنت حتماً قد سمعت بوضوح صرير المنبه الإلكتروني الموضوع على الحافة الداخلية للنافذة ذات الستارة الحمراء الداكنة ،حوالي نصف متر من رأس الشخص الذي كان قبل لحظة واحدة ينعم بنوم هانئ لم تكد تشوبه أي أحلام مزعجة طوال تلك الليلة التي خلت.

    خلع الشاب الصغير "مادي" رأسه أجعد الشعر من تحت الغطاء و أستل يده اليمنى ليوقف الصفير الذي ما عاد يلزم. ظل لبضع دقائق يرقد في مكانه كونه يحس بالثقل الطبيعي في جسد إنسان فتح عينيه لتوه من نوم عميق استمر لأكثر من سبع ساعات. لغير ما سبب موضوعي قضى حوالي ثلاث دقائق يجهد في استعادة هيئة رجل أبيض وقف على بابه مساء اليوم الفائت ـ الخميس ـ شخص طاعن في السن؛ أعتذر بلغة قاعدية صارمة لإخطائه العنوان وشاهده مادي بعد ذلك يقف على الباب المقابل ـ 26 ب ـ حيث تسكن الأرملة هاس، و قاده ذلك الي تذكر لقائه قبل ثلاث سنوات مضت برجل أسود طاعن في السن بدوره وكان مرحا وينطوي علي بعض الحكمة، و أحتفظ له مادي بصورة فوتوغرافية موجودة مذ ذاك الحين في ألبوم وضعه في أحد أدراج خزانته.

    ثم نهض مادي أخيراً بتثاقل واضح ولو بدأ الدم ينبض في عروقه بوتيرة أسرع، حينما تذكر أن ذلك اليوم هو اليوم الأخير للعمل بمصنع شموع أعياد الميلاد، حيث تعقبه الإجازة الصيفية التي عادةً ما تستمر لأكثر من شهر. لم تكن الإجازة شيئاً بهجاً بالنسبة لمادي بالنظر إلى تجربة إجازة العام الماضي، لقد أحس بالفراغ وقضى معظم تلك الليالي يشرب الخمر بلا توقف تقريباً، وكان أشبه بإنسان فاقد الهدف. إجازة هذا الصيف إلزامية وكان متوقعاً أن تستمر حتى ربما أكثر من شهرين بسبب أعمال صيانة شاملة لمباني وأدوات المصنع أعلنت عنها الإدارة في وقت سابق. الفكرة التي خطرت لمادي في البحث عن عمل مؤقت يناسبه خلال تلك المدة، أمر لم يكن ليعول عليه إذا ما وضع في الاعتبار المنافسة العالية في سوق العمل الصيفي على بساطة أنشطته، خصيصاً من طلبة المدارس والجامعات من هم في عمر مادي. إضافة إلى أن مادي لا يتمتع بخبرات في أعمال منوعة وربما تعوزه الكفاءة. لهذه الأسباب التي كان يضمرها عقله الباطن لزم شعوره شئ يشبه الحزن على مر الساعات الأولى من ذلك الصباح، (نفس تلك الأحاسيس غير المريحة عاودته ظهيرة يوم الأحد التالي لسبب آخر). أحتسى آخر جرعة من قهوة الصباح وارتدى ملابسه على عجل، بنطال جينز وقميص أزرق ذو أكمام فضفاضة تقوم في وسطه دائرة سوداء تقع أعلى البطن مكتوب عليها في لون أبيض عبارة: أحب موسيقى "الريقي". وقبل أن يهم بالخروج ألقى نظرة على المرآة وهو إذ ذاك ما يزال يصلح من شعر رأسه الذي لاحظ أنه استطال اكثر مما يحب له أن يكون.
    مادي ذو هيئة مستقيمة وحسنة طوله حوالي ست أقدام، عوده أقرب إلى الامتلاء، ولو بدت سواعده نحيفة ورشيقة، كسواعد النساء الجميلات بمقاييس هذا العصر. شعر رأسه كثيف وخشن الملمس، ذو وجه دائري يحفه عظمان بارزان مما جعل عينيه تبدوان غائرتان تحت حاجبين سميكين يكللهما شعر أملس شفيف لا يكاد يرقد على جهة. أنفه صغير بشكل مناقض للتوقعات وذو فتحتين بارزتين مما جعله في بعض تلك الملامح أقرب إلى هيئة رجل صيني. و لون بشرته على وجه العموم يبدو أسمرآ، لكن أحدهم لن يبلغ دقة الوصف إذا طلب منه ذلك إلا إذا استطاع بهبة عقل رفيع الخيال؛ أن يمزح الصبغات الوراثية لبشرة رجل أحمر من الصحراء بتلك التي لإمرأة رصينة الزنوجة.

    مادي بلغ من العمر -بحلول صيف عام 1999- أحدا وعشرين عاماً. والده هو المعلم نصر الدين مساعد الولي. وأمه هي فاتومة جمعة تونقا. كان والده مدرس لغة إنجليزية مرموق بمدارس الخرطوم القديمة الحكومية العلياء، وتصادف أن أصبح في بداية العهد العسكري الثاني سكرتيراً لنقابة المعلمين المركزية. ولأسباب قاهرة اضطر للهرب براً إلى بورجوازا.
    كان المعلم نصر الدين الولي رجلاً شديد المراس ومشاكس، يصف أعداءه بالطفيليين سارقي قوت الشعب. ويجاهر ببغضه لكل اليمين السياسي فى السودان. وهو برغم انه لم يعرف بكونه شاعراً؛ كتب القصيدة الملحمية الشهيرة المسماة بالحزن الشهيق؛ بمناسبة ذكرى اغتيال أحد أصدقاءه؛ من رموز اليسار السياسي فى السودان.

    قال عنه أعداءه الكثر ما قالوا ، حبسته أجهزة الأمن فى السجن، أطلقته ثم حبسته، وعانى فى سجن كوبر فى الخرطوم بحرى شتى صنوف العذاب، ثم بعث أخيراً إلى سجن شالا فى غرب السودان؛ ليقضي عقوبة السجن المؤبد. و تسنى له بعد حين الهرب من سجن شالا، ومن ثم الفرار إلى بورجوازا- متاهة العدم والخراب- وعاش هناك حياة مختلفة باسم مستعار والتقى فاتومة وعاشا معاً وانجبا الطفل مادي فى ظروف قل ما توصف به أنها كانت صعبة. أختفى نصر الدين الولي بعد حين فى ظل أوضاع غامضة أثناء الفوضى التى اجتاحت بورجوازا بعد مقتل الإله كورا -عمدة المدينة-. وما دل على سوء مآله تصادف أن وجدت فاتومة بعض قدمه اليسرى على مقربة من الجدار الخارجي للدار، وكان سبق وأن تشاور معها عده مرات حول إمكان إنقاذها والطفل مادي عبر الهرب إلى مكان آخر آمن، وقام بالفعل بخطوات عملية فى سبيل تحقيق تلك الخظة " الحلم". وكتب عدة أوراق روى فيها بعض ذكرياته فى مراحل مختلفة ، وكتب رسالة واحدة خص فيها الطفل مادي بما أراد قوله. ‎

    من سوء حظ نصر الدين الولي أن زملاءه فى اليسار السياسي بدءاً لم يعترفوا له بمبادرات صعبة قام بها لوحده، واعتبروها من قبيل التطرف السياسي. وكان وحده صمداً. غير أن ذلك ربما كان هو أحد أهم الأسباب التى دفعته إلى متاهة العدم و الخراب وجعلته من قبل هدفاً مباحاً لخصومه، شجبوا سلوكه الأخلاقى واتهموه بكل باطل. قالوا انه من حزب الشيطان، ضد الله، الباطل ضد الحق المطلق. كان يشرب الخمر يوم الجمعة ولا يستتر. قيل أن خصيته اليمنى فقدت بعد اعتقاله بواسطة البوليس السياسي أثناء التحضير للاحتجاج الجماهيري المعروف بثورة أكتوبر ، فاصبح فيما بعد يهزأ به خصومه؛ بان أكدوا على تلف خصيته اليمنى لكنهم زادوا على ذلك بأن قالوا ان عينه اليمنى أيضاً تالفة فهو لا يرى غير اليسار، واليسار يجانبه النور فى شرعهم.
    وعندما غضب يوماً من زملاءه فى اليسار أعلن شيئا يشبه التخلي عن صموده فى الخط الذى رسمه لنفسه وتحول إلى مجرد نقابي من الطراز المحترف، لكن لم يصدقه أحداً من خصومه، فالتهمة التى ألصقت به لا تذوب بسهوله .
    يروي بعض الناس الذين هم على عهد بالعائلة حكاية حول أصل فاتومة؛ لا يمكن تصديقها بالكامل، كما بنفس القدر لا يمكن تكذيبها؛ ذلك أنها - فاتومة - من آل تونقا تلك الأسرة التي حكمت جزر الفيجي وما جاورها في عهود تاريخية مختلفة. هاجر بعض أسلافها إلى جنوب أفريقيا في أول الأمر؛ لأسباب لخصها الرواة في الصراع الذي سبق موت الزعيم لاوفيلي تونقا -قبل عام 1865-، وتزوج تونقا -الوافد الأول- بإمرأة من أحد عشائر الزولو، كان والدها يعمل في أحد -إقطاعيات- مزارع قصب السكر في أقليم ناتال؛ يملكها مستعمر أبيض حاز عليها بقوة النار. ثم رحل آل تونقا إلى بوركينا فاسو عند بروز أسباب حرب جديدة -أيام عهد التوسعات الإمبريالية في جنوب القارة الأفريقية-، غير أن استقرار آل تونقا لم يدم طويلاً بعد الجفاف والقحط الذي أصاب معظم أرجاء أفريقيا الغربية وحط ثقله في بوركينا فاسو؛ في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ذلك ما دعى آل تونقا إلى استئناف ترحالهم إلى ارض أخرى توقعوا أن تسعهم برحابة، كانت تلك البلاد هي السودان؛ حيث استقروا لبعض الوقت في أحد أطراف مدينة أمدرمان التي أصبحت للتو عاصمة للدولة المهدية بقيادة الإمام الصوفي محمد أحمد المهدي. وقيل أن تونقا الكبير قاتل ببسالة ضمن صفوف جيش الإمام المهدي في مواجهة جيش الاحتلال التركو-إنجليزي؛ ومات برصاصة اخترقت صدره في معركة توشكي. ثم ما لبث أن أختلف أبناء تونقا الكبير مع خليفة الأمام فرحلوا إلى بورجوازا .كانت فاتومة ربة بيت ممتازة وعاملة صبورة، تهتم بمظهرها بشكل "ملوكي" ومعروف عنها في بورجوازا إنها امرأة جميلة، تحب النظافة والنظام.

    لم تؤثر على عقل فاتومة على الإطلاق حقيقة المعلم الهارب؛ الذي جمعها به ميدان العمل، و مكان السكن ثم اختارته واختارها؛ وعاشا معاً كل الوقت، حتى جرى ما جرى من أقدار، وضاعت فاتومة في عرض المحيط الواسع الموبوء بالحيتان؛ أسقطت من على ظهر الباخرة التجارية المبحرة إلى امستردام عبر ميناء روتردام. فلم يكن بوسعها الخلاص. غير أن مادي استطاع إكمال الرحلة. نعم، إن ثمة بذرة صغيرة من آل تونقا فوق أرض مدينة امستردام .
    وكثيرا ما تساءل مادي في دخيلته - عندما أكتشف الأوراق بحوزته و استطاع فهم بعض ما ورد فيها. لماذا يا ترى قرر نصر الدين الولي سلفاً -قبل اختفاءه- عدم الفرار من بورجوازا برفقه أسرته‍؟!. أصحيح أن المعضلة تكمن في المال اللازم؟! بمثل ما كتب في رسالته يخاطب طفله : (و لتعلم ان تكاليف الرحلة كبيرة و المال الذي بحوزتي لا يكفي لسفرنا سويا. سأبقى هنا ولن أغادر معكما سأفي بوعدي. سابقى في بورجوازا تتقمصني روح كورا؛ أحارب الفوضى و الجزام)!!.

    وحدث أن كتب نصر الدين الولي -في مذكراته-: أن صديقه مستر يوب على استعداد تام لفعل أي شيء مستطاع لمساعدته. ومستر يوب فيما يبدو كان: (شخصاً مقتدرا). ألا يبقى شك مادي لا تجانبه الموضوعية؛ اذا ما فكر في أن والده تخلف هناك -في بورجوازا- بقصد مدبر!. و أفاض في قصة نقص المال كي يقنع فاتومة كي تسعى الى تخيلص نفسها وإبنهما من بشاعة الواقع الماثل ليتفرغ هو للشيء الذي أراده، و الوعد الذي ارتضاه لنفسه أمام الإله كورا!. أم انه كره الفرار مرة ثانية؟ . لكن مادي لم يكن بوسعه القطع بهذا أو غيره. وفي الواقع فإن مثلتلك الأشياء لم تعد تشغله كثيرا بقدر المشاغل المفروضة من واقعه الجديد؛ في مدينة حديثة بالمعنى الأوروبي للكلمة: مصانع جبارة؛ تنفث الدخان الحارق بعيداً فيبدد غلاف الأرض، شركات عملاقة؛ تستثمر أموالها الفائضة في الخارج؛ في أفريقيا، آسياء، أميركا الجنوبية و في أوروبا نفسها. إزدهار إقتصادي و سوق حر. تكنولوجيا. نظام إجتماعي راسخ يعطي الحقوق لكل مواطن بقسطاط لا يخطىء المقام. مدينة، ضوضاء. مجتمع مدني. حرية، "فردانية مطلقة، قلق!، خوف! ". كل شيء -كما يبدو- موضوع بعناية عقل ألتزم الجمال وقصد الكفاءة: المباني، الشوارع، البيوت، الشواطىء، القطارات، المطبوعات، القانون، القلق والخوف وربما حبيبات المطر. نظام؛ ضبط. رضا سياسي: حتى أن رئيس الوزراء يستطيع التنقل بين بيته ومكان عمله معتمدا على الدراجة الهوائية في بعض الأحيان، ولا يحدث له مكروه؛ لا يعترض طريقه أحد، فقط بعض المارة يلوحون له بأيديهم، لا يلوون، ولا تكاد تكون في صدورهم ضغينة واحدة.

    بغية الوصول إلى مصنع شموع أعياد الميلاد أخذ مادي كالعادة الباص رقم 76 -حافلة كبيرة تسع ربما أكثر من ثمانين راكباً وتعمل بالكهرباء- ذا خلفية زرقاء معتادة، وقد بدا سطحه الخارجي مثل أي جريدة تجارية مختصة، حوالي سبع إعلانات في كل جانب أهمها وأكبرها صورة ساندوتش هامبرقر . جلس مادي تلك المرة في أحد المقاعد وسط الباص قبالة امرأة نحيلة مصفرة الوجه، وبدا وكأنها غاضبة من شئ ما. في المقعد الخلفي مباشرة كان أحدهم يقرأ صحيفة ما، يقبضها ويبسطها بين لحظة وأخرى؛ محدثاً فرقعة ورقية غير محببة. كان زيادة علي ذلك يطلق ضحكات صغيرة بين الفينة والأخرى. مما جعل مادي يشك في أن هذه الصحيفة ربما كانت إصدارة خاصة بالطرائف. ولما كان مادي يحب الطرائف و يبرع بشكل معقول في حفظها و روايتها، فانه كان يجاهد فضوله أن لا يلتفت إلى الوراء، لأنه ظن في تلك اللحظة لغير ما مبررات كافية أن هذا السلوك قد لا يكون لائقاً؛ بمعنى انه ربما كان غير حضاري. وعلى العموم فان بعض الناس يدينون الفضول ويعتبرونه أحد الرذائل. غير أن ضحكة مدوية ملأت كل أركان البص الذى كان بقية ركابه في غاية الالتزام بالهدوء، ما جعل مادي بشكل خارج عن الإرادة يدور إلى الخلف صدراً ورقبة . هذه الحركة الفيزيائية أنتجت تمدداً لساقيه ، ما جعل ركبته اليمنى تحتك بالمرأة مصفرة الوجه دون أن يستدرك هذه الواقعة في أوانها وذلك ما دعى المرأة إلى القيام بمهمة إزاحة ساقه بطريقة غير ودية؛ بل تتسم بالعنف. ولم تنطق بكلمة واحدة، لكنها أطلقت هواءً كثيفا ذا صفير مسموع من بين أسنانها، وصار وجهها أكثر اصفراراً من ذي قبل، وبرزت عروق بنية داكنة تحت جلد عنقها الذي استطال وظهر كرقبة نعامة تهم بالفرار.
    "ليس هناك شئ لعمله اليوم، كل ما عليك هو الاستمتاع بحفل نهاية العام العملي".
    هكذا أوضح المدير المباشر بقسم التعبئة والتغليف لمادي بينما كان يرتقي السلالم إلى الطوابق العليا. في البهو المخصص عادة لإطعام أكثر من أربع مائة عامل وموظف؛ وجد مادي ستة أشخاص منهمكون في عمل الزينة وترتيب أرضية المسرح. تأكد من كونه قد جاء باكراً جداً على أي حال.

    من على المنضدة الكبيرة الملقاة على مقربة من بوابة البهو؛ استطاع مادي الحصول على نسخة من برنامج الحفل، وكان قد أنب نفسه قبل لحظة واحدة على عدم اهتمامه بمعرفة أحداث اليوم؛ إذ أنه لو كلف نفسه نهار الأمس وقرأ مثلاً لوحة إعلانات الإدارة لما حدث ما حدث له الآن ، إذ أنه على الأقل كان سيعرف ما ينبغي أن يفعل. عاين الورقة المستطيلة بإمعان؛ مدققا في تفاصيل برنامج الحفل.

    عند الساعة 15.30 إفتتاح ثم كلمة مدير المصنع...
    الساعة "..." كلمة ممثل العاملين... و نقاش مفتوح بين العاملين و ادارة المصنع. و فاصلة (قهوة، شاي).
    ثم موسيقي و رقصات من فرقة الفنون الشعبية... إلخ.
    لم يجد مادي في البرنامج شيئاً يروقه وكل ما كان يعنيه بشكل مباشر هو أخر جملة في تلك الورقة :
    "سوف تقوم الإدارة بإخباركم لاحقاً عبر البريد عن بداية العام العملي الجديد نسبة لأن أعمال الصيانة في المصنع قد تستمر لوقت لا يمكن تحديده الآن بشكل دقيق".
    أعاد ورقة البرنامج مرة ثانية إلى المنضدة. وضع يديه في جيوب بنطاله وحنى ظهره؛ بينما كان يعاين البالونات الكبيرة الملونة عند المدخل وعلى السقف؛ والشموع المختلفة الأشكال والألوان؛ في موائد دائرية موضوعة حول منصة المسرح، وكان بالقاعة حوالي مائة مائدة كبيرة تحيط بكل واحدة منها أربع مقاعد، وفوق كل مائدة أربع فوط صفراء تغطي سطحها العلوي، وفوق كل فوطة ثلاث مناديل ورقية بيضاء. كان كل ذلك وغيره من التفاصيل الصغيرة في القاعة شيئاً يؤكد لمادي أن الحفل سيكون مهيباً. غير أن مادي خرج في طريق العودة إلى بيته وقرر في دخيلته أن لا يعود مرة ثانية. ولأنه كان يعرف جيداً أن لديه من الوقت ما لا حاجة له به، قرر الوصول إلى بيته ماشياً على أقدامه تلك المرة.

    المسافة التي وجب عليه سيرها حوالي ستة كيلو مترات. سيمر أولاً على مركز المدينة والسوق الرئيس في أمستردام، الواقعة ثلاث كيلومترات ناحية الشمال من المصنع. عند مروره بمحطة البص رقم 76 توقف قليلاً، وأطرق ناظراً إلى الأرض وكأنه يتأمل دبيب حشرة صغيرة لا تكاد ترى بالعين المجردة، ثم أشعل سيجارة وواصل سيره في اتجاه الطريق السريع؛ حوالي نصف كيلومتر، ثم انعطف يميناً في اتجاه السوق الكبير دون أن يكون التسوق هدفاً معقولاً لديه. بطريقة لا مبالية صد الكرة الحمراء الصغيرة التي سقطت أمام قدميه إلى مجموعة من الأطفال؛ يلعبون على حافة الطريق ويثيرون ضوضاء محببة، فانزلق من جراء ذلك دون أن يلحظ سائراً في الشريط الضيق المخصص للدراجات الهوائية؛ قبل أن ينبهه رجل بدين ذو شوارب بنية داكنة بطريقة غير ودية؛ مشيراً إلى الطريق الأخر المخصص للمارة. لقت من على الأرض علبة سجائر مارلبورو، تبدو جديدة، وجدها فارغة مزقها بعناية فائقة إلى قطع صغيرة ، لاحظ أنها كانت تتساقط من يديه على الأرض، فقذف ما تبقى من الفتات في أحد صناديق القمامة الموضوعة على جانبي الطريق. على يمينه وشماله تمتد المنازل بشكل روتيني ومنظم كما هو الحال في كل المدن الهولندية الكبيرة مثل -أمستردام ، روتردام ، لاهاي وأوترخت- وترتفع رويداً رويداً كل ما اقترب من مركز المدينة حتى تخلص إلى عمارات يتراوح ارتفاعها بين أربع إلى أربعة عشر طابقاً ، تنقسم العمارة الواحدة إلى عدة شقق تخصص للسكن وغالباً ما يؤمها الفقراء من الناس، الأغنياء لديهم المقدرة على تجنب تلوث وضوضاء المدينة. في قلب مركز المدينة كما هو الحال في معظم دول العالم "الصناعي و الآخر"، تبقى مبانيه مخصصة في الغالب للأعمال التجارية المنوعة والمكاتب الحكومية. كانت على يساره طريق العربات التي تفصله عن الحزام الأخر من المباني المتلاصقة، تتخللها دوائر من الزهور ذات ألوان حمراء وبيضاء وبنفسجية ممتدة على طول الطريق. وكان بعض رزاز من المطر يتساقط بوتيرة منتظمة منذ الساعات الأولى من ذلك الصباح وحتى الظهيرة وكأنه مبرمج كمبيوتريا.

    عند مقدمه على طرف مركز المدينة مسح شعر رأسه بكلتي يديه وعبر الشارع إلى اليسار ليدخل أول مقهى يصادفه.
    طلب في بداية الآمر كوباً من الشاي لكنه غير رأيه في الحال وصاح في النادل:
    -" افضل لو سمحت عصير البرتقال".

    تذكر بعد ذلك أنه يستطيع الذهاب إلى مكتبة البلدية. لديه بطاقة عضوية تمكنه من استعارة المواد التي يبتغيها. تفحص ثلاث جرائد محليه بطريقة عجلي ومجلة "النيوزويك" الأمريكية. مادي يجيد اللغة الإنجليزية قراءة وكتابة. كان والده مهتماً بتعليمه ابان طفولته الباكرة فى بورجوازا. المواضيع الأهم في كل ما قرأه: حقائق جديدة حول علاقة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الجنسية بامرأة جميلة تدعي مونيكا لونيسكي، تقرير مفزع عن احتمال تفشي جنون البقر في بريطانيا، وشيء ما لفت انتباهه عرضاً: إعلان في قلب النيوزويك عن رواية جديدة تحت عنوان: "الفرح الكوني العظيم" . ثم تجول في قسم المواد السمعية والبصرية، ثم في قسم الكتب المترجمة. فاستعار "سي دي" لمجموعة مختارة من أغانى ال " روك آند رول"، شريط فيديو لفلم "التايتانك"، و أستعار أيضا كتابين أنتقى أحدها بعناية: رواية الكيميائي، لباولو كويلو، أبطالها أناس ظلوا ينقبون في غيابة الصحراء عن كنوزهم المدفونة في دواخلهم!.
    خرج من المكتبة وأخذ زقاق ضيق أفضى به إلى شارع السوق الرئيسية المزدحمة بالمارة، وضع قطعة معدنية من فئة (25) سنت في القبعة المتسخة الموضوعة أمام طفلة متدثرة بملامح الغجر؛ وتعزف علي آلة الكمان بطريقة ركيكة. دخل ثلاثة محال للملابس الجاهزة وخرج منها ليدخل محل مجاور للموبيليا، ليخرج في خلال ثلاث دقائق، ومن ثم ليدخل عدة محال للملابس الجاهزة ، الأحذية ، العطور ومعتمدية شركة التلفونات النقالة "الموبايل".

    ابتاع بطاقة تلفون ممغنطة و "ريموت كنترول" وضعهما في حقيبة بلاستيكية بجانب الأشياء المستعارة. عندما شعر بالتعب وعدم الرغبة في التجوال اكثر مما فعل، واصل سيره في طريق البيت. لكنه لم ينس وكما يفعل كل نهاية أسبوع أن يزور محال البرتهاين للمواد والأغذية الاستهلاكية. ابتاع كيس من شرائح الخبز، نصف كيلو من الجبن الهولندي التقليدي ، نصف رطل من الفستق و سبع زجاجات بيرة من ماركة هاينكن. تلبدت السماء فجأةً بغيوم سوداء، و أزدادت وتيرة تساقط المطر؛ حتى لقد صار النهار في ظلمة الليل، فشعر مادي بتدني درجة الحرارة بشكل غير متوقع في مثل ذاك الوقت؛ مما جعله يسرع الخطى.

    في غرفة الجلوس ذات الواجهة الزجاجية المطلة على الشارع الضيق استراح مادي علي الأريكة ذات اللون الأحمر الناصل لبضع دقائق، ثم نهض بعدها وفي عزمه ترتيب غرفة الجلوس، أزاح الستارة من علي الواجهة الأمامية الزجاجية؛ كانت مترعة بالرطوبة. نظف المنضدة البنية الداكنة بخرقة مخصصة، أصلح من وضع الأريكة التي ألفاها منحرفة قليلاً ناحية الركن الأيسر المقابل للنافذة الرئيسية ملتصقة بالخزانة الطافحة بالأوراق، أوقد المدفأة الغازية علي نار صغيرة هادئة، أشعل ثلاث شموع صغيرة ملونة فرقها علي ثلاثة أركان في البيت، وشمعة أخرى كبيرة نسبياً وضعها فوق المنضدة البنية ، أدار جهاز "التلفزيون" بطريقة تلقائية دون أن يهدف إلى مشاهدة برنامج محدد، ثم جلس كعادته وسط الأريكة، يغشاه شعور بالارتياح والرضا. يبدو أن مادي مهما كان إحساسه بالعزلة والفراغ يمكن أيضا أن يصيبه الارتياح والرضا؛ لمجرد انه قد نجح في عمل شيء ما كان قد خطط له ولو للحظة واحدة من الوقت؛ مهما كان هذا الشيء صغيراً أو ########اً في نظر الآخرين.

    خطرت له بعد كل ذلك فكرة صغيرة أشرقت في نفسه بالبهجة، فكتم صوت التلفزيون جاعلاً من الصور أشباح بكماء. كان ذلك تحديدا بعد استماعه -لماماً- لبعض عناوين أخبار الساعة الخامسة؛ بثلاث دقائق:
    " البرلمان يناقش مسودة قانون الأجانب الجديد، الإستنساخ البشرى يثير جدلاً كبيراً ولكنه حقيقة تلوح فى الأفق، متحدث من دائرة البوليس يعلن عن إلقاء القبض على عصابة محترفة إعتادت تهريب الحشيش الى دولتي ألمانيا وبلجيكا عبر حدود البلاد، ستة وخمسون رجلاً وامرأة يقضون؛ أثر غرق باخرة صغيرة كانت تعمل على تهريبهم من أفريقيا الى شاطئ أوروبى و... ". ومن ثم شرع مادي في الاستماع لاغاني "الروك آند رول" علي جهاز ال "دي في دي"، صب نصف زجاجة البيرة الأولى في الكأس الزجاجية المزركشة بعدد لا محدد من الخطوط البيضاء الرفيعة المتقاطعة، وهو برغم إعجابه بها فى تلك اللحظة، إلا انه لا يذكر من أين حصل عليها ولا متى، أزاح المنضدة البنية قليلاً من علي أرضية وسط الغرفة. ولبرهة من الوقت اخذ يرقص في حركات بطيئة، ملوحاً بيديه في الهواء جاعلاً رأسه يسقط علي صدره باسترخاء، وبرغم انه بدا كالمخمور فهو حتى ذلك الحين؛ لم يتعاط ولا حتى جرعة واحدة من الكأس التي صبها لنفسه. ثم عاود جلوسه وسط الأريكة بعد أن أعاد المنضدة إلى مكانها المعتاد، فك رباط حذاءه الجلدى السميك اسود اللون ، شرع في بسط ساقية في الفراغ القائم بين أرجل المنضدة البنية و جذب نفساً عميقاً استزفره بطريقة هادئة ومتقطعة؛ بينما كان يشاهد علي شاشة التلفزيون امرأة جميلة الوجه؛ ذات عينين خضراوين تنفثان بريقاً مثيراً للغرائز، فعمد في اللحظة إلى إيقاف جهاز ال "دي في دي" ورفع صوت التلفزيون عله يسمع ما تقوله تلك المرأة الجميلة:

    -"سيداتي آنساتى سادتي، مشاهدينا الكرام، بعد قليل سنلتقي مع الكاتب الأمريكى لاما دانيش مؤلف رواية الفرح الكوني العظيم ".
    ثم توارت المرأة خلف الضوء البلوري المتراقص مخلفة ورائها أطيافاً شفيفة من جنس ذلك البريق المثير للغرائز ، ورثته سحابة من الحبر الأحمر القاني اندلقت فجأةً في صدر الشاشة؛ لتعم جميع أركانها في جزء من الثانية فتحيلها إلى سماء حمراء، ويظهر خط ابيض دقيق؛ ورويداً رويداً، يتخلق بطريقة بديعة الفكرة عن فرج امرأة راشد، نما أخيراً في حجم مستطيل طوله عشر سنتمترات؛ كتبت بداخله في لون اخضر فاتح عبارة : إعلانات تجارية. ثم ما لبث أن انقشع ذاك الرسم العجيب من أمام وجه فتاة مبتسمة بطريقة مبتكره الاصطناع كاشفة عن أسنان براقة؛ ومجملة بشكل لا مثيل له في الواقع، في اللحظة التالية ظهر جسدها كله مكتمل النضج، وبديع التقاطيع وهي إذ ذاك ما تزال دائماً محتفظة بتلك الابتسامة البراقة لتقول بلهجة تبدي التنعم:

    -" كل الناس تقول لي: إن أسنانك ناصعة البياض، جميلة حقاً، صحية، وأنا امرأة صريحة، احب دائماً قول الحق ولهذا لا اخفى عليكم شي، إننى استعمل معجون الأسنان يانسوناين، لهذا أوصي كل الذين يشاهدونني الآن عليكم أن تنطقوا بالحقيقة في وجه الآخرين، الحقيقة يجب أن تملك للجميع، إنها: يانسوناين".
    ثم تتالت خمسة إعلانات تجارية بطرق مسلية وختمت بآخر سادس جاء بطريقة مختلفة وكأنه نبأ عاجل:

    -" فريق اياكس في مواجهة مانشستر يونايتد، قريباً، بإستاد "أرينا" ويتوقع أن تكون هذه المباراة معركة ضارية ، اكثر المباريات إثارة على كأس الأندية الأوروبية".
    بعد ذلك مباشرة خلا المجال لرجلين جلسا متقابلين يتحدثان إلي بعضهما البعض بطريقة تنم عن الجدية والصرامة الفائقتين، الأول مقدم برنامج حياة المشاهير وأعمالهم، والثاني ضيف برنامج الليلة، كما وصفه مضيفه:

    "الكاتب الأمريكى الكبير لاما دانيش مؤلف رواية الفرح الكوني العظيم".
                  

العنوان الكاتب Date
رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:16 AM
  Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" سفيان بشير نابرى08-06-11, 02:20 AM
  Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:22 AM
    Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:31 AM
      Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:37 AM
        Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" سفيان بشير نابرى08-06-11, 02:43 AM
        Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:44 AM
          Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 02:50 AM
            Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 03:01 AM
              Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" سفيان بشير نابرى08-06-11, 03:15 AM
              Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 03:21 AM
                Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 03:35 AM
                  Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 03:39 AM
                    Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" سفيان بشير نابرى08-06-11, 05:47 AM
                      Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 04:50 PM
                        Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" سفيان بشير نابرى08-06-11, 06:04 PM
                          Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-06-11, 11:07 PM
                            Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-07-11, 02:55 AM
                              Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-07-11, 07:16 PM
                                Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" محمد جمال الدين08-15-11, 03:35 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de