|
Re: (تابع)(الدّرس الأساسيُّ في قصّة موسى والخضرم) (Re: صلاح عباس فقير)
|
والمغزى الأساسيّ من وراء هذه المواقف الثلاثة، ومن وراء القصة كلّها، هو التّنبيه إلى أهمية الرضاء بالقضاء والقدر، والحثُّ عليه، من خلال كشف السّتار عن حقيقة هذه المواقف الثلاثة، التي تُصبح رمزاً لكلّ موقفٍ قد يمرُّ بالإنسان، إذا ما ابتُلي بمصيبة في أهله أو في ماله: أن يصبر ويستروح بما يعلمه من خفيِّ لطفه ونعمائه سبحانه وتعالى! كما أنّ في الآياتٍ تنبيهاً للإنسان، بأن يتذكر ماضيَ حياته، ليرى فيه مواقعَ العبرة، وكيف كان سلوكُه لدى حدوث بعض الأحداث الكبيرة التي تُعتبر محطاتٍ في حياته، من نجاحٍ أو فشل أو ابتلاء في النَّفس أو المال، وكيف أدى ذلك إلى ارتقاء حياته أو تدهورها! وفي هذا السّياق، قد ورد عن بعض العلماء، ما يُشير إلى أنّ هذه الأحداث الثلاثة، مرتبطةٌ بأحداثٍ هامّة في حياة سيّدنا موسى عليه السلام، قال الإمام القرطبيُّ: "قيلَ في تفسير هذه الآيات التي وقعت لموسى مع الخضر: إنها حجةٌ على موسى وعجباً له، وذلك أنه: لمَّا أنكر أمرَ خرق السفينة؛ نُودي: يا موسى أين كان تدبيرُك هذا، وأنت في التابوت مطروحاً في اليمِّ!؟ " يعني: مَن حفظكَ من الغرق سيحفظ السفينة!. "فلمَّا أنكر أمرَ الغلام؛ قيل له: أين إنكارُك هذا من وكزك القبطيِّ وقضائك عليه!؟ " يعني: كما أراد الله قتل الغلام لحكمةٍ يعلمها، كذلك أراد قتل القبطيِّ لحكمةٍ يعلمها، وجعل وكزك سبباً لذلك، وإلا فإنّ الوكز في العادة لا يؤدي إلى القتل. "فلما أنكر إقامة الجدار؛ نودي: أين هذا من رفعك حجرَ البئر لبناتِ شعيب دون أجر!؟ " (1)، يعني: أنت فعلتَ نفسَ الفعل لبنات شُعيب! "وكنت يومَها أحوجَ منك حين أتيت القرية مع الخضر" (2)، فكان ذلك سبباً في إيوائك وعملك وزواجِك من ابنة الرجل الصالح! فليس من الواجب تقييد فعل الخير بما يُقابله! أو كما قال الشاعر: ازرعْ جميلاً ولو في غيرِ موضعِه ... فلا يضيعُ جميلٌ أينما زُرِعا وممّا يؤكّد هذه المعاني، التي تضمّنتها القصّة، وما فيها من حثٍّ على الإيمان والرضاء بالقضاء والقدر، وأهمّية ذلك في الدين، ما رُوي عن الوليد، ابن الصحابي الجليل عبادة بن الصامت، قال: "دخلتُ على عُبادة، وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصِني، واجتهد لي! فقال: أجلسوني، فلما أجلسوه قال: يا بُنيَّ، إنك لن تجدَ طعم الإيمان، ولن تبلغَ حقيقة العلم بالله _ تبارك وتعالى _ حتى تؤمن بالقدر خيره وشره! قلت: يا أبتاه، وكيف لي أن أعلم ما خيرُ القدر وما شرُّه؟ قال: تعلم أنَّ ما أخطأك لم يكن ليُصيبك، وما أصابك لم يكن ليُخطئك، يا بنيَّ إنِّي سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إنَّ أولَ ما خلق الله _تعالى_ القلمُ، ثم قال: اكتب، فجرى بتلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة! يا بنيَّ، إن متَّ ولستَ على ذلك دخلتَ النَّار" (3). وعلى المسلم أن ينتبه إلى قوله صلّى الله عليه وسلم: (فجرى [أي القلم] بتلك الساعة بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة)، فهذا الّذي جرت كتابتُه، يشملُ كلّ شيءٍ في الكون، ولكن ما ينبغي أن يكون محلَّ اهتمام الإنسان خاصَّةً، هو القدر والقضاء المكتوب عليه هو، والوليد لما سأل أباه: "وكيف لي أن أعلمَ ما خيرُ القدر وما شرُّه؟ "، كان مهتماً فيما يبدو بقدره الخاصّ به، كيف يعلم بما فيه من خيرٍ، وبما فيه من شرٍّ؟ فنبَّهه أبوه إلى أنّه لا يمكن أن يُحيط بعلم ذلك، ولكن إن أراد أن تكون العاقبةُ في ذلك كلِّه خيراً، فليوقن بأنّ "ما أخطأه لم يكن ليُصيبه، وما أصابه لم يكن ليُخطئهُ"، ثمّ إذا كان ذلك القدَرُ في ظاهره خيراً؛ يشكر الله عليه، وإن كان في ظاهره شرّاً يصبر! فعندما تردُّ كلّ شأنٍ من شؤون حياتك إلى قدرة الله عزّ وجلّ وحكمته، بمقتضى ربوبيته وألوهيّته، فأنت تحقّق التوحيد في حياتك، ولذلك روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "القدر هو نظام التَّوحيد" (4)! والتوحيد هو نظام الحياة، إذن: القدر هو نظام الحياة، ولذلك فإنّ الرّضا به، كما يقول ابن القيّم: "بابُ الله الأعظم، وجنَّة الدنيا، ومُستراح العارفين، وحياةُ المحبِّين، ونعيمُ العابدين، وقرَّة عيون المشتاقين" (5). إذن، فهذا هو المغزى الأساسيّ من قصة موسى والعبد الصالح: بيان حكمة الله العليا من وراء قضائه وقدره، ليكون في ذلك حفزٌ للمؤمن على الإيمان والرّضاء!
(1) الجامع لأحكام القرآن: 11/ 33. (2) هذه المعلومة بين علامتي التنصيص ذكرها القرطبي في التفسير:11/ 24، بتصرف. (3) مسند أحمد 5/ 317، والترمذي (4155)، وصحَّحه الألبانيُّ. (4) أخرجه الفريابي في كتاب القدر ص159،160، وانظر مجموع الفتاوى: 3/ 113. (5) مدارج السالكين: 2/ 174.
|
|
|
|
|
|
|
|
|