قاطعوها .. وقفة لاجل حرية الصحافة

Quote: السلطتان: الثالثة والرابعة السلطات المتعارف عليها ثلاث، تشريعية وتنفيذية وقضائية، أضيفت إليها لاحقاً سلطة رابعة غير أصيلة لذاتها بل تستمد مشروعيتها من حق الشعب في أن يعلم كل كبيرة وصغيرة مما يجري داخل أروقة السلطات الثلاث، ومن هنا اكتسبت الصحافة وضعيتها بين هذه السلطات لتصبح السلطة الرابعة إلى جانب الاولى التشريعية والثانية التنفيذية والثالثة القضائية، وهذه الأخيرة مع رصيفتها الصحافة هما موضع تعليقنا حول قرار قاضي المحكمة التي أحيل إليها ملف قضية شهيد الصحافة محمد طه والذي قضى بمنع الصحف كافة من نشر وقائع المحاكمة والزمها باستقاء أخبارها عنها من مصدر وحيد حدده بالاسم هو وكالة السودان للأنباء وقد قابل الصحافيون هذا القرار بالامتعاض والتذمر لأنه يسلبهم حقاً أصيلاً لهم لا يجوز في حقهم أن يؤديه أحد غيرهم بالوكالة عنهم حتى ولو كان هذا الوكيل هو وكالة أنباء صحافية مشهود لها بالدقة والكفاءة والمهنية ولهم فيها زملاء أعزاء، والطعن هنا ليس في الوكالة ولا منسوبيها وانما في القرار الذي بدا وكأنه يطعن في ذمة الصحف والصحافيين ولا يثق في أمانتهم ودقتهم في نقل الوقائع كما تجري داخل المحكمة أو ربما أن المحكمة لا ترغب في نشر إلا الذي تريد نشره وتحجب ما تود حجبه وليس هناك أفضل من وكالة الأنباء الرسمية لتؤدي لها هذه المهمة، لأنها حكومية تسهل السيطرة عليها، ولأنها وسيلة واحدة لا تشتت جهودها حيث يصعب عليها معرفة اتجاهات النشر لدى صحف يقارب عددها العشرين، ولعل رغبة أولياء الدم التي عبر عنها شقيق الشهيد الزميل رحاب طه الذي كان الألم والأسف ينضح من بين كلماته على بعض الصحف التي اعتبر تعاطيها مع الحادثة المفجعة منذ أيامها الأولى متاجرة بدم الشهيد ولهذا لم يكونوا يرغبون في أن تواصل بعض الصحف هذا النهج الذي استهجنوه في لحظات المحاكمة الحاسمة.... ولكن مهما كانت الدفوعات المدافعة عن قرار منع الصحف من نشر مجريات المحاكمة وهي بكل المقاييس غير عادية وإن ستجرى في محكمة عادية إلا ان هذا القرار يبقى مصادماً لمبدأ صحفي أساسي وصادماً للصحافيين المهنيين، فمن جهة المباديء فإنه يصادم مبدأ صحفي راسخ يقول ان الصحافة الحقيقية هي التي تتواجد في مكان الحدث وتعايشه لحظة بلحظة وتتابع تفاصيله بدقة وتستغرق في بيئته، تتنفس هواءه وتتمعن في شخوصه وتسمع وترصد ثم تكتب بعد ذلك ما عايشته وأحسته ورأته وسمعته، فالصحافة لا بد أن (تَرى وتحس) - بفتح التاء في الرؤية والاحساس - وهي في ذلك مثلها مثل العدالة التي يقول أحد أهم مبادؤها - لا يكفي تطبيق العدالة، لا بد أن تُرى وتُحس - بضم التاء - أما صدمة القرار للصحافيين المهنيين تأتي من كون أنهم يعرفون كيف يؤدون مهنتهم على الوجه الصحيح بلا نقصان مخل أو تزيد مضر ويعرفون قدسية الأخبار فلا يلونونها أو يصبغونها بآرائهم أو يوجهونها لخدمة أغراض وأجندة خارج سياقات الحدث فتلك عندهم جريمة مهنية قبل أن تكون جريمة قانونية.... إن أقسى عقوبة لأي صحفي هي أن يُحرم ويُمنع من متابعة حدث تجرى وقائعه أمام ناظريه ثم يُفرض عليه أن ينقله من آخرين، ولا أدرى لماذا أوقعت المحكمة الموقرة أقسى العقوبات على الصحفيين في قضية يشتركون معها في هم البحث عن حقيقتها وتحقيق العدالة التي لا يهم هيئة المحكمة فقط الوصول إليها بل يهمها أيضاً أن يراها الناس ويحسوها....