نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب الزميل فتحي البحيري فى رحمه الله
وداعاً فتحي البحيري
|
Re: الدين والاسطورة (Re: Sabri Elshareef)
|
إن البؤرة الأولى عند سواح هي الرقعة التي بدأت ونضجت فيها تأملات الانسان البدائية وتصوراته الدينية وأساطيره والبؤرة الأولى عنده تنتج عنها أسطورة أول وهي أسطورة زراعية تتركز حول إلهة واحدة هي سيدة الطبيعة، الأم الكبرى (21).
أسطورة الأم الكبرى تظهر كانعكاس لواقع اجتماعي كما يرى سواح. فمن وجهة نظره أو لنقل نظريته أن المكانة الاجتماعية للمرأة في تلك العصور والصور المرسومة لها في ضمير الجماعة لعبت دورا كبيرا في رسم التصور الديني والعبادي الأول في ولادة الأسطورة الأولى (22).
أما البؤرة الثانية فهي محض أيديولوجية ومحض أسطورية بالمعنى الشائع لكلمة أسطورة - وهي بصورة دقيقة مجموعة تنويعات أيديولوجية يستقيها سواح من "إنثربولوجيي المقاعد الوثيرة "، وتمتد على مساحة زمنية وجغرافية واسعة من مورغان الى باخوفن Bachofen الى انجلز في كتابه الشهير "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة ".. الى غيره. ومجموع هذه التنويعات الأيديولوجية تتمحور حول المجتمع الأمومي وسلطة الأم، في تلك المجتمعات، وهي انشاءات نظرية ذات طابع يوتوبي، يمنحها سواح وبأسلوبه مزيدا من الشاعرية. يقول سواح "في المجتمع الأمومي، أسلم الرجل قياده للمرأة، لا لتفوقها الجسدي بل لتقدير أصيل وعميق لخصائصها الانسانية وقواها الروحية وقدراتها الخالقة وايقاع جسدها المتوافق مع ايقاع الطبيعة، فاضافة الى عجائب جسدها الذي بدا للإنسان القديم مرتبطا بالقدرة الالهية كانت بشفافية روحها أقدر على التوسط بين عالم البشر وعالم الآلهة، فكانت الكاهنة الأولى والعرافة والساحرة الأولى. بهذه الأسلحة غير الفتاكة، معنى الجنس الأضعف قوة بدنية فتبوأ عرش الجماعة دينيا وسياسيا واجتماعيا، وأمام هذه الأسلحة أسلمت الجماعة قيادتها للأمهات " (23).
المقطع السابق بكل حضوره الشعري لا الإناسي (الانثربولوجي) مأخوذ ومقتبس من باخوفن، ومن المعروف أن باخوفن حقوقي وسياسي وليس باحثا في مجال الاناسة، وآراؤه باجماع الإناسيين هي افتراضية لم تأخذ بها النياسة والاناسة إلا على سبيل الاستئناس والمحاججة، ولا تقل عنها افتراضية أبحاث مورغان التي ألهمت انجلز لكتابة أصل العائلة، ولكن سواح لم يكتف بهذا فقد ألهمته فكرة وفرضية الأم الكبرى والتي تصل عنده الى مستوى النظرية، بالركض وراء خطية تطورية أخرى هي ناتج فرضية المجتمع الأمومي. وتقول هذه الخطاطة أو الخطية بأنه وفي البعيد كانت هناك فوضى جنسية (لم تكشف الأبحاث الاناسية وجودها أبدا) ثم أعقبها في مرحلة من التطور الزواج الثنائي ثم الزواج الأحادي والذي هو الشكل الحضاري الأعلى الذي وصلت اليه البشرية.
هذه الخطية كما أسلفت محض أيديولوجية وشديدة الغنى بالمركزية الأوروبية والتي هدفت الى تزكية المسيحية وقد جاءت الأبحاث الاناسية لتؤكد خطر هذا التصور والفرضية التي تسير في ظله، فالزواج الأحادي ليس شاهدا على تطور ولا على تأخر فهو موجود في أقدم المجتمعات وفي أكثرها بدائية إن كان لابد من استخدام هذا المصطلح، وفي أحدثها. هذا من جهة ومن جهة أخرى ترى إحدى الباحثات في مجال الاناسة أن فرضية الأم الكبرى ليست أكثر من فرضية أيديولوجية، فعدا عن كونها خرافية فهي تسعي لأن تثبت أن النساء عاجزات عن استلام. السلطة والاستمرار بها (24).
أعود الآن الى فكرة الانتشار - انتشار الأسطورة من بؤرة مركزية - والى مسألة تشابه الأساطير والتي يعتبرها الباحث بمثابة شاهد على وجود أسطورة مركزية انتشرت الى جميع الأصقاع، خاصة وأن هذا التشابه يفرق المتن بكثرة شواهده الى درجة الملل، يحدوه في هذا المجال سعي أكيد لمحاصرة القاريء بكثرة الأمثلة والشواهد وذلك بهدف اثبات وصحة نظريته حول انتشار الأسطورة وفي رأيي أن الركض وراء أسطورة مركزية ومرجعية بان، هو شاهد على غياب سواح عن الجهود المبذورة في دراسة الأساطير وفي تحليلها، فمنذ فترة بعيدة كف دارسو الأسطورة عن البحث عن أسطورة مركزية. إذ لا وجود لوحدة أو لمصدر مطلق للأسطورة، فالبؤرة أو المصدر هما، دائما، ظلان أو امكانان يتعذر الامساك بهما ويتعذر تحيينهما، ولا وجود لهما بدءا، وقد شبه ستروس في كتابه الموسوم بـ "الفكر البري" عمل المؤسطر بعمل المحرتق الذي يستعمل دائما "الوسائل المتوافرة لديه " في منح جديده وهذا هو المنهج الذي ارتكز اليه في دراسته لأساطير أمريكا الشمالية ومنها أسطورة البورورو bototo ليؤكد على أن البحث عن الأسطورة المرجعية ليس أكثر من بحث عن سراب. (25).
أما فيما يتعلق بالتشابه، أي تشابه الأساطير، فالتشابه لا يعني الانبثاق من أسطورة مرجعية فقد سبق لستر وس أن أكد على التشابه بين أسطورة أدونيس وبعض الأساطير الهندية في أمريكا الشمالية ذات الطابع الأدونيسي (أدونيس واشكاليته كفرد وسيط) بين افردوديت وبوسيفوني) (26) فهل نفسر هذا أيديولوجيا على أن قوارب الفينيقيين وصلت الى الشاطيء الأمريكي وعلمت الهنود أبجدية أسطورة أدونيس وهي أسطورة شائعة ؟، وليس هذا فحسب فقد سبق لستروس في دراسته البنيوية والتحليلية لأسطورة أوديب أن راح يبحث عن أوجه الشبه بين بعض جوانب الفكر اليوناني الغابر وبين فكر هنود البوبيلو ؟ (27)
في بحثه عن "كيف تموت الأساطير" لاحظ ستروس أن انتقال الأسطورة من مجموعة بشرية الى أخرى يؤثر على هيكلية الأسطورة وعلى كودها حينا آخر، أو على المرسال المقصود منها. حينا ثالثا (28).
والسؤال هو كيف نفسر تشابه الأساطير في أقصى الأرض الى أقصدها، خاصة وأن التشابه يتجاوز حدود الوحدة الثقافية الموجودة في الهلال الخصيب ؟ ليطال العالم كله هذه المرة ؟ إن القول بوجود أسطورة مركزية وبالتبسيطية التي يتحدث عنها سواح لا تكفي لتفسير وحدة المغامرة البشرية على صعيد الأسطورة.
ستروس كان يرى أن التشابه يجد تفسيره في بنية الوعي البشري والتي هي بنية أسطورية منطقية تفعل فعلها على صعيد الفكر الأسطوري والفكر العلمي على السواء. وليس على صعيد الأسطورة المرجعية التي يحلو لسواح الركض وراءها ووراء سرابها الأيديولوجي.
|
|
|
|
|
|
|
|
|