صحفى يتكلم عن جامعة سودانيز اون لاين .. وعن معــاذ حســن

Quote: خاطرة بين المسافات البورخيسية هذا الهاجس العذب عدنان المبارك قاص عراقي مقيم في الدنمارك لكل واحد هواجسه التي يصعب عليه طردها أو كبحها. هي معه في شتي الأوقات والأمكنة. كان ولايزال بورخيس من هواجسي اليومية. يبدو لي ساحرا علي الدوام قلب بأكثر من طريقة ماكرة ، وهو يتظاهربالبراءة ، الحقائق والعادت التفكيرية بل النواميس السارية و(الثوابت) الروحية وغيرها. وقبل أن يفعل كل هذا إبتكر مملكة لها قوانينها الخاصة وبضمنها ذلك القانون الغريب - قانون المنطق البورخيسي. وبسببه رسمتُ علي رملِ ما يسمي بالحياة الطبيعية متاهتي الخاصة وجرّبت زمنه الدائري، وكم من مرة جاءني الوعي بأني مجرد ظل لحلم حلم به إنسان آخر. عوالم مخترعة ، رموز ، إستعارات ، مجازات ، ألعاب مشغلة للمخيلة ، لوذعية ، لغة تأتينا من معجم لا تعرفه رفوف المكتبة ثم كل هذه الدروب الملتوية ، المتشابكة ، المتباعدة (غالبما أتصورها وقد تحولت الي أصابعه العشرة التي يباعد بينها ويشبكها ويلويها ويخبط الهواء بها كي يرسم زمنه الدائري !).لا اظن أن هناك عاشقا حقيقيا لفن الكلمة يتنطع ويتهم الأرجنتيني بإفتعال مثل هذه الخلطة الباهرة للميتافيزيقا بالفنتازيا والواقعية والسحر الذي يستل (آلياته) من الإثنين : التأريخ وما قبله. أكيد أن الرهبة لا تفارقنا حين نجتاز مثل هذه المملكة الغريبة ، مملكة المهاوي والمرايا وتلك المكتبة ، والنمور واللامنتهي والخلود والزمن. وهذه هي لعبه المفضلة التي يلهو بها لكن ببالغ الجد والمهابة. كان يتظاهر بأنه غير عارف بهلعنا الساذج ذي المحدودية الأرضية حين تهوي يده ذات القفاز الحريري بمطرقة من مطاط علي كوننا المألوف الذي تبين أنه محض وهم ، هيروغليف خلقه ربّ ليس بالكبير كي يعقد صفقة مع إبليس أو شبحٌ ما حلم به كائن آخر... في أعمال سردية أخري يجهد طويلا في خلق رؤي لعالم المتاهات التي تدور ، كما سيّارنا ، حول لعبة بورخيسية إسمها يانصيب بابل أو حضارة مثالية أسماها (تلين) مثلا. ولربما كان هذا الأعمي البصير بألف عين ، علي صواب ، وليس علماؤنا ، حين إكتشفت كل عيونه الباطنية أن الكون متاهة ، (حديقة ذات دروب متشعبة) وجدت في الزمكان و سبق أن حدث فيها كل شيء وسيحدث في المستقبل أيضا. وفي مثل هذه الحديقة تحوي الكلمة ُ العالم َ كله في حين أن الإنسان هناك هو ذلك الكون المايكرو وتلك المرآة الكونية الخادعة. وفي الحقيقة لايزمع بورخيس إقناعنا بوهمية الواقع بل تبدو الحال كأن الأمور لديه سواء : قد يكون الزمن دائريا أو أنه غير موجود علي الإطلاق تماما كما قد يكون إنسان واحد جميع البشر أو مجرد ظلٍّ لحلم ، وهكذا قد يكون الكون وهما أو فوضي عبثية من دون نهاية... هناك بورخيس آخر. بورخيس الواصف لعالمه الأرجنتيني ، أو بالاحري لمساحات معينة منه. كان ذلك عالم رعاة الأبقار وبشر الهامش الإجتماعي في بوينوس آيريس ، عالم رقصة التانغو والضواحي ، عالم الجريمة وألغازها والهوية المشبوهة والمصائر التي لاتعرف اليقين. إلا أن بورخيس الذي يمارس لعبته مع كونه ، شأن كوننا الذي هو إفتراضي بالأساس ، لايترك متاعه الميتافيزيقي حين يدخل ضواحي العالم الملموس أي هناك حيث الثقوب السود البونيس آريسية التي تروم إبتلاع الإثنين - الحياة الدنيا واللامنتهي الذي أراد بورخيس أن يقنعنا طيلة الوقت بأنه محض سراب لكن من النوع العذب. وكما قال أرنستو ساباتو عنه فهو قد عشق الأفكار لكنه كان يتسلي بها أيضا ، كان قد أنكر الواقع الموضوعي ووحدة الزمن وواحدية شكله لكنه في النهاية ، وكما قال : العالم ، وللأسف ، فعليٌّ ، وأنا ، وللأسف، لست إلا بورخيس ... في (كتاب الأحلام) (عام 1976 ) يقول إن الأحلام هي أقدم صنف أدبي والأكثر تعقيدا. أكيد أنها إبتعاد عن مبدأ الخطية ، فالأحداث تتشابك وتتداخل و تتباعد وتأخذ أكثر من مجري واحد. وأنا أصابتني عدوي الأحلام البورخيسية... في (تأريخ الأبدية) (عام 1935) يشخص العدوي الثانية التي هي الأشد إيلاما : الزمن الذي يحصرنا في الركن بمطاليبه التي تنتهي ، كما يبدو ، مع نهايتنا ، والأبدية التي ، كما يقول ، هي محض لعب وأمل مجهد. إلا أنه يطمئننا في (عقيدة الدورات) من عام 1934 و(الزمن الدائري) (عام 1941)، بالقول إن لفكرتي العودة الأبدية والزمن الدائري ، في الجوهر ، بعدَ مبتكرات ٍ فنتازية ... هكذا كان هذا الأرجنتيني : مارس كل ألعابه معنا لكنه لم يفكر أبدا بالفوز ... قضي أكثر من نصف حياته في المكتبة. قالوا معيّرين إياه بأنه خلط الواقع بالوهم ، غير أنهم ، شأننا جميعا ، عاجزون عن وضع تعريف للأول والثاني. عيّروه أيضا بأنه إخترع جغرافيات. ولم لا ؟ أهم يعرفون كل الجغرافيات ؟ بالنسبة لأمثالي يكون شيئا مسّرا ونافعا أن يصبح الأدب لدي الأرجنتيني ألعاب مخيلةٍ. ويكفي القول هنا إن لاشيء في هذا الواقع المشتبه به غير العبث الأسود ، بل الدامي ، وتلك العقلانية التي تقوم بمحاكاة العبث طوال التأريخ. أكيد ان ما كل ماكتبه كان محاولة للإجابة علي ذاك السؤال الأساسي عن ماهية تلك الكلمة التي كانت في البدء. لقد اصبحت البورخيسية عالما مستقلا عن المصطلح الآخر : الكافكوية . وحتي المنافسة بينهما هي شريفة للغاية. فالأرجنتيني أدرك الوجود كمتاهة من دون نهاية (مخرج) ، والإستثناء - الأعجوبة الذي صنعه بورخيس أن أدبه المنغلق (النخبوي) أصبح شائعا ! فحتي من هو غارق في الإيمان التقليدي جذبته مقالات بورخيس (الهرطقية). قيل بأنه متعدد الوجوه. كلام سطحي ! فكل فنان حقيقي هو هكذا : يموت وينبعث في كل لحظة. إنه يحيا بمثل هذه الكثافة والشدة غير البشريتين. وهكذا كان بورخيس سعيدا في لحظة وشقيا في أخري ، غير أن الأهم هو ولهه الذي كان عظيما حين شاهد المعجزة المسماة بالعالم. وفي الحقيقة كانت سعادته في منتهي التواضع : حدودها بين قراءة والت ويتمان وتأمل غروب الشمس ... في عام 1935 كتب ( التأريخ العام للسفالة). وكان قد وصف الكتاب بدايته الأدبية الحقيقية. وفيه كان بورخيسا آخر الي بعض الحدود. فإلي جانب القصص عن أشهر رجال العصابات والمحتالين والقراصنة نجد تلك القصص القصيرة (المرعبة) التي إنساق فيها الي إعجابه البالغ بأدغار ألان بو. أنه لم يرد أن يكون معلما لا من الطراز المضجر ولا الاخر الذي يدفعك الي أن تكنَّ له الإحترام والإعجاب ، لكنه صار معلما ومن دون أن يدري ، لكامل جيل ما بعد الحرب : بدءا بماركيز وإنتهاءً بفوينتس ، بدءا بجون أبدايك و إنتهاءً بجون بارث. الغريب أن معلم هؤلاء الروائيين لم يكتب أية رواية. وحتي في مؤلفه الأخير (المتآمرون) الذي صدر قبل رحيله ، وكان بمثابة ديوان شعري ، لم يتراجع عن إيمانه بقوة روح الإنسان التي لا يروّضها الموت ولا الزمن ولا العوق ولا الغزو المسلح ولا شتي أصناف الحروب التي يحصل ، ولأكثر من مرة ، أن ُيدفن ضحاياها من جميع الجبهات في قبور متجاورة... كان هذا الكتاب الوصية الأخيرة لـ(متآمر) أيضا لكن من طينة أخري. فمؤامرته كانت علي عوالم إرتاب في حقيقتها...