|
Re: قِيَامَةُ الزِّئْبَق! (فرصة ثانية لقراءة هذا الرواية العجيبة) (Re: النصرى أمين)
|
(5) مع إعجابي بكلِّ قصصه، إلا أن واحدة منها ظلت تشغلني على نحو خاص، ربَّما لأنها لم تكتمل حتى أنهينا دراستنا بالكليَّة. فلسبب ما لم يضع لها نهاية طوال تلك السنوات. كان بطلها، برنس مارغاي، شاباً سيراليونياً يشعُّ وسامة تقرب من الجمال، ويرتع، إلى ذلك، في ثروة طائلة آلت إليه، منذ صباه الباكر، باعتباره الوارث الوحيد لوالده الجنرال السابق في قوَّة حرس السواحل، خلال سنوات ما بعد الاستقلال، والذي كان قد شرع في تكديسها حتى قبل خروج الانجليز، على حدِّ همس الزوايا في فريتاون، وذلك بفضل قابليَّته الفطريَّة للفساد، وبعض خياناته الوطنيَّة هنا وهناك، وعلاقاته المشبوهة مع الادارة الاستعماريَّة ومهرِّبي الماس. وكان يبرِّر خبطاته تلك بالتواطؤ مع نفسه، في كلِّ مرَّة، موسوساً لها بأنه إن لم يفعل، فثمَّة كثيرون غيره جاهزون، على أيَّة حال، ليفعلوا في أيِّ وقت! لكن مارغاي، برغم وسامته وثروته الظاهرتين، كان يحتشد، في الباطن، بتعاسة فارهة، ويضرب على نفسه عزلة بلا ضفاف! كان، في الحقيقة، غريب الأطوار، يسكن عازباً في قلعة ضخمة، عالية الأسوار، كثيفة الأشجار، صمَّاء البوَّابات، مع طبَّاخة عجوز، وسائق أهتم، وبستاني ريفي، ولا يكاد يندُّ من عالمه الخفي ذاك سوى صوت بعيد لموسيقى غريبة! ولم يكن يُرى، حين يُرى، إلا واضعاً على عينيه نظارة سوداء، وملفوفاً، صيفاً وشتاءً، في ملابس صوفيَّة ثقيلة، وفارداً فوق رأسه، خريفاً وربيعاً، نهاراً وليلاً، شمسيَّة هائلة، داكنة اللون! وكان خلواً تماماً من الأصدقاء، وبالأخصِّ من الصديقات! وكان يبدو، عموماً، كمن يرزح تحت وطأة سرٍّ يحرص، كالغراب، على ألا ينكشف ولو ملمح خيط واهٍ من قماشة غموضه السميكة لكائن من كان! ولأن ذلك كله مِمَّا يستثير، في العادة، شهيَّة الأحاجي في تلك المدينة الأطلسيَّة، فقد أشرعت نوافذها على رياح شائعات تتلبَّس، كما في دارج الأسمار الأفريقيَّة، سمت العلم ببواطن الأمور؛ فمن قائل إن للأمر صلة بعلاقة غريبة بين أمِّه وأبيه! ومن زاعم أن مارغاي ليس غير الجنرال نفسه بُعث من موته على تلك الهيئة، كونه ينحدر من سلالة عُرفت بمثل تلك الأمور! ومن حالِفٍ بأن الجنرال كان، في الحقيقة، عقيماً، وأن مارغاي ذاك ليس، أصلاً، سوى صناعة غير مكتملة لسحرة مأجورين .. وهكذا! بعد خمسة أعوام من الدراسة الشَّاقة تخرَّجنا. وجاء موعد مغادرة مورغان إلى بلده سابقاً لموعد مغادرتي أنا بأيام ثلاثة، فأقمنا له، في ليلته الأخيرة، حفل وداع مشهود غنى فيه وعزف كما لم يغنِّ أو يعزف من قبل. فجر اليوم التالي رافقته إلى المطار، ولمَّا آن أوان عناقنا الأخير، فتح حقيبة يده، والدموع تترقرق في مآقيه، وأخرج الدفتر بُنِّي الغلاف يدسَّه في حقيبة يدي، قائلاً: ـ "لم أعُد أحتاجه. أعلم مدى شغفك به. ستجد فيه مفاجأة بانتظارك .. الفصل الأخير من مارغاي! كتبته ليلة البارحة بعد أن انفضَّ السامر؛ فقد عزَّ علي، إكراماً لك، أن أتركه بلا نهاية! وستجد أيضاً عنواني البريدي في فريتاون، فتذكر، عندما تكتب لي أوَّل رسالة أن تضمِّنها عنوانك في الخرطوم، وأعدك بسرعة الرد. سلام"! ............................ ............................ شغلت خلال الأيام الثلاثة التالية بإنهاء إجراءات سفري، وودَّعني الأصدقاء والزملاء بحفل آخر افتقدت فيه مورغان بشدَّة، حتى أن الدمع طفر من عينيَّ حين خطر لي أنني لن أراه ثانية. في مساء اليوم التالث توجَّهت إلى المطار. وما أن أقلعت طائرة الإيروفلوت حتى أخرجت الدفتر بُنِّيَّ الغلاف، وفتحته على الفصل الأخير من مارغاي، فألفيته، كما توقعت، مصاغاً بشكل مدهش، وإن كان لا يشفي غليلاً، برغم مآل مارغاي الفاجع، حيث انتهى، ذات خريف مدرار، قتيلاً، مفصول الرأس، تحت دغل صغير من أشجار كثيفة، ملتفة الأغصان، في ركن قصيٍّ من حديقة قلعته الواسعة! لم تكتشف الجثة الغارقة في الوحل إلا بعد عدة أيام انتفخت، خلالها، وتعفنت، وفاحت رائحتها، وحلقت جوارح المحيط فوقها! وإن هي إلا ساعة، أو بعض ساعة، حتى سرى الخبر في نواحي المدينة سريان النار في الهشيم. فهرعت إلى القلعة فيالق الشرطة بمصوِّريها المتخصِّصين، وكلابها المدرَّبة، وفرق من خبراء البصمات، والأطباء الشرعيين، ومحققي النائب العام، وقدامى أصدقاء الجنرال. ذرعوا المكان وما حوله طولاً وعرضاً، ووجَّهوا بضعة أسئلة مبدئيَّة للطباخة العجوز، وللسائق الأهتم، وللبستاني الريفي، قبل أن يقتادوهم، مخفورين، بعد أن وضعوا الجثة والرأس على نقالة غطوها بمفرش أبيض، وأودعوها جوف إسعاف استطاع بالكاد، رغم دويِّ بوقه، أن يشقَّ طريقه صوب مشرحة المستشفى العسكريِّ وسط الجموع التي تقاطرت من كلِّ فجٍّ لترابض أمام القلعة، تحت المطر الهطال، بعد أن منعوها من الدخول. من ذلك اليوم، وعلى مدى أشهر طوال، لم يعد لفريتاون من موضوع لأسمارها غير سيرة مقتل مارغاي. الكل ينسج ما يعنُّ له من تفاصيل، ثم ما يلبث أن يكون هو نفسه أوَّل من يصدِّقها، فينطلق يرويها من بيت إلى بيت، ومن شارع إلى شارع، ومن بار إلى بار! هكذا أطلقت المدينة أعنة الأخيلة الخصيبة تنافس بعضها في اختراع التصوُّرات الطازجة، غير المسبوقة، لما يمكن أن يسبر غور السِّر المكنون في حياة مارغاي وموته! كان يكفي أن يبدأ أحدهم بعبارة "هل سمعتم آخر الأخبار؟!" حتى يصبح قبلة الحاضرين، ليبدأ الحكي الذي لا أوَّل له ولا آخر! مع ذلك، وكالعادة، باخت، في النهاية، سائر الحكايات، وكسدت جميع الروايات، وفتر الحماس الشعبي للحادثة، وراح يذوي إلى حدَّ التلاشي، فكلُّ ما يمكن أن يُقال قد قيل، وكلُّ ما يمكن أن يُتصوَّر قد لاكته الألسن؛ وحيث لم يسفر التحقيق المبدئي المطوَّل عن شئ، دُفن البلاغ في الأضابير الرسميَّة ضد مجهول، وأطلق سراح المرأة والرَّجلين، فخرجوا يدوخون الدوخات السبع في مكاتب العمل ومحاكمه للحصول على فوائد ما بعد خدمتهم الطويلة من الحكومة التي استولت على ثروة القتيل الذي لم تثبت له قرابات على كثرة المدَّعين! ............................ ............................ وضعت الدفتر في جيب ظهر المقعد الأمامي، واستغرقتني، بفعل إرهاق الأيام الماضية، غفوة طويلة تخللتها بعض المرائي المشوَّشة لحفل عرس بحي الضباط بأم درمان يغني فيه روبرت مورغان، ويعزف خلفه أسعد مرجان، ويقود حلبة رقصه برنس مارغاي!
|
|
|
|
|
|
|
|
|