|
Re: قِيَامَةُ الزِّئْبَق! (فرصة ثانية لقراءة هذا الرواية العجيبة) (Re: النصرى أمين)
|
(4) زلزلت تلك الأحداث أعماقي بعنف. ثم جاءت إعدامات يوليو 1971م، ضغثاً على إبالة، لتقضي على ما تبقى من معنوياتي في غربتي الشاهقة تلك، خصوصاً وقد انقطعت مراسلات الأهل والأصدقاء، بمن فيهم، بطبيعة الحال، أسعد مورغان! لكن علاقة الصداقة التي ترسخت، مع كرِّ مسبحة الأيام، بيني وبين روبرت مورغان، أعانتني على محنتي شيئاً، وأزاحت عن كاهلي غير القليل من عبئها الباذخ. كنا نذهب إلى الكليَّة معاً، ونعود منها معاً، ونتناول وجباتنا معاً، وننجز واجباتنا الدراسيَّة معاً، ونتسكع في عطلات نهاية الأسبوع بجادَّة كريشاتيك معاً، ونغشى المسارح والمعارض والسينمات والمكتبات والمنتديات الأدبيَّة والفنيَّة معاً، مثلما كنا نقضي عطلتي الشتاء والصيف أيضاً معاً، إما بالسفر إلى هلسنكي أو برلين أو براغ أو لندن، أو في الراحة ببعض مصايف البحر الأسود، أو في العمل بمزارع العنب في بعض الريف الأكراني. باختصار لم نكن نفترق إلا ساعات النوم، أو حين تكون في البرنامج امرأة! لم يحدث، طوال تلك السنوات، وعلى العكس من سائر الطلاب الأفارقة بالذات، أن عرفت له صديقة، أو سمح بأن تتجاوز علاقته، حتى مع أيٍّ من اللائي يشاركننا السكن في النزل، حدود زمالة الدراسة! كنَّ، من جانبهنَّ، يصفنه بأنه مختلف، ويُحِلنَ الأمر إلى تهذيبه وحيائه الشديدين! أما هو فكان يلخِّص كلَّ من حاولت الاقتراب منه بعبارته الأثيرة: "ليست فنجان شاييَّ المفضَّل"! قلت له، مرَّة، عندما طفح الكيل: ـ "يبدو أن أوراق شايك هذه مزروعة في زحل"! فردَّ ضاحكاً: ـ "أبداً .. كلُّ ما هنالك أن سيِّدة روحي لم تولد بعد"! عددت عبارته تلك نوع غرور ونزق شاعري، ولم أناقشه، فذاك مزاجه الشخصي، وهو حُرٌّ فيه. في ما عدا ذلك كان زورق صداقتنا يمخر بأشرعة ملؤها صفاء لا يعكر من سلاسته سوى شئ واحد .. نوبات البكاء التي ليس نادراً ما كانت تباغت مورغان، في أيِّ مكان، وبدون أيَّة مقدِّمات، حتى يورم أنفه، وتنتفخ أوداجه، وتحمرَّ عيناه! في البداية كنت ألح عليه، إلحاحاً شديداً، لمعرفة السبب، وكان هو يصرُّ على التزام تكتم عنيد ليس نادراً ما كان يوقفنا على حواف مهاوي الخصام! لكنني، بعد أن لاحظت أن تلك النوبات كانت تريحه شيئاً، وأن تكرار إلحاحي أضحى يهدِّد صداقتنا بجديَّة، وطنت نفسي على تقبُّل الأمر على علاته، والتعايش معه بعاديَّة غير عاديَّة! كان يصرُّ على أن أترجم له تجاربي في الشعر من العربيَّة إلى الانجليزيَّة أو الروسيَّة. وكان يعجب بها رغم إحساسي، أنا نفسي، برداءة الترجمة! وكنت الوحيد الذي يسمح له بالاطلاع على تجاربه في السَّرد بإنجليزيَّته الناصعة. كان ينسخ قصصه الطويلة والقصيرة بخط جميل، وعناوين ملوَّنات، في دفتر بُنِّي الغلاف. وكانت قصصاً ممتعة، أبطالها محتشدون بالحياة حتى لتكاد تلمسهم بيدك؛ لكنه كان، لسبب ما، يدفعهم أجمعين إلى مصائر في غاية الغرابة، وإن لم يكن يحيد، في ذلك، عن سياقات الضرورة الفنيَّة قيد أنملة! سألته، ذات مساء، ونحن في غرفته، بعد أن أنهينا الإعداد لسمنار الغد، وجلسنا نحتسي القهوة بالحليب قبالة المدفأة، بينما الصقيع يقرقع على النافذة، وكتبه واسطواناته تنتثر حولنا في فوضى بديعة: ـ "مورغان .. لماذا لم تفكر في النشر .. ثمَّة دوريات كثيرة تهتمُّ بأدب الشباب"؟! صمت برهة، ثمَّ أجابني، بأخفض درجات صوته الأوبرالي، وهو مكبٌّ على جهاز راديو ضخم، يبحث فيه عن بعض المحطات: ـ "الخوف يا صديقي .. الخوف من الحرج الاجتماعي البدوي الأفريقي! فمعظم أبطال هذه القصص أحياء يرزقون في فريتاون، ومنهم أصدقاء وأقارب لي"! ـ "دعك من هذه الترهات! من قال لك إن أبطال تشينوا أشيبي، مثلاً، جميعهم من نسج خياله"؟! أطلق ضحكة مجلجلة، وقال، وسط قهقهاته، دون أن يحوِّل عينيه عن جهاز الراديو: ـ "أين أنا، يا صاحبي، وأين أشيبي"! وقبل أن أقول شيئاً مضى يسترسل، وأصابعه ما تزال مشغولة بتحريك مفتاح الموجات: ـ "عارف .. حين كنت صبياً كان لدينا في البيت جهاز كهذا؛ وعندما أطلقت ال######ة لايكا إلى السماء السابعة، ثرثر الجيران بأن الروس سيدهنون القمر، تلك الليلة، باللون الأحمر! كنت الإبن الوحيد لأبي وأمي، وكانا، ساعتها، خارج البيت، فلم أجد من أهرع إليه، لاهثاً، بالخبر، ليساعدني في تسلق السطح لرؤية المشهد البديع، سوى جدَّتي المتسلطة، القابعة في موقعها الأثير خلف ماكينة الحياكة! لكنها زجرتني قائلة، وهي تغلق عيناً، من وراء نظاراتها الطبيَّة، وتدقق النظر بالأخرى، كمن يحاول إدخال الجمل في سم الخياط: دع الكلام الفارغ والتفت لدروسك! ثمَّ ما لبثت، كعادتها حين تعلن عن امتعاضها، أن عوجت فمها، ومطت شفتيها، وكزَّت على أسنانها، وبصقت، وراحت تبرطم: عجيبة .. لم يبق غير أن تصدِّق كلَّ كفر يلغو به هذا الراديو اللعين"؟! إنتبهت، لأوَّل مرَّة، إلى حقيقة أنه الابن الوحيد لوالديه! ثمَّ علمت منه أن أباه ضابط متقاعد بالجيش السيراليوني، ويعمل، منذ حين، إدارياً بإحدى الشركات التجاريَّة، وأن أمَّه معاونة في جمعيَّة نسائيَّة لنشر الوعي بمضار تناول الحوامل لطين (وسو). أما حكايته مع جدَّته فقد بدت لي، للوهلة الأولى، خارج السياق، ومع ذلك أضحكتني. لكنه كان، في تلك اللحظة، قد استكمل ضبط الموجة على دقات بق بن، وولج، كعادته، في ما كان يسمِّيه (طقس البي بي سي) في مثل ذلك الوقت من المساء، فلم نعد لمواصلة الحديث.
|
|
|
|
|
|
|
|
|