كيف نواجه الخميس ؟

Quote: كثيراً ما كثيراً كانت جدتي تحكيني عن سنوات قديمات عاشتها في ذات النواحي التي أتجول في شوارعها . الآن لم يعد بمقدورها المشي بين تلك الجنبات فصارت تمشي بذاكرتها التي ما نضبت يوماً عن حكاية جديدة ومأثرة جديدة من مآثر زمانها الذي لم تكـ لتنضب . حكتني عن تاريخ أجدادي سألتها ببراءة ذلك الزمان عن حلفا وعن الهجرة التي أصابت النوبيين في مقتل . حدثتني عن أنها (أي حلفا) لم تكن سوي عروس وأدها العسكر وأحلام الطفيليين جدتي لم تقل كل ذلك لكنها أرادت أن تقول غير أن منهج تسمية الاشياء وفق مصطلحاتها كانت تغيب عن ذاكرتها وجيلها الا قليلاً . ها هي الدميرة تأتي والهدام يفعل بجروفنا الأفاعيل . تأتي الصباحات والنيل يتمدد في جروفنا ولكأنه في سباق مع الليل حتي النيل في بلادنا لا يملك شرف المنازلة في الصباحات . لذا يأتي ليلاً ليحرمنا كثير خير وحاله من حال الهدام ... السلطة .... الشرطة .... الانقلابات العسكرية ..... يأتي ليلاً ويهدأ في الصباحات ليلاً يسرقنا بعض أغنام وماشية وبعض بعض من لوبي الجروف ونوريق البامية والبرسيم وأشياء من ما نداوم علي زراعته لنا ولمواشينا . غير أنني سعيد لأجل جدتي التي مضت للعالم الآخر وليس في بالها مجرد ظن أن يتكرر سيناريو حلفا . حلفا تلك المدينة التي لطالما حلم بها إفلاطون في خواتيم فلسفته عن اليوتيبيا إذ كانت حلفا مدينة فاضلة لأبعد الحدود . يوم أن رحلت جدتي بكيت لثلاث أيام لم أذق فيها طعماً لنوم أو طعام كنت أبكي فيها كثير حكايا ومشوار عمر قضيته الي جانبها أبكي أنني سأفتقدها في شتاءات البلاد وريحها الصرصر أبكي ضحكتها الصافية التي لم يشوبها شائب الزمان أبكي فيها كثير مشاوير مشيتها برفقتها . مضتنا في ليلة مقمرة حتي إننا لم نحتاج في توسيدها الثري لإضاءة (الرتاين) كانت بشوشة ويبدوا أن السماء كان يجازيها عن قلبها الأبيض الذي عاشت به . في طريقي للمدرسة أمر من عند قبرها هكذا ترقد جوار الطريق فأقتسم معها مما أحمله من فطور المدرسة أجلس عند رأسها وبهدوء أفتح بستلة الطعام وأضعه عند شاهد قبرها مما أحمل وبعض تمرات أخرجها من جيبي ثم بإبتسامة كاملة أودعها تحية الصباح لأغادرها بعد ذلك علي عجل لألحق برفاقي . وجدتي لن تصدق علي الإطلاق أمر هذا الكون فكيف لي أن أحكيها أن بلادنا الآن تستعد لطوفانين أخريين أحداهما في أقصي جنوبنا (كجبار) والآخر في أقصي شمالنا (دال) هكذا إذن ستضيع ملامح قرانا وكامل حضارات وإرث أجدادي بل حتي قبر جدتي سيضيع في هذا الزحام .

(عدل بواسطة فيصل محمد خليل on 05-19-2011, 06:41 PM)