|
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد (Re: متوكل بحر)
|
الاستبداد والعلم
ما أشبه المستبدَّ في نسبته إلى رعيته بالوصيّ الخائن القوي، يتصرّف في أموال الأيتام وأنفسهم كما يهوى ما داموا ضعافاً قاصرين؛ فكما أنّه ليس من صالح الوصيّ أن يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض المستبدّ أن تتنوّر الرعية بالعلم. لا يخفى على المستبدّ، مهما كان غبياً، أنْ لا استعباد ولا اعتساف إلا مادامت الرّعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء، فلو كان المستبدُّ طيراً لكان خفّاشاً يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، ولو كان وحشاً لكان ابن آوى يتلقّف دواجن الحواضر في غشاء الليل، ولكنّه هو الإنسان يصيد عالِمَه جاهلُهُ. العلم قبسةٌ من نور الله، وقد خلق الله النّور كشّافاً مبصراً، يولّد في النفوس حرارةً وفي الرؤوس شهامةً، العلم نور والظلم ظلام، ومن طبيعة النّور تبديد الظّلام، والمتأمل في حالة كلِّ رئيس ومرؤوس يرى كلَّ سلطة الرئاسة تقوى وتضعف بنسبة نقصان علم المرؤوس وزيادته. المستبدُّ لا يخشى علوم اللغة، تلك العلوم التي بعضها يقوّم اللسان وأكثرها هزلٌ وهذيان يضيع به الزمان، نعم؛ لا يخاف علم اللغة إذا لم يكن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الألوية، أو سحر بيان يحلُّ عقد الجيوش؛ لأنه يعرف أنّ الزمان ضنينٌ بأن تلد الأمهات كثيراً من أمثال: الكميت وحسان أو مونتيسكيو وشيللر. وكذلك لا يخاف المستبدُّ من العلوم الدينية المتعلِّقة بالمعاد، المختصة ما بين الإنسان وربه، لاعتقاده أنّها لا ترفع غباوةً ولا تزيل غشاوة، إنما يتلهّى بها المتهوِّسون للعلم، حتى إذا ضاع فيها عمرهم، وامتلأتها أدمغتهم، وأخذ منهم الغرور، فصاروا لا يرون علماً غير علمهم، فحينئذٍ يأمن المستبدُّ منهم كما يُؤمن شرُّ السّكران إذا خمر. على أنّه إذا نبغ منهم البعض ونالوا حرمة بين العوام لا يعدم المستبدّ وسيلة لاستخدامها في تأييد أمره ومجاراة هواه في مقابلة أنّه يضحك عليهم بشيء من التعظيم، ويسدُّ أفواههم بلقيماتٍ من مائدة الاستبداد؛ وكذلك لا يخاف من العلوم الصناعية محضاً؛ لأنّ أهلها يكونون مسالمين صغار النّفوس، صغار الهمم، يشتريها المستبدُّ بقليل من المال والإعزاز، ولا يخاف من الماديين، لأنّ أكثرهم مبتلون بإيثار النّفس، ولا من الرياضيين؛ لأنّ غالبهم قصار النظر. ترتعد فرائص المستبدُّ من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصّل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تُكبر النفوس، وتوسّع العقول، وتعرّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النّوال، وكيف الحفظ. وأخوف ما يخاف المستبدّ من أصحاب هذه العلوم، المندفعين منهم لتعليم النّاس الخطابة أو الكتابة وهم المعبَّر عنهم في القرآن بالصالحين والمصلحين في نحو قوله تعالى: أنّ الأرض يرثها عباديَ الصالحون وفي قوله: وما كان ربُّك ليهلك القرى بظلمٍ وأهلها مصلحون، وإنْ كان علماء الاستبداد يفسِّرون مادة الصلاح والإصلاح بكثرة التعبُّد كما حوّلوا معنى مادة الفساد والإفساد: من تخريب نظام الله إلى التشويش على المستبدين. والخلاصة: أنَّ المستبدّ يخاف من هؤلاء العاملين الراشدين المرشدين، لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسهم محفوظاتٌ كثيرة كأنّها مكتبات مقفلة! كما يبغض المستبدُّ العلمَ ونتائجه؛ يبغضه أيضاً لذاته، لأن للعلم سلطاناً أقوى من كلِّ سلطان، فلا بدَّ للمستبدِّ من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علماً. ولذلك لا يحبُّ المستبدُّ أن يرى وجه عالمٍ عاقل يفوق عليه فكراً، فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار الغبي المتصاغر المتملِّق. وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله: (فاز المتملقون)، وهذه طبيعة كلِّ المتكبرين، بل في غالب الناس، وعليها مبنى ثنائهم على كلِّ من يكون مسكيناً خاملاً لا يُرجى لخيرٍ ولا لشرٍّ. وينتج مما تقدَّم أنَّ بين الاستبداد والعلم حرباً دائمةً وطراداً مستمراً: يسعى العلماء في تنوير العقول، ويجتهد المستبدُّ في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنَّهم هم الذين متى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا. العوام هم قوة المستبدُّ وقُوْتُهُ. بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريماً؛ وإذا قتل منهم لم يمثِّل يعتبرونه رحيماً؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بُغاة. والحاصل أنَّ العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة، فإذا ارتفع الجهل وتنوَّر العقل زال الخوف، وأصبح الناس لا ينقادون طبعاً لغير منافعهم، كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه، وعند ذلك لا بدَّ للمستبدِّ من الاعتزال أو الاعتدال. وكم أجبرت الأمم بترقّيها المستبدَّ اللئيم على الترقّي معها والانقلاب –رغم طبعه- إلى وكيلٍ أمين يهاب الحساب، ورئيسٍ عادل يخشى الانتقام، وأبٍ حليمٍ يتلذذ بالتحابب. وحينئذٍ تنال الأمة حياةً رضيّة هنية، حياة رخاء ونماء، حياة عزّ وسعادة، ويكون حظّ الرئيس من ذلك رأس الحظوظ، بعد أن كان في دور الاستبداد أشقى العباد؛ لأنه على الدوام ملحوظاً بالبغضاء، محاطاً بالأخطار، غير أمين على رياسته، بل وعلى حياته طرفة عين؛ ولأنه لا يرى قطّ أمامه من يسترشده فيما يجهل؛ لأنَّ الواقف بين يديه مهما كان عاقلاً متيناً، لا بدَّ أن يهابه، فيضطرب باله، فيتشوش فكره، ويختلّ رأيه، فلا يهتدي على الصواب، وإن اهتدى فلا يجسر على التصريح به قبل استطلاع رأي المستبدّ، فإن رآه متصلِّباً فيما يراه فلا يسعه إلا تأييده راشداً كان أو غيّاً، وكلُّ مستشار غيره يدَّعي أنَّه غير هيّاب فهو كذَّاب؛ والقول الحقُّ: إنَّ الصدق لا يدخل قصور الملوك؛ بناءً عليه؛ لا يستفيد المستبدُّ قطُّ من رأي غيره، بل يعيش في ضلال وترددٍ وعذابٍ وخوف، وكفى بذلك انتقاماً منه على استعباده النّاس وقد خلقهم ربهم أحراراً. إنَّ خوف المستبدّ من نقمة رعيته أكثر من خوفهم من بأسه؛ لأنَّ خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقُّه منهم، وخوفهم ناشئ عن جهل؛ وخوفه عن عجزٍ حقيقي فيه، وخوفهم عن توهّم التخاذل فقط؛ وخوفه على فقد حياته وسلطانه، وخوفهم على
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-19-11, 02:48 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 03:15 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-19-11, 03:32 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-19-11, 03:37 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-19-11, 03:39 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 03:38 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 03:40 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 03:41 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 03:42 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-19-11, 03:41 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 03:44 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 03:45 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 03:46 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 03:48 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-19-11, 03:48 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 03:49 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-19-11, 03:50 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 03:53 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 03:54 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 03:55 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 03:56 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 03:57 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 03:58 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 04:00 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 04:01 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 04:02 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 04:04 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 04:07 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 04:08 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 04:09 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 04:10 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 04:14 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 04:16 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 04:17 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 04:18 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 04:20 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 04:21 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 04:23 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 04:24 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 04:26 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 05:39 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 05:41 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-19-11, 05:44 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-20-11, 04:49 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-20-11, 05:04 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-20-11, 05:08 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-20-11, 05:16 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | متوكل بحر | 04-20-11, 06:55 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-21-11, 08:03 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-21-11, 08:09 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-21-11, 08:13 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-21-11, 08:27 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-21-11, 08:29 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-22-11, 05:49 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 04-24-11, 04:22 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 05-03-11, 05:08 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 05-03-11, 05:24 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | محمد بدوي مصطفى | 05-10-11, 10:38 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 05-11-11, 03:09 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 05-11-11, 04:12 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 05-12-11, 08:25 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 05-13-11, 04:25 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 05-18-11, 05:31 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 05-21-11, 02:48 PM |
Re: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد | عبدالبديع عثمان | 05-22-11, 03:17 PM |
|
|
|