|
Re: الجانب الآخر لقاتل الشخصية الجميل (Re: عبد الحميد البرنس)
|
شَعْرُها الحر ذهبيّ اللون. كما لو أن الشمس تلقي يدا حانية على حقل الحنطة موسم الحصاد. شَعْرٌ ظلّ يوقد في قلبي حرائق الرغبة، بلا رأفة، كلما ألقت برأسها عابثة للوراء. شَعْرٌ بدا لي على الدوام مثل بيتٍ من الشِعرِ توارى قائله قبل ألف عام، فيما لا يزال شأن الروائع الأخرى الخالدة محتفظا بدفء أصوات ساكنيه، عذوبة ابتساماتهم، لمساتهم الحانية على الأشياء، نعومة نسيج تشوقاتهم على أعتاب فجر جديد، واهبا الجالس داخل غرفه الوثيرة إضاءة مخمليّة، بينما في المساء يمكن لجالسٍ آخر هدَّه الشوق وأضناه الحنين خلف إحدى نوافذه المشرعة قبالة هفيف ذلك الخطو الأثيريّ الموَّقع لِنسمةٍ باردة لثمت للتو حقل ياسمين قريب أن يبعث بمناجاته إلى فتاة أحلامه عبر ضوء هامسٍ لِنُجيمة حنون، فإذا البعد قربٌ وإذا الظمأ رواء.
كانت مسيحية برأس لا تزال مترعة بتفاصيل دقيقة عن فتيان أحلامها في زمان لم يعد له الآن من وجود. إنهم فتيان فرقة "البيتلز". تلك المجموعة التي ذهبت في عشقها حدَّ الوله مدى حياة كاملة.
كدتُ أن أقول لها بُعيد إجراءات تسليم وتسلّم تلك الوردية إنه كتاب ماركس "الآيديولوجية الألمانية". أحجمت في اللحظة الأخيرة عن قول لا يجدي. نلت حظي من قراءة الكتب ومناقشة تلك النظريات العقيمة وهذا وقت خاصّ لحرائق الجسد وأحاديثه الشجيّة كرفيف الشفاه الصامت تحت خيمة الأنفاس اللاهبة. آنذاك، بينما تنتظر ابنتها دوريان لتقلها كالمعتاد إلى البيت بسيارتها الفورد، سألتني عنه، وهي تراه معي لأول مرة، حاولتْ قبلها جاهدة فك طلاسم حروفه العربية، بلا جدوى. نظرتُ بدوري إلى نفس صورة ماركس الباهتة على ظهر الغلاف. كانت ملامحه غائمة وراء تلك الآثار المتراكمة لأصابع يدي عبر السنوات. حين بدا لي في تلك اللحظة أشبه براهب طيب عجوز، قلت لها بجدية تامة "هذا، عزيزتي ليليان، كتابنا المقدس". بدت متفهمة لتلك الإجابة العابثة، وهي تتساءل متأمّلة صورة ماركس، قائلة "وهل يؤمن به الكثير من الناس هناك، يا هاميد". قلت "بل يعتقدون، عزيزتي ليليان، أن مجرد ترتيله سبب كاف لتقليل رقعة الفقر ومحو فساد الحكام". أخذتْ العجوز تتطلع بقلق إلى إحدى شاشات المراقبة، قائلة "للأسف الناس هنا لا يبالون بالسماء كثيرا". كمن يستدرك أمرا على حافة الوقت، سألتني، قائلة بدهشة "آه، نسيت، هل تؤمن أنت بالله، يا هميد". كانت الإجابة عالقة في داخلي منذ زمن بعيد. قلت "حين لا ينوب عنه الآخرون". كنت أدرك جيّدا أن حيِّز المعلومات الضخمة في دماغها عن "جون لينون" و"بول مك كارني" و"جورج هاريسون" ورفيقهم الرابع لم يتح لها في نهاية المطاف سوى هامش ضئيل للتفكير خارج ساعة قمار واحدة من كل أسبوع مدفوعة في كل مرة باستعادة أمجاد غنى آفل قديم. فجأة، وهي تنظر إلى السقف متبرمة من تأخير ابنتها، وثمة شعور خفي بحبّ غامر يجتاحني صوب الله والعجوز قد أخذ يعتمل متخللا مسارب روحي شيئا بعد شيء، تناهى صوتها، وقد شرعتْ تتغني بإحدى روائع جون لينون الأخيرة بنبرة خافتة أقرب ما تكون إلى الدندنة "كل ما نقول به.. امنحوا السلام فرصة". رأيتها بعد وهي تتراجع بمقعدها المتحرك إلى الوراء في تثاؤب. كانت قد أنهتْ لحظة دخولي عليها كتابة بعض ملاحظاتها على دفتر التقرير اليومي. شبكتْ أصابعها وراء عنقها ناظرة إلى شاشات المراقبة. كانت تلك من اللحظات النادرة التي تأخرت فيها دوريان عنها إلى هذا الحدّ. قالت مبددة سأم السكون المشوب بالانتظار "كالعادة، لا شيء هام حدث أثناء وردية الليل". بدأتُ أتأمّلها مرة أخرى من طرف خفيّ. كان الشعور بالحبّ تجاه الله والكون والعجوز قد فاض في قلبي، ولم يعد محتملا، حين استدرتُ نحوها في جلستي تلك، ورجوتها على حين غرة، قائلا:
"هل تسمحين لي بتمرير يدي على شعرك"؟.
يتبع:
|
|
![URL](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif) ![Edit](https://sudaneseonline.com/db/icon_edit.gif)
|
|
|
|
|
|
|