|
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: عبد الحميد البرنس)
|
على غير العادة، خرج الحاج محمود مبكِّراً، بعد أن رأى في المنام كل باً أسود يضع في فمه غليوناً يتصاعد منه دخان رمادي. جلس داخل الفرندة على طرف السرير متصالب الساقين ملفوفا داخل العتمة واضعاً رأسه بين كفيه في وجوم. وقد أخذ يُقلب في ذاكرته ما قاله ابن سيرين عن الأحلام، بينما عيناه ترنوان إلى شيء أبعد من العتمة والفناء و ذكرى زوجته الراحلة وبناته الثلاث اللائى تزوجن تباعا وغادرنه مع أزواجهن إلى مدن بعيدة.
أخيراً طفق يتوضأ بهدوء و تمهل وقلبه يحدثه فيما يشبه الهمهمة بأن كارثة ما في طريقها لتقويض سلام تلك المدينة الوادعة مرة واحدة وإلى الأبد. وقد كان.
"اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه". تمتم الحاج محمود وهو يلقي بالأمر كله على كاهل الخالق ونهض. لم يدم انتظاره طويلاً. ما إن فتح باب الحوش الخشبي العتيق وسار في الشارع خطوات قليلة في طريقه لرفع آذان الفجر، حتى تجمد الدم في عروقه وتوقفت أنفاسه دفعة واحدة، إذ انشقت الأرض على بعد خطوة واحدة منه عن كل ب أسود، وقف على قائمتيه الخلفيتين لحظات، ثم تلاعب بعينين متقدتين كعيني عاشق قديم لا ينقصه الحياء، قبل أن يمرق بذيل معقوف إلى أعلى في الاتجاه المعاكس كبرق. حين التفت لم يكن ثمة شيء سوى ذلك السكون المخيم على امتداد الشارع الطويل المترب. "اللهم اجعله خيراً"، بالكاد خرج صوته. ومع ذلك، سرعان ما هدأ من روعه و أخذ يغذي الخطى مواصلاً السير كمؤمن حقيقي.
كانت تقترب من الثالثة بعد منتصف الليل، ما زال في الوقت متسع للتأمّل في مخلوقات الله والسير بتؤدة، المصابيح مطفأة داخل المنازل، أعمدة الكهرباء الأسمنتية المتعاقبة أعماها عبث الصبية النهاري، أما القمر في تمامه فكان يطل من حين لآخر من خلل السحب السوداء السارية ببطء صوب الشمال، يختفي فتعتم الأشياء آخذة من جديد أشكالها المخيفة الغامضة، "الناس غافلون عن غايتهم، "الآيات بيِّنات" و واضحة، لكن الحكمة لا يبصرها المبصرون، وتلك لعمري ساعة يذكر فيها اسم الله كثيراً"، واصل الحاج محمود الهمس، مبدداً وحشة الطريق و محتسبا بقايا الرؤيا المشئومة في خشوع، فاركاً بين يديه مسبحة الصندل الحجازية الدقيقة من آن لآن، ومغالباً تلك الدموع الحارقة التي ظلت تملأ عينيه كلما استشعر في أعماقه عظمة الخالق سبحانه وتعالى. فجأة انتبه إلى حركة مريبة أخذت تتناهى إليه لاهثة من وسط كومة الأوساخ المتراكمة أسفل سور المدرسة الأميرية الحجري القصير.
في البداية، لم يخالجه الشك لحظة واحدة أن الشياطين تتناسل داخل تلك "الخرابة و العياذ بالله" في غفلة تامة من عين الإنسان "الذي يمتلك مفاتيح السر منذ أن حمل الأمانة". ثم، بيقين تام ومثلما حدث قبل دقائق معدودة مع الكل ب الأسود، توقف غير بعيد من تلك "الخرابة" وقال بيقين العابد الصادق نفسه: "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم"، ولكن "أي شيطان لا يفر إذا ما أطلق عليه إسم الجلالة"، تساءل الحاج محمود وبدأ القلق القديم يساوره، إذ لم يتغير شيء مما يحدث، وأكثر من ذلك ظل نفس اللهاث يتفاقم شيئاً بعد شيء. "و لو أنه في تلك الساعة لم يكن المؤذن الرسمي للمسجد الكبير لأطلق العنان لساقيه لا يلوي وراءه على شيء".
شبحان غريبان من خيال العتمة، يلتحمان في وضع أكثر غرابة، لكأن القاذورات تحتهما سجادة حريرية يتمرغ على نعومتها جسدا عاشقين التقيا بنهم و لهفة بعد طول غياب لم ينقطع خلاله نداء الشوق والوجد وظمأ رغبة لا رواء له.
كان القمر محتجباً آنئذ وراء سحابة سوداء كثيفة، العرق يتصبب من جبينه وصدغيه مبللاً لحيته البيضاء المستديرة وقلبه يرتجف داخل صدره كأنف فأر حاصره قط في ركن ضيق، كان قد استنفد في تلك الدقيقة كل ما في جُعبته من آيات وأدعية و أحاديث مأثورة "وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ". لا شيء تغير، البتة.
ما إن قرر أخيراً مغادرة المكان "بأسرع قدم لديه"، وقد أدرك برعب مدى ضعف إيمانه "الذي لم يصمد طويلاً" إزاء "هذا البلاء الرباني اليسير"، حتى جاءه الغيث من السماء "رأسا"، حيث اندلق نور القمر المنير كاشفاً له في ثانية معالم الفصول الدراسية وتضاريس السور الحجري القصير، بل و... أدق تفاصيل الشبحين اللذين كادا منذ دقيقة واحدة فقط أن يقلبا نظام العالم القائم في ذهنه منذ الولادة رأساً على عقب.
رويداً رويداً، أخذ يفيق من "ذهوله العظيم". و بدأ يتنفس الصعداء. و قد وضح له الأمر "الآن" جلياً. لبث في مكانه ساكناً مسافة. يلفه الغيظ و الغضب والحنق والحيرة و الوجوم. و أكثر من ذلك: تخاذل إيمانه في اللحظة الأخيرة!.
أخيراً، و قد هدأ روعه تماما، عقد عزمه فتقدم وسط أكوام الأوساخ المتلاحمة أو تكاد، شاقاً طريقه مثل ثعلب يقترب من حظيرة الحملان بخفة وحذر.
كان بينه وبين الشبحين خطوة واحدة، حين تبين له وجه أحمد حسن على نحو شديد الوضوح. "ذلك الفاجر"، قالت "وكالة رويتر المحلية"، ثم رمت نظرة نافذة متناوبة على وجهي أختيَّ جعلت الكبرى تتأمّل أظافرها المطلية حديثاً بينما تغير وجه أمّي قليلاً حالما رأت الأصغر وهي تبادل "وكالة رويتر المحلية" نظرة الند للند بل صعدت إلى حصان جرأتها المعهودة لحظة أن مدت عنقها إلى الأمام وقد خيل لي أنها قد تتحول في أية لحظة إلى أذن فيل ضخمة لا محالة. أما جارتنا فاطمة فقد كانت لا تزال هادئة تبتسم بعينيها الجميلتين دون أن تنفك يداها لحظة من تهوية وجهها بكتاب:
"ألف طريقة وطريقة لصناعة الحلوى ".
يتبع:
|
|
![URL](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif) ![Edit](https://sudaneseonline.com/db/icon_edit.gif)
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
"تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | عبد الحميد البرنس | 12-05-10, 04:58 PM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | عبد الحميد البرنس | 12-05-10, 05:11 PM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | عبد الحميد البرنس | 12-05-10, 06:15 PM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | ابو جهينة | 12-05-10, 06:37 PM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | عبد الحميد البرنس | 12-06-10, 00:34 AM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | عبد الحميد البرنس | 12-06-10, 07:43 AM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | عبد الحميد البرنس | 12-06-10, 07:03 PM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | بله محمد الفاضل | 12-06-10, 07:11 PM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | عبد الحميد البرنس | 12-07-10, 02:37 AM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | بله محمد الفاضل | 12-07-10, 08:00 AM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | بله محمد الفاضل | 12-07-10, 08:15 AM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | عبد الحميد البرنس | 12-07-10, 10:58 AM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | عبد الحميد البرنس | 12-07-10, 05:53 PM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | عبد الحميد البرنس | 12-07-10, 11:47 PM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | عبد الحميد البرنس | 12-08-10, 01:36 AM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | عبد الحميد البرنس | 12-08-10, 09:57 AM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | عبد الحميد البرنس | 12-08-10, 12:13 PM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | عبد الحميد البرنس | 12-10-10, 00:08 AM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | عبد الحميد البرنس | 12-10-10, 07:30 AM |
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة | عبد الحميد البرنس | 12-10-10, 02:20 PM |
|
|
|