تسائل عن موضوع طوكر

Quote: جنوب طوكر .. موت دنيا (2) "جلهنتي" دولة الأحلام القادمة .. اقرع "الواقفات" يرويها : صالح عمار علي بعد مئات الكيلومترات من المدن والحواضر؛ وعلي ارتفاع شاهق، تطل "جلهنتي" من علياها شامخة؛ تحكي عن تاريخ شعوب وممالك مرت عليها .. أهلها وبمجرد وصولنا تقاطروا لاستقبالنا صغاراً وكباراً، وفتحوا لنا مضيفتهم ـ صندقة من الخشب سنعلم فيما بعد انها مدرسة مديرها ومعلميها وكل شئ فيها شاب في مقتبل عمره ـ وجلسوا يتجاذبون معنا أطراف الحديث. مرافقنا وبعد ان أكمل شحنات الغضب؛ وعدد مظاهر افتقار المنطقة لمقومات الحياة؛ وتوصل إلي أن ما يحدث هناك مطابق لتعريف الإبادة الجماعية في القانون الدولي، توجه بحديثه نحونا ساخراً "أنا متأكد إذا جيت الخرطوم وقلت أنا حاكم جلهنتي حيصدقوني هناك ويتعاملوا معاي كحاكم لانو ديل ماحيعرفوا عمرهم كلو وين تقع جلهنتي في الخريطة". ومن وقتها ولحين نهاية رحلتنا تحولت الواقعة لرواية كاملة، وصارت "جلهنتي" دولة ومملكة منفصلة حسب خيال وأحلام "حاكمها الافتراضي القادم" ومرافقيه الذين تقاسموا فيما بينهم مهام وتكاليف إدارة دولتهم "القادمة"، ورسموا تفاصيل خططهم وبرامجهم لحكم "جلهنتي". ورغم روح السخرية التي لا تحتاج لجهد لاكتشافها في قصة "جلهنتي"، إلا أن واقع وقصة جنوب طوكر طوال عشرات السنين، لا يصلح معها إلا السرد علي طريقة القصص والروايات "المثيرة" التي تختلط فيها الحقائق بعوالم السحر والخيال، ويصبح الوضع فيها شبيها بما قاله نائب رئيس تحرير صحيفة أجراس الحرية فايز الشيخ السليك ـ الذي أقام في تلك المناطق إبان فترة الحرب في التسعينيات ـ بأن جنوب طوكر (تذكرنا بمدينة ماكندوا في رواية مئة عام من العزلة). مابين الجبال والسهول والبحر: ثروات ضخمه ومميزات نادرة موقع وموارد المنطقة لا يبعد كثيراً عن روح "الإثارة" تلك، فمن جنوب سواكن وحتى قروره يمتد ساحل البحر الأحمر في مساحة تقارب ألمائتي كلم، الساحل الذي لا يبعد في معظم أجزائه عن المؤاني والسواحل الخليجية سوي كيلومترات قليله، ولا يبعد أيضا كثيراً من باب المندب ممر العبور الإستراتيجي للصادرات والواردات الدولية والمكمل لقناة السويس. وتتمتع المنطقة بمميزات طبيعية لا تتوافر إلا في مناطق قليلة من العالم، فعلي تلك الأرض يقع مشروع دلتا طوكر الزراعي الذي أكدت دراسات علمية موثوقة ان أراضيه من أخصب الأراضي في العالم (ومرد ذلك كميات الطمي الضخمة التي يحملها خور بركه). ويقع المشروع علي مسافة قريبة من البحر، وهذه من الميزات نادرة الحدوث؛ ان تجاور الأراضي الزراعية البحار المالحة "والعملاقة"؛ فدائما ما تقع الأراضي الزراعية بعيدا عن المؤاني.. وهو الوضع الذي يسهل حركة الصادر لمنتجات المشروع للسوق الخليجية ذات الحوجة الماسة لهذه المنتجات. وفي حالة نادرة الحدوث أيضا، تروي أراضي المنطقة الزراعية بالمياه في فترتي الصيف والشتاء، ففي الصيف يحمل خور بركه معه كميات ضخمه من المياه والطمي قادما من المرتفعات الإرترية؛ وفي الشتاء تهطل الأمطار بغزارة كنظيراتها من سواحل البحر الأحمر، ما يتيح مخزونا مائياً ضخما. وإلي الجنوب قليلا من الساحل تبدأ سلسلة جبال البحر الأحمر؛ التي تتدرج في ارتفاعها حتى تصل قمتها في هقر "العاصمة التاريخية لمملكة البجا ذات الموقع الاستراتيجي والطبيعة الخلابة، المعزولة الآن تماماً عن بقية مناطق جنوب طوكر ولا يمكن الوصول إليها إلا مشيا علي الأقدام أوعلي ظهور الجمال". وتشير تقارير لشركات أوفدت بعثات استكشاف للمنطقة، لثراء غير محدود لصخور جبالها، ولتواجد عدد كبير من المعادن وسطها بكميات تجاريه، وفي إفادات لأهالي المنطقة الممتدة بين مرافيت وعندل أوضحوا لنا "أن هناك مجموعات تعمل سراً في تنقيب الذهب في المنطقة بطريقة وأجهزة شبيهة بما يتم في ولاية نهر النيل" ويضيف عثمان همد احد قيادات المنطقة "نرفض ذلك وسنمنعه ولو بالقوة، ومن يريد التنقيب في المنطقة عليه إتباع الإجراءات المعروفة في مثل هذه الحالات وحفظ حقوق المنطقة وأهلها". ولفترة قريبة كانت المنطقة تحتضن ثروة حيوانية ضخمه، لتناسب طبيعتها ومواردها مع هذا النمط من الإنتاج، كما نمت في عدد من حواضر المنطقة (ومن أهمها قرورة وعقيق وطوكر) أسواقا وحركة تجارية غذتها التجارة الحدودية مع ارتريا؛ والبضائع القادمة من العالم الخارجي عبر الساحل؛ ومنتجات ومدا خيل مشروع طوكر الزراعي. الثروة الأكبر التي تقترب من الخروج لسطح الأرض ويتوقع ان تثير جدلا في المرحلة القادمة هي الغاز الطبيعي، الذي أثبتت عمليات الاستكشاف التي تمت في السنين القليلة الماضية وجوده بكميات ضخمه، ويتوقع ان يبدأ العمل الفعلي فيه خلال فترة زمنية قصيرة "بالتركيز علي آبار داخل البحر نفسه في المرحلة الأولي". الثروة السمكية ومنتجات البحر الأحمر يمكن ان تشكل مصدر دخل كبير خصوصاً في منطقة العقيق (مع الإشارة لأحاديث وروايات متعددة عن جرافات دول إقليميه تصطاد شركاتها علي ساحل المنطقة داخل المياه الإقليمية السودانية وبطريقة مخالفة للقانون الذي يفرض استخدام شبكات ذات مواصفات معينه للحفاظ علي الأسماك الصغيرة، ما يمكن ان يؤدي لتدمير الثروة السمكية). ولكن .. الواقع شئ آخر علي النقيض من كل هذه الموارد والثروات "واللوحة الزاهية التي ترسمها"، تفتقر المنطقة الآن لكل مقومات الحياة وتعاني من أوضاع إنسانية متردية، لا تتناسب مع ما تختزنه من موارد. ولهذا الوضع مسببات وجذور تاريخية وسياسية ما تزال تداعياتها مستمرة. فالمنطقة وبعد قيام الثورة الإرترية بداية الستينيات، تحولت لقاعدة انطلاق للحركات الإرترية التحررية، وخط إمداد خلفي لمعسكراتها في العمق الإرتري، وساعد هذا الوضع علي ازدهارها اقتصاديا؛ مع خدمات صحية وتعليمية كبيرة قدمتها تلك الحركات للأهالي، في مقابل أضرار ناتجة عن ضربات عسكريه أثيوبيه ـ نادرة ـ للثوار الارتريين داخل الأراضي السودانية (ومن نماذج ذلك غارة شنتها الطائرات الأثيوبية أدت لتدمير مدرسة عدوبنا الوسطي بداية الثمانينيات). وبعد نيل ارتريا لاستقلالها في أوائل التسعينيات، ورحيل الحركات الارترية من المنطقة، نمت حركة تجارية واجتماعية نوعية مع الدولة الوليدة، لم تستمر طويلا بسبب التدهور في العلاقات بين نظامي الحكم في الخرطوم واسمرا. التدهور في علاقات البلدين و "الحرب الصامتة" بينهما دفعت جنوب طوكر ثمنه الرئيسي وفاتورته الباهظة، ولم تقتصر خسائرها علي فقدانها للحراك الاقتصادي والاجتماعي، وإنما تعدي ذلك لحدوث واحدة من اكبر عمليات النزوح في الشرق وتغيير كامل في ديمغرافيتها، وقتل وجرح وتعذيب الآلاف من سكانها، أدت إليه الحرب الشرسة التي دارت في قراها وحواضرها. نواصل