|
Re: قونقليز (Re: هشام آدم)
|
في منزل العائلة الكبير، الذي كمنازل النمل، بغرفه الكثيرة والمتداخلة، وقف أمام جثمان أمّه المسجى على عنقريب الجرتق المصنوع من خشب السروج. وقبل أن يُكشف عن وجهها، تأمل منظر جسدها المترهل كشحنة إسفنج، وهو يتساءل عن مصيرها، وعما إذا كان ذلك المصير يستحق المشقة التي بذلها في طريقه من العاصمة إلى ريف العيكورة أم لا! وللسخرية؛ فإنه لا يتذكر تفاصيل مجيئه من الخرطوم، أو متى، بالتحديد، كان ذلك، غير أنه يتذكر جيدًا قلقه وخوفه اللذان لم يعرف لهما سببًا، إضافة إلى ضيقه الذي كان قد بدأ بالتخلّق، منذ أن وطأت قدماه محطة السوق الشعبي الخرطوم، وحتى وصوله إلى هذا المكان الذي يعج بالناس ذوي الأعين المخيفة، والوجوه الواجمة والباهتة، كأنهم تماثيل نصفية في مرسم فنان بوهيمي.
مرت بذهنه صور باهتة لوجوه بائعي المثلجات في السوق الشعبي الخرطوم، وأصوات طقطقة الأكواب النيكلية المغرية، والفتيات اللواتي يبعن منتجات التجميل الصينية، وكريمات تفتيح البشرة، دون أن يتمتعن بتلك الميزة على الإطلاق، منتصبات على الأرصفة الترابية كعيدان القمح السمراء تحت لهيب الشمس، وهن يرددن بلا توقف: "المعلقة بنص جنيه!" والفتيان البائسين، ذوي الوجوه الكالحة، حفاة الأقدام، الراكضين وراء أكياس النايلون المتطايرة في المكان يحاولون الإمساك بها، وبيع ما تجمّع منها لمصنع تدوير البلاستيك مقابل حفنة من الجنيهات، التي بالكاد تكفي لكوب من عصير العرديب المثلج لكل واحد منهم، والرجال المصابين بالجذام، كمسوخ مشوّهة، تسير، بقوائمها الخلفية كحشرات فضائية دميمة، على أرصفة وشوارع العاصمة، دون أن يلتفت إليهم أحد شفقة أو اشمئزازًا.
أطفال الورنيش الذين يعبئون شوارع العاصمة الهادئة بأصوات كشكشة علب الصلصة الفارغة، إلا من بعض الحصوات الصغيرة الملساء، ولم يغب عن باله، كذلك، رائحة البول التي تعبّق المكان، جنبًا إلى جنب مع رائحة زيوت السيارات القديمة المتكلسة على الطرقات، والتي لا يعلم أحد من أين جاءت. ومواء القطط الشرسة، وشجار طلاب الجامعات مع بائعي السعوط، وألف صوت وصوت. يتذكر كل ذلك، وكأنه حدث قبل ألف عام.
للموت، عنده، رائحة مزعجة وغريبة، أشبه برائحة القطن المبلول. يعرف تلك الرائحة جيدًا، ولازالت عالقة بمراكزه الشمّية منذ حادثة غرق قديمة، شارك فيها على مضض بغسل الضحايا، كما أن للموت هيبة لم يستشعرها جيدًا. خيّل إليه أن الأمر أشبه بمسألة وقتية عابرة، تنتهي بافتقادنا للموتى؛ ذلك الافتقاد الذي لا يرتبط بالموت نفسه، وإنما بعجزنا عن التواصل مع الآخرين. لم يكن في إمكانه التعامل مع الموت كحقيقة لها وقعها المؤلم والمؤسف، بل لم يستطع أن يتصور الموت إلا من حيث أنه موقف طارئ يجعلنا نشتاق إلى الموتى لبعض الوقت.
ما إن رُفع الغطاء الدموري الأبيض عن وجهها؛ حتى اعترته رغبة عارمة في الضحك. كانت تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها أمه ساكنة! لا يتذكر أن رآها صامتة كما هي الآن، وفمها لا يتحرك كما هو عادته منذ أن أدرك حقيقة العلاقة بينه وبين هذه السيدة النائمة على عنقريب الجرتق. استغرب قدرتها المعجزة على الكلام المستمر والنميمة، وفي أحايين كثيرة، حين يعجز عن التأمل والقراءة، يجلس إليها، ويأخذ عنها أخبار أهالي العيكورة بالتفصيل: نفوق الأبقار، آفات الزراعة، الزيجات الحديثة، فضائح القرية، أسعار البضائع، أنباء السوق وأهله، قائمة الفتيات المقترحات للزواج، أحاديث النساء المملة التي لا يستسيغ سماعها إلا من أمه. لا يفعل ذلك بدافع الفضول أو بدافع الاطلاع على أحوال القرية؛ وإنما، فقط، لقضاء الوقت، ولابد أن ينتهي الحديث، عندها، بذكر الشريشاب الأجلاف، الهاربين من بطش الدفتردار في زمن موغل في القدم، ليطمئن بذلك على استقامة خرفها على عوده.
أطال النظر إلى وجهها؛ فخيّل إليه أنها تبتسم أو تكاد، وكان كالذي يختبر قدرة الموت على تكميم الأفواه، وفرض قانون الصمت على أمه الثرثارة. تصور الصراع الذي قد تعانيه، الآن، مع الموت حول هذه النقطة بالتحديد، وقدّر أنها سوف تنتصر عليه في نهاية المطاف، وأراد أن يشهد لحظة الانتصار قبل دفنها، غير أن الأيادي امتدت لترخي الغطاء الدموري مرة أخرى على وجهها، ورفعوا أياديهم بحركة ميكانيكية موحّدة، ونادى أحدهم بصوت أجش: "الفاتحة".
حل السكون، فجأة، على الغرفة التي سكنت رائحة الموت أوردتها الغليظة المعلقة على السقف مِرقًا من خشب السنط المُعمِّر، ما منحه فرصة جيدة لتذكر بعض تفاصيل القرية التي سقطت من ذاكرته منذ تسعة أعوام. هاجمته صورة النسوة القابعات في الغرفة المجاورة، تأتيه منهن أصوات غمغمات كحمحمة الخيول. "إنها ورطة حقيقية!" قالها وهو يستثقل ما ينتظره بعد الانتهاء من مراسم الدفن المملة، والتي لن يناله منها إلا غبار المقابر التي تحمل تبر الأجساد الهالكة. كان واجبه الأكثر إلزامية: تقبّل العزاء من نساء القرية المجاملات، وتعزية أخوته، وحملهن على التأسي، وهو ما لا يطيق عليه صبرًا، ولا يجيد تقنياته.
ما إن خرج الرجال من الغرفة حاملين النعش، متجاوزين بابها الحديدي السميك، حتى انطلق عويل النائحات متزامنًا مع صوت العبارة الجنائزية المعهودة: "وحدوه .. لا إله إلا هو" فتبسم في سرّه، وقال: "يا لمكر النساء!" بطريقة ما، أحيت له إحدى الأصوات النسائية النائحة الحادة ذكرى أكيج دينق، بائعة الخمر التقليدية، التي تسكن في مكان ما على شاطئ النيل الأزرق، وتذكر تلك الليالي التي قضاها بصُحبتها مُعاقرًا للخمر الجيدة التي تصنعها بإتقان، وتشتهر بها في المنطقة "لا يقتل الوهم إلا مزيد من الوهم!" قالها، وهو يعقد العزم على زيارتها في مسائه ذلك.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:00 AM |
Re: قونقليز | وليد محمد المبارك | 10-23-10, 08:05 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:09 AM |
Re: قونقليز | عمر عبد الله فضل المولى | 10-23-10, 08:08 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:13 AM |
Re: قونقليز | أحمد ابن عوف | 10-23-10, 08:13 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:22 AM |
Re: قونقليز | عبد الناصر الخطيب | 10-23-10, 08:17 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:19 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:25 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:29 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:30 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:31 AM |
Re: قونقليز | خضر حسين خليل | 10-23-10, 09:16 AM |
Re: قونقليز | DKEEN | 10-23-10, 08:35 AM |
Re: قونقليز | DKEEN | 10-23-10, 08:35 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:39 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:41 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:42 AM |
Re: قونقليز | اساسي | 10-23-10, 08:42 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:44 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:47 AM |
Re: قونقليز | أحمد ابن عوف | 10-23-10, 08:48 AM |
Re: قونقليز | معاذ الهادي | 10-23-10, 08:53 AM |
Re: قونقليز | حيدر حسن ميرغني | 10-23-10, 09:30 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 09:38 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 09:48 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 09:51 AM |
Re: قونقليز | مرتضي عبد الجليل | 10-23-10, 11:54 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 12:35 PM |
Re: قونقليز | محمد عبد الماجد الصايم | 10-23-10, 12:41 PM |
Re: قونقليز | منتصرمحمد زكى | 10-23-10, 12:48 PM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 01:16 PM |
Re: قونقليز | osama fadlalla | 10-23-10, 02:28 PM |
Re: قونقليز | خالد عويس | 10-23-10, 02:36 PM |
Re: قونقليز | خالد عبد الحليم سعيد | 10-23-10, 03:10 PM |
Re: قونقليز | النذير حجازي | 10-23-10, 04:39 PM |
Re: قونقليز | أحمد أمين | 10-23-10, 04:56 PM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:34 PM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:33 PM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:31 PM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:29 PM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-23-10, 08:22 PM |
Re: قونقليز | فتحي الصديق | 10-23-10, 09:09 PM |
Re: قونقليز | محمد قرشي عباس | 10-23-10, 09:45 PM |
Re: قونقليز | Safa Fagiri | 10-24-10, 04:52 AM |
Re: قونقليز | فيصل محمد خليل | 10-24-10, 07:27 AM |
Re: قونقليز | المعتمد | 10-24-10, 07:35 AM |
Re: قونقليز | Tabaldina | 10-24-10, 07:59 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-24-10, 09:17 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-24-10, 09:13 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-24-10, 09:11 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-24-10, 09:09 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-24-10, 09:04 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-24-10, 09:03 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-24-10, 11:00 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-24-10, 11:05 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-24-10, 11:16 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-24-10, 11:17 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-24-10, 11:34 AM |
Re: قونقليز | عثمان رضوان | 10-24-10, 11:18 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-24-10, 11:36 AM |
Re: قونقليز | محمد سنى دفع الله | 10-24-10, 11:56 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-24-10, 12:18 PM |
Re: قونقليز | مرتضي عبد الجليل | 10-24-10, 11:58 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-24-10, 12:18 PM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-25-10, 09:39 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-25-10, 09:42 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-25-10, 09:51 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-25-10, 09:52 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-25-10, 09:54 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-25-10, 09:56 AM |
Re: قونقليز | حيدر حسن ميرغني | 10-25-10, 10:06 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-25-10, 12:16 PM |
Re: قونقليز | dardiri satti | 10-25-10, 10:20 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-25-10, 12:22 PM |
Re: قونقليز | عبد الناصر الخطيب | 10-25-10, 12:39 PM |
Re: قونقليز | الجندرية | 10-25-10, 03:41 PM |
Re: قونقليز | Elawad | 10-25-10, 06:03 PM |
Re: قونقليز | Nazik Eltayeb | 10-25-10, 06:55 PM |
Re: قونقليز | يوسف الولى | 10-25-10, 09:10 PM |
Re: قونقليز | طه جعفر | 10-25-10, 09:18 PM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-26-10, 05:07 PM |
Re: قونقليز | فتح الرحمن محمد | 10-25-10, 09:27 PM |
Re: قونقليز | محمد يوسف الزين | 10-25-10, 09:32 PM |
Re: قونقليز | Abuzar Omer | 10-26-10, 00:51 AM |
Re: قونقليز | talha alsayed | 10-26-10, 01:06 AM |
Re: قونقليز | amir jabir | 10-26-10, 01:30 AM |
Re: قونقليز | Sabri Elshareef | 10-26-10, 02:44 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-26-10, 05:46 PM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-26-10, 05:25 PM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-26-10, 05:18 PM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-26-10, 05:14 PM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-26-10, 05:11 PM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-26-10, 05:08 PM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-26-10, 08:35 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-26-10, 08:29 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-26-10, 08:28 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-26-10, 08:24 AM |
Re: قونقليز | هشام آدم | 10-26-10, 08:22 AM |
Re: قونقليز | M A Muhagir | 10-26-10, 05:54 PM |
|
|
|