فصل من رواية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-08-2024, 06:42 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-06-2010, 10:10 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصل من رواية (Re: عبد الحميد البرنس)

    فجأة، سقط قلبي تحت أقدامي. ثمة شيء، شيء ثقيل، له وقع الصاعقة، أخذ يسحب روحي من جسمي دفعة واحدة. حلقي جفَّ تماما. وجدتني أتسمّر في مكان ما من سيرجنت. ثمة غلالة ملحية تعشي عينيَّ. كما لو أنني في سبيلي إلى أن أتقيأ ألم السنوات برمته. لم أعد أسمعه. لم أعد أقوى حتى على الوقوف. للحظة خيل لي أن الحياة ليست سوى خيوط معلقة على ضحكة القدر الساخرة. بعد نحو شارعين، أوثلاثة، من تقاطع تورنتو مع سيرجنت، توقف ياسر عن الحديث على حين غرة. رأيته بعدها وهو يهرول نحو الجانب الآخر من الشارع بلا مقدمات. يكاد يقفز من فرحة. كل شيء بدا بغتة كابوسيا تفوح منه رائحة الذعر أوالفزع. رأيته وهو يُشرع ذراعيه نحو سمانتا رأسا. بدتْ في حضنه مرتبكة وقد لمحتني من وراء كتفه وأنا أتابعهما من الجانب الآخر للشارع بكل ذلك العناء. كان الآسيوي بعينيه المبتسمتين يقف غير بعيد منهما. لا يزال برغم دفء الجو متدثرا داخل بالطو الصوف الأسود الطويل. كما لو أن شعره الطويل المهمل أكثر ثقلا في ميزان الرهبة من سائر جسده الضامر النحيف. هذا شاهد الرحلة الأبدية. يقف هناك في مكانه المعتاد تماما عند منتصف جسر الأحياء والموتى. ياسر بعد عناق سمانتا بدا منشرحا وهو يتجه إليه. بدا الآسيوي مرتبكا بدوره وهو يخرج يده الهيكلية من جيب بالطو الصوف الأسود الطويل. يمدها لياسر. يصافحه على عجل وبخوف. يعيد يده إلى موضعها القديم نفسه ونفس الإبتسامة اللعينة لم تغادر عينيه الواسعتين كما لو أنها شيء آخر من خارج ذاته.

    عاد ياسر أخيرا يمشي إلى جانبي. في عينيه فخر وتيه ولسان حاله يقول بالنبرة القديمة الواثقة نفسها "انظر إلى أخيك، يا حامد، كيف يسحر النساء هنا، في كندا، أرأيتني"؟.

    ثمة خوف. لا شيء سوى الخوف. الخوف يملأ جوانح نفسي. وخذ الأسئلة يثقب رأسي المثقلة في غير مكان. هناك، داخل تجويف صدري، لا يزال قلبي يواصل دقاته بعنفٍ وتسارعِ منقار عصفور صغير على قشر صلب بينما خيوط من العرق شرعت تنسكب تباعا من أعلى جبيني كما لو أنني أقف قرب فوَّهة بركان على وشك الانفجار في أية لحظة. أخيرا، سألته بصوت خافت مرتعش "ياسر، إنت شفت البت دي قبل كدا". قال "كتير، كتير كتير، يا حامد، ها ها ها". دققتُ أكثر، متسائلا برعب "عملت معاها شنو". تساءل متهكما "حامد، راجل ومرة في سرير، يعملوا شنو". واصلت استجوابي بصوت ميت "كم مرة ضاجعتها، يا ياسر". قال "ها ها ها، كتير، كتير كتير". قلت "كان عندك عازل طبي"؟.

    قال "حامد، أخوك ياسر الماشي معاك في كندا دا عندو خبرة، دا بت نضيف، خلي عندك وجهة نظر". اقتربنا كثيرا من جامعة وينبيك. بدا لي بورتيج بليس القريب في ثنايا تلك اللحظة الكابوسية بعيدا ونائيا تماما. لم تعد قدماي تحملانني أكثر على المسير. جلست على إحدى تلك الدرجات الحجرية المتعاقبة لبوابة الجامعة الخلفية. وضعت يديَّ على رأسي. انفجرت في نوبة عالية من البكاء وجسمي يختلج كله.

    كان صوت ياسر كوكو يتناهى إلى مسامعي من حين لآخر حائرا ملتاعا متسائلا في تعاطف وشفقة غامضين "حامد، يا زول، إنت كويس". كلما جاوبته في سري زاد بكائي "هذه البنت مريضة بالإيدز، يا صديقي". حتى الآن، لم يخالجني أدنى قدر من الندم. فعلت ذلك من دون أية ذرة تأنيب. الناس منذ قديم الأزل يغادرون "المراكب الغارقة" بغير أسف. لست في هذا نشازا.

    هكذا، لم أكشف له فيما تبقى من ذلك المساء عن سر بكائي ومرارته التي لا تطاق. تركته وهو يصارع قدره المحتوم وحيدا. لم أخبره حتى بمأزق وجوده الذي لا يحسد عليه. كان البكاء قد جعل الموقف برمته في ذهني واضحا صافيا وخاليا من شوائب العاطفة التي بدا وكأن نبعها قد جف في دواخلي في أعقاب آخر قطرة. آنذاك، استجمعت شتات نفسي بصعوبة. واصلت معه الرحلة كما هو مقرر إلى بورتيج بليس. لكأن شيئا لم يحدث. هو لاذ بعدها بصمت كثيف كما لو أنه قرأ حقيقة ما انطوت عليه نفسي من قرار. لم يفه مثلي بكلمة واحدة. لعل البكاء أيقظ كذلك في نفسه مرارة تلك الأشياء الثاوية. لكن المؤكد أنه لم تعد خطواته خفيفة مرحة مثلما بدت عليه عقب لقاء سمانتا منذ لحظات قليلة.

    كان المنفيون الغرباء يتحدثون هناك حديثا فاترا مليئا بمرارة بدت لي غريبة عن لؤم الفلبينيين في أماكن العمل. بعضهم استقبل ياسر بالأحضان. لو رأووا مثل ما رأيت منذ قليل لفروا من وجهه كما يفر الشجاع أمام أسد. كنت قد بدأت بالفعل أنظر إليه من آن لآخر نظرتي إلى رجل ميت. هو شرع يحدثهم بكثير من المرح عن رغبته في إقامة مشروع تجاري صغير في السودان. كنت أعرف أنه يسعى إلى شراء ماكينة لتصليح الأحذية القديمة التالفة في أحد الأحياء العشوائية المحيطة بالخرطوم. سأله عادل سحلب بتثاؤب وضجر عما إذا كان قد أقام دراسة جدوى لمشروعه بعد أم لا. قال له قم أنت بالدراسة لنفسك وأترك لي مهمة الشراء لنفسي. أعجبني رده برغم شبح المأساة الماثل. لم أدهش لحظة أن تقبل عادل سحلب ما بدا مهينا لمثله خلال سنوات القاهرة في صمت. لقد أدرك أن كل ما قد كسبه في الماضي من معارف وثقافة ودهاء سياسي قد آل في ظل لغة لا يعرف حتى أبجديتها إلى شيء لا جدوى منه. كان ياسر يُطيب له في أحيان كثيرة أن يمازحه ضاربا على كتفه كزميل في مهنة هامشية أخرى مؤكدا له في كل مرة أنهما لو ظلا معا داخل الوطن لما ألقى عليه مجرد تحية عابرة. ظلّ عادل يواصل العمل في مطعم فخم متخصص في تقديم الدجاج المشوي يدعى "سويس شاليه" كغاسل للأطباق. مطعم يؤمه عادة المتقاعدون من البيض وبعض المحتفلين بمناسبات خاصة. مطعم مزدحم تسع قاعته لأكثر من خمسمائة زبون يتم خدمتهم في لحظة واحدة. كان يقف يوميا لمدى ثماني ساعات وسط أرتال من الأطباق والملاعق والشوك والأكواب المتسخة وقد غمرته أبخرة حارة ما تنفك تتسرب من الغاسلات الآلية على مدى ساعات خدمته الممتدة بلا نهاية. عند آخر كل مساء، كان يعود إلى شقته بقدمين متورمتين تقريبا ورأس محترقة ونصف دزينة من بيرة باردة تسمى "مولواكي آيس". يسند ظهره إلى كنبة في الصالة. يمدد ساقيه على استقامتهما. يغمض عينيه يبدأ يرتشف من علب البيرة المثلجة مباشرة. يظل على هذا المنوال نحو الساعة تقريبا قبل أن يمسك بسماعة الهاتف ويتسقط آخر أخبار المنفيين الغرباء في تلك الأحياء المتفرقة من المدينة.

    عدت من بورتيج بليس حوالي العاشرة مساء.

    على امتداد سيرجنت، لم يكن ثمة من أثر يدل على سمانتا وصديقها الآسيوي ذي العينين المبتسمتين. لعلهما ذهبا آنذاك في طريق الإيقاع بضحية أخرى.

    أومأت قبيل ذهابي لياسر كوكو برأسي مودعا. لاحقني صوته مطهما بفسحة الأمل "أشوفك بكرة". لكأنني لم أسمعه. الآخرون كانوا وقتها في نقاش محتدم حول انخفاض قيمة الدولار الكندي مقابل ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي "هذه الأيام". ربما لهذا لم يولووا مسألة انصرافي عنهم كبير اهتمام. "أشوفك بكرة". أخذت أردد في نفسي كلماته تلك أثناء الطريق إلى البيت. لم تكن أماندا قد عادت من زيارة صديقتها القديمة جسيكا بعد. ثمة شيء غامض لا يزال يربطهما معا. أماندا أخبرتني في مرات عديدة أنها لم تعد تكن لها مشاعر حقيقية منذ فترة. لكنها ظلت دائما في حيرة من أمرها. لا تدري كيف تحسم شيئا وُلِدَ ونما عبر سنوات عديدة وصار جزءا لا يتجزأ من نسيجها النفسي. لقد بدا من الصعوبة بمكان على أماندا أن تقول لكل تلك المغامرات العاطفية وجملة المواقف والذكريات المشتركة بينهما "إلى هنا وداعا فقد انتهى كل شيء". ما زاد الأمر تعقيدا أن جسيكا كانت تعلم جيدا أن أكثر ما يمكن أن يشل إرادة أماندا في هذا العالم: الدموع.

    ظللت أقول في نفسي، في مثل تلك الأحوال، لو أن أماندا عاشت في منفى وسيط مثل القاهرة لما كلفها الأمر كل هذا العناء. هناك ظل معظم الناس يستبدل العلاقات كما يستبدل ملابسه القديمة بأخرى جديدة. لكل مرحلة حساباتها. لا صداقة دائمة. لا عداء دائم. كان مثل هذا السلوك يؤدي ببعض المثاليين إلى الانتحار أوالجنون أوالاحباط أومعاقرة الخمر آناء الليل وأطراف النهار. المنفى تحكمه الحاجة لا القيم. علمتني الخبرة هناك أن أكثر الناس حديثا عن القيم كانوا أكثرهم بعدا عنها. أُطلق أحيانا على تلك الفترة من حياتي اسم الحرباء. كانت كلمات كثيرة، مثل "الاحترام" أو"الأخلاق" أو"الصداقة"، قد شرعت تتحول في ظل شح النقود وانعدام فرص العمل أوندرتها إلى عُملات لا بد منها لشراء الطعام أوتأمين المأوى أوحتى تعمير خرائب الرؤوس التي عصف بها الحنين بخمر رخيصة ولربما لاقصاء منافس تنقصه الخبرة للصراع حول تلك الغنائم المتناثرة من "الفُتات المتاح". لا لم تكن دواخلي متماسكة إلى تلك الدرجة التي ظننتني عليها قبيل ساعات في أعقاب نوبة البكاء تلك التي داهمتني على احدى درجات البوابة الخلفية لجامعة وينبيك. كما لو أن الانهيار في حاجة دائمة إلى مثل تلك المواقف للظهور أوالاعلان عن هشاشة دواخل المنفيّ الغريب المتداعية كركائز بيت قديم.

    هكذا، ما إن أخذت أفكر في مآل ياسر كوكو مرة أخرى حتى اندفعت في موجة أخرى طويلة من البكاء. وإن لم يبدل كل ذلك في الأخير من أمر قرار اعتزالي له مرة واحدة وإلى الأبد. لست في حاجة أخرى لما يشدني نحو هذه الأرض. بي رغبة عميقة في الطيران والتحليق في سماوات بعيدة. وتلك حكمة زائفة: علاج الذات عن طريق فنائها في خدمة الآخر. هناك، في قلبي، بحيرة كافية من الأسى الراكد. تطفو على سطحها خيبات وجثث كثيرة. لياسر كوكو قلوب عزيزة في مكان ما من الوطن البعيد ولا ريب. بها كذلك متسع لجثته ودمع كاف لرثائه. لقد حضرت أماندا، الآن.
                  

العنوان الكاتب Date
فصل من رواية عبد الحميد البرنس10-03-10, 03:47 PM
  Re: فصل من رواية عبد الحميد البرنس10-06-10, 09:36 AM
    Re: فصل من رواية عبد الحميد البرنس10-06-10, 09:40 AM
      Re: فصل من رواية عبد الحميد البرنس10-06-10, 09:50 AM
        Re: فصل من رواية عبد الحميد البرنس10-06-10, 09:56 AM
          Re: فصل من رواية عبد الحميد البرنس10-06-10, 10:10 AM
            Re: فصل من رواية ابو جهينة10-06-10, 01:00 PM
              Re: فصل من رواية عبد الحميد البرنس10-06-10, 03:14 PM
                Re: فصل من رواية عبد الحميد البرنس10-07-10, 08:21 AM
                  Re: فصل من رواية عبد الحميد البرنس10-08-10, 07:41 AM
                    Re: فصل من رواية عبد الحميد البرنس10-08-10, 01:21 PM
                      Re: فصل من رواية عبد الحميد البرنس10-08-10, 11:55 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de