|
Re: عندما يضحك التاريخ ...كتاب جديد للاستاذ الصحفى حيدر طه ... (Re: الكيك)
|
الجزء الاول من الحلقة الثالثة
الحلقة الثالثة
عاش جعفر سنواته الأولى في ود نوباوي ،الجزء الشمالي من مدينة أم درمان الذي قطنه منذ تأسيس الدولة المهدية أنصار المهدي الذين هاجروا من المدن الشمالية، دناقلة وجعليون وشوايقه وحلفاويون وهي القبائل التي تسكن على طول نهر النيل، ولذلك تعارف سكان أم درمان على تسميتهم بـ " أولاد البحر "، وكان يطلق اسم البحر على النهر دون تمييز الفوارق الجغرافية والطبيعية. أما الجزء الجنوبي فكان يسكنه معظم الذين هاجروا من غرب السودان، فور ومساليت وزغاوة ورزيقات وحمر وبقارة ونوبة جاءوا مع الرايات التي حملها الأنصار لتحرير الخرطوم من الاستعمار التركي البريطاني. فأطلق أهل أم درمان على أبناء الجزء الجنوبي " أولاد الغرب "، وكان التمايز بينهم واضحا في كثير من الأمور في وقت مضى، ثم ذاب في وقت لاحق بقوة الواقع الذي خلط الأنساب والقبائل والبيوت.
ولكن لم يفلح جعفر في الانتقال من المرحلة الابتدائية إلى الوسطى إذ كان ولدا شقيا كما وصف نفسه، محبا للعب هاربا من المذاكرة، والصبر عليها أكثر من دقائق معدودات يصبح على دماغه مثل حجر ثقيل لا يطيق حمله أو احتماله. فباله دائما ما يكون مع الصحاب في الشارع يلهون ويلعبون وكان هو يعشق المشي على يديه في ما يسمى " مشية العقرب " ليسير بها حوالي نصف كيلومتر من طرف الحي إلى منزل جده صالح أرباب، ويظل فخورا بهذه المشية التي تلفت أنظار المارة وسكان الحي ويهزون أيدهم تشجيعا له. كان لدى الأصحاب في سنه وأكبر منه هواية صيد الطيور خاصة طير الغباش في مقابر الشهداء في حي الهجرة، فيضعون " القلوبية" التي تشبه اللغم تحت الأرض ليظهر منها طرف معلقة عليه حبات ذرة تغري الطير للمجيء إلى المصيدة، ويظلون يرقبون العملية لساعات حتى تأتي المصيدة أوكلها. وعندما يملون مطاردة الغباش طيلة النهار يلتفتون إلى ترصد " الكدندار" لربطه بخيط رفيع وإطلاقه في الهواء ليحدث " زنة ورنة " يعشقها الأطفال. وكان من أحب أنواع اللعب إلى قلبه الإغارة على أبناء الحي الآخر في ود نوباوي، والتقاذف معهم بالطين في موسم الخريف والحجارة في موسم الصيف ثم مطاردة " الخونة " لجلدهم والاستهزاء بهم، ثم الاختباء والفر ليلحقه كر من جديد. وكانت تقود مجموعتهم المهاجمة في كل ليلة رحمة مكي وهي فتاة حي "الدومة" سمراء نحيفة القوام ذات صوت شجي اصقلته حتى أصبحت " غناية "، إلا أنها اشتهرت في صباها، وسط صبيان الحي، بأنها ماهرة التصويب بالحجر يندر أن تخطئ هدفها. وبسبب بسطة جسمه الذي لا يتناسب مع عمره الصغير كان جعفر يتصدر " شلة الصبيان " الأكبر منه سنا في حماية بنات الفريق عندما كن يردن الذهاب من مكان إلى أخر خاصة بعد انتهاء حفلات الأعراس. ولهذه المهمة كان يحمل دائما بناء على نصيحة " أخواله " ،وهو الفتي الصغير السن، سكينا معلقة على الذراع وعصا في يده يردع بها الكلاب السعرانة ويزجر بها النابحة من دون أذى، ويخيف بها الأعداء من أبناء الأحياء التي عانت من غارات أولاد حي ود البصير. وحينما يتذكر جعفر تلك الأيام يقول إنه كان يقوم بحماية صبيانا أكبر منه يخشون السير في الظلام ويخافون أبناء الأحياء الأخرى إذا " ربطوا" لهم في الطريق، خاصة في حي الموردة التي يقطعها صبيان ود نوباوي أو أحياء أم درمان الشمالية وهم في طريقهم بالدراجات "البسكليتات" إلى الخرطوم. ومن الصعب أن يتكهن أحد من سكان مدينة ود نوباوي بمستقبل طفل في التاسعة من عمره، بل لم يكن أحد منهم يتخيل أن طفلا في ظروف جعفر من الممكن أن يكون صالحا لشيء في مستقبله إذ اشتهر بين أقرانه من أطفال الحي بالشقاوة والجرأة والمشاكسة التي يرجعها بعض أهالي الحي إلى انطلاقته المبكرة وتحرره من قيد الرقابة الأبوية اللصيقة بعد أن انتقل من مدينة ود مدني إلى ودنوباوي ليكون تحت رعاية الجد والجدة وأبنائهم من الخيلان، كما لم يكن لأحد من أخواله الوقت الكافي أو المزاج الصافي لمتابعة دروسه أو التحكم في تصرفاته الطفولية .
وما أن سمع الوالد برسوب ابنه في امتحان القبول للمدارس الوسطى حتى هب مسرعا إلى أم درمان لاستعادة " الأمانة " التي تركها للجد صالح والخيلان ليرعوها حق رعاية، ولكنهم أهملوا رقابة الأبن حتى كانت الطامة الكبرى التي أثارت في نفس محمد محمد نميري غضبا أعماه عن القرار، الذي اتخذه في لحظة هيجان الغيظ وسطوة اليأس، بإلحاق جعفر بالمنطقة الصناعية ليلتحق بصنعة امتهنها الخيلان قبله، بدلا من ضياع الوقت والمال والجهد في مواصلة التعليم الذي لم يدخل دماغ الابن الناشف، وفي الوقت نفسه يكون القرار مناسبة للهروب والنجاة من هموم المدارس والامتحانات وتعجيلا بإيجاد مصدر رزق إضافي يساعد على تغطية تكاليف علاج مرض الابن الأصغر الذي بدأ يفقد بصره تدريجيا. لم يكن لمحمد محمد نميري أشقاء من والده الذي توفي قبل أن يرى هو النور، وبسبب ذلك تمت تسميته محمد على اسم أبيه تخليدا له وهو الرجل المعروف في أنحاء المنطقة الواقعة بين دنقلا والخندق في الشمالية، وكانت له صولات وجولات مع المسافرين على هذا الخط. فقيل إنه كان "همباتيا" يأخذ من أموال المسافرين الأغنياء ليعطيها الفقراء المقيمين في المنطقة، وقيل أنه كان فارسا مغوارا وقويا لا يصارعه أحد إلا غلبه، وقيل أنه كان قاطع طريق محترف " رباطيا " ينتزع حق " الطريق من جيوب الناس لنفسه. وليس بين الهمبتة وقطع الطريق إلا شعرة.. لا يحسن التفريق بينهما معيار حسن النوايا وطيب المقاصد.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
عندما يضحك التاريخ ...كتاب جديد للاستاذ الصحفى حيدر طه ... | الكيك | 03-07-07, 05:18 AM |
Re: عندما يضحك التاريخ ...كتاب جديد للاستاذ الصحفى حيدر طه ... | Khalid Kodi | 03-07-07, 06:27 AM |
Re: عندما يضحك التاريخ ...كتاب جديد للاستاذ الصحفى حيدر طه ... | الكيك | 03-08-07, 06:59 AM |
Re: عندما يضحك التاريخ ...كتاب جديد للاستاذ الصحفى حيدر طه ... | الكيك | 03-08-07, 11:45 AM |
Re: عندما يضحك التاريخ ...كتاب جديد للاستاذ الصحفى حيدر طه ... | الكيك | 03-11-07, 02:11 PM |
Re: عندما يضحك التاريخ ...كتاب جديد للاستاذ الصحفى حيدر طه ... | الكيك | 03-11-07, 09:06 PM |
Re: عندما يضحك التاريخ ...كتاب جديد للاستاذ الصحفى حيدر طه ... | الكيك | 03-12-07, 01:50 PM |
Re: عندما يضحك التاريخ ...كتاب جديد للاستاذ الصحفى حيدر طه ... | الكيك | 03-13-07, 05:28 AM |
Re: عندما يضحك التاريخ ...كتاب جديد للاستاذ الصحفى حيدر طه ... | الكيك | 03-15-07, 06:22 AM |
Re: عندما يضحك التاريخ ...كتاب جديد للاستاذ الصحفى حيدر طه ... | الكيك | 03-20-07, 04:42 AM |
Re: عندما يضحك التاريخ ...كتاب جديد للاستاذ الصحفى حيدر طه ... | الكيك | 03-21-07, 04:06 AM |
Re: عندما يضحك التاريخ ...كتاب جديد للاستاذ الصحفى حيدر طه ... | الكيك | 03-26-07, 07:32 AM |
Re: عندما يضحك التاريخ ...كتاب جديد للاستاذ الصحفى حيدر طه ... | الكيك | 03-27-07, 09:29 AM |
Re: عندما يضحك التاريخ ...كتاب جديد للاستاذ الصحفى حيدر طه ... | الكيك | 03-29-07, 11:30 AM |
Re: عندما يضحك التاريخ ...كتاب جديد للاستاذ الصحفى حيدر طه ... | حيدر حسن ميرغني | 03-31-07, 05:37 AM |
Re: عندما يضحك التاريخ ...كتاب جديد للاستاذ الصحفى حيدر طه ... | الكيك | 04-01-07, 04:20 AM |
|
|
|