في ذمة الله العلامة الطيب محمد الطيب

Quote: ألا رحم الله العالم العلامة، الحبر الفهامة، الباحث الأديب الأستاذ الطيب محمد الطيب, ,انزله منزل صدق عند مليك مقتدر كان عليه رحمة الله يحمل في مخايله سمت العلماء وصبر الدارسين ورصانة المعلمين، يتصيد المعرفة ويسعى إليها في مظانها أيا كانت الصعوبات التي تكتنف سبيلها، ألزم نفسه بصرامة المنهج فأكسبه ذلك القدرة على التجرد عن الذات والموضوعية فيما يكتب أو يقول، ثم انفلت من رداء المحلية والعصبية الضيق ليتزيا بحلة السودان الفضفاضة، ويحلق في فضاء هذا الوطن المديد، مثل أشعة الشمس تبعث الدفء والضياء إلى ثقافة وطن كان قد تجذر في أعماقه يتساوق فيه تاريخه الناصع بجغرافيته السندسية وينداح في وجدانه ألقا ينسكب سناه في كل كلمة سطرها يراعه أو فاه بها لسانه. لم يكن يرحمه الله يسعى إلى معرفة آنية محددة الغرض وموجهة الهدف ينتهي أثرها أو خطرها بانتهاء الإطار ألزماني لبرنامجه التلفزيوني، أو تتجمد حبرا على صفحات كتاب أو مجلة، بل كانت معارفه تتناسل وتتحرك بين الناس، لأنها كانت تستمد حيويتها من روحه الوثابة ومن وجدانه العامر دوما بالناس، ولأنه كان يمتح من ذاكرة أسطورية تجدد مخزونها الثر فقد كان دائم التجديد ثم ارتحل والناس لم يصدقوا بأنه تسرب من بين أيديهم وهو ما يزال في عنفوان عطائه. وأخيرا وضع الطيب عصا تسياره، وترجل عن جواده، وهو ما يزال مسجى في حياة البرزخ، بدأنا رحلة اكتشافه من جديد، نجتر ما تبقى لدينا من ذلك العطاء الوافر، وحين يعجزنا الأمر سندرك كم هو عزيز ذلك الفقد ، وكم هو مؤلم ذلك الارتحال فليرحمنا الله. لقد أدرك الطيب منذ وقت مبكر أن ما هو مدون في ذاكرة السودانيين أعمق وأكثر بكثير مما هو مدون في بطون الكتب والصحائف، فطفق يترحل من مكان لآخر ومن بلاد إلى بلاد، يبحث عن معلومة، يلتقي بأشخاص، يجمع ما تشتت في ذاكرة الناس وما استقر في وجدانهم يحسونه لكنهم لا يعبرون عنه، ما كان همه التاريخ، فتلك أحداث انقضت لكنه كان يعنى بما اختصه الناس لأنفسهم من تلك الأحداث وأبقوه في ذاكرتهم، واستطيع أن أقول هنا بارتياح أن فقيدنا الغالي قابل جميع السودانيين على امتداد المليون ميل مربع ، لا على سبيل المبالغة، بل هي الحقيقة ، فما من سوداني إلا ويذكر لك أنه قابل الأستاذ الطيب واستمع منه أو أمده بمعلومة عن قبيلته أو حدثه عن عادة من عادات قومه، وليت فقيدنا كان مسهبا في الكتابة، وليته دون كل ما جمعه من معلومات عن هذا التراث السوداني العريق، إذن لرأينا مرجعا تراثيا ضخما وسفرا يحوى مفاخر هذا الشعب المتفرد. في إحدى زياراته إلى مدينة جدة قبل حوالى ثلاث سنوات، أقامت له الجالية السودانية بجدة لقاء في منزل أحد أعضاء الجالية، وقد طلب مني اسطحابه الى موقع اللقاء، وكنت أحمل له كتابا كان طلبه من أحد الأصدقاء، وهو كتاب (الحيدة) للآمام عبد العزيز المكي صاحب الامام الشافعي وجليسه، وفي هذا الكتاب يحكي الامام المكي عن مناظرته للشيخ بشر المريسي، تلك المناظرة الشهير ة التي جرت أمام الخليفة المأمون حول مسألة خلق القرآن الكريم، سألت الاستاذ الطيب عليه رحمة اله عن سر اهتمامه بهذا الكتاب، فقال (شدني اليه اسم المريسي) واعتقد بأنه سوداني من منطقة المريس بشمال السودان) . هكذا كان عليه رحمة الله يوثق لكل عمل له علاقة بالسودان والسودانيين. لم يكن الاستاذ الطيب محمد الطيب متعصبا لرأيه، أو معتدا بما لديه من معلومات، بل كان واثقا مما لديه ذا حجة دامغة، تناقشت معه في ذلك اللقاء حول معلومة كان أوردها في كتابه المسيد عن الشيخ (عيسى ولد كنو) وقد نسبه الاستاذ الطيب الى مدينة (كنو) النيجيرية، واعتمد على ذلك الدكتور عبد الله عبد الماجد في كتابه (الاعلام بالأعلام) وعده من الفلاتة، فذكرت له بأن هنالك خطأ في النسبة الى (كانو) والصحيح ان اسم الشيخ عيسى هو (عيسى ولد كنه) بضم الكاف، وكنه اسم نوبي من (كنه) بكسر الكاف أي الصغير فوعد أن يراجع هذه المادة ويخضعها لمزيد من البحث، وقد عرج الحديث بنا الى برنامجه التلفزيوني والى حلقة من حلقاته عن أحد المساجد القديمة في السودان، عن جامع كلمسيد بالزورات وهي قرية تقع شمالي مدينة دنقلا بحوالي ثلاثين كيلومترا ، وقد ذكر في برنامجه أن هذا المسجد شهد أول صلاة جمعة تقام في السودان حين وصلها جيش عقبة بن نافع الفهرى وقلت له أيضا أن في هذه المنطقة توجد مقابر لبعض الصحابة من أفراد جيش عقبة بن نافع رضى الله عنه فطلب مني أن أوافيه يما لدي من معلومات في هذا الخصوص ثم أخذتني دوامة الحياة، هذه أمثلة فقط من لقاء وحيد تم معه، وهي تدلل على ذلك الأسلوب الراقي الذي كان يتعامل به فقيدنا الراحل عليه رحمة الله تعالى في اللقاء الذي أشرت اليه آنفا، القيت قصيدة فهم من بعض ابياتها كأنها تسيء الى بعض الزعماء السودانيين فانتفض واقفا وحلف أن لا يبقى في مكان يساء فيه الى رموزنا الوطنية، ولم يهدأ روعه الا بعد كل ما في الاستطاعة من اعتذار وبعد أن تعلمنا منه درسا عميقا في الوطنية واحترام الرموز الذين صنعوا مجد وتاريخ هذا الوطن، وتلك صورة واحدة فقط من صور الوطنية والحب الصادق لهذا الوطن العزيز، وكل أملى ونحن ما زلنا نستحضر طلعته البهية أن نحول هذا البوست الى سفر أو مدونة تحوى آثاره ومصنفاته ان أمكن ذلك ، سائلين الله أن يتغمده برحمته وأن يدخله جنته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، وانا لله وانا اليه راجعون فباسم أعضاء القيادة التنفيذية للجاليةالسودانية بجدة وباسم منتدى السودانالثقافي وباسم رابطة ابناء الولاية الشمالية أقدم التعزي الحارة لأسرة الفقيد ولكافة أفراد الشعب السوداني على هذا الفقد الجلل وانا لله وانا اليه راجعون سيف الدين عيسى مختار /جدة

(عدل بواسطة AbuAla on 02-07-2007, 12:20 PM)