القرط النشوان، قصيدة قديمة

البربخ
أخي أبا بكر
البربخ جزء عزيز علي من الدويم. وهو تقريبا في الشمال الشرقي لحي (التخديرة)، وهي أصل الدويم مع (أم تكيلات) التي غمرها النيل.
البربخ شبه جزيرة، تقطع الماء فيها، بين الأشجار. كانت شبه الجزيرة محطا طيبا لقوارب صيد السمك. فالمنطقة غنية جدا بالأسماك، لأنها تشكل بيئة طيبة لتكاثر الأسماك كما أنها منطقة غنية بفضلات الطعام ونبات( الماعونة). ولكنها في الوقت نفسه مجمع لكثير من الدواب السامة والخطرة، ولكن بعد حركة الصيادين فيها، قل خطر الزواحف التي هجرته. ولكنها في بعض الأوقات تكون ملجأ لتمساح زائر أو فرس نهر ضل الطريق.
المكان جميل رائع الجمال، وشبه مهجور، ولذا ظل ملتقى للعشاق، وطالبي الهدوء والاستجمام.
كنت أزوره مرات بالنهار، فلما سمعت الأستاذ التجاني حاج موسى يقول إن مولد معظم قصائده، كان بالبربخ وذكر تحديدا قصيدتي (قصر الشوق) و ( في عز الليل يا هاجر). منيت نفسي أن أكون شاعرا مثله، فطفقت اختلف إلى المكان في أول ساعات الليل. بقيت فيه زمنا لم يفتح الله علي فيه ببيت شعر، إلى أن تصالحت مع المكان، فصار مكاني الأثير في الدويم، و لي فيه حكاوى وقصص حبيبة إلى نفسي.
ومن طريف ما سمعت عن أخينا (محمدين) الترزي المشهور والمشهور بالطرفة، قصته مع البربخ. فقد قال مرة لأصدقائه:
" إنتو قايلين الشعر ده شنو؟ ما جو بس. الليلة أنا أمشي البربخ زي التجاني حاج موسى، أقول قصيدة بالعربية الفصحى، كان التجاني حاج موسى قال بعدها قصيدة، شنبي ده يقوم في البلاط."
وقصد صاحبنا البربخ في الليل، وأصحابه يتبعونه دون أن يشعر بهم.
جلس صاحبنا و تناول عشاءه وشرب البيبسي الذي أعدها خصيصا تقربا لربة الشعر. ثم طفق يقول:
أيها النيل..
وظل يكررها من الساعة الثامنة حتى الساعة التاسعة ، وفي كل مرة يغير صوته علوا وهبوطا. مارس كل فنون الإلقاء و الموسيقى في تنويع مطلع قصيدته التي لم تولد بعد. ولم يفتح الله عليه بشئ بعدها. كان التعب قد بلغ منه مبلغا ، كما أنه معروف بالممل. هب واقفا هذه المرة وصاح بأعلى صوته:
أيها النيلُ .. بالليل ده ماشي وين؟
ثم جمع أغراضه وهو يسب الشعر والشعراء ويقول:
التجاني ذاتو ما عندو راس.. اسع ده محل يقعد فوقو زول نصيح؟
وتعالت الضحكات من بين فروع الأشجار، فخجل صاحبنا وقال:
" حرم كان سمعت واحد فيكم تاني جاب سيرة الشعر دي إلا أقطع أضانو (أذنه) بي مقص الخياطة وأسويه عِبْرَه لي البسوا والما يسوا. ناس ما عندها شغله.
وكما أسلفت فإن حظي كان مثل صاحبي محمدين ولكن بعدها قلت فيه الكثير، وكان له الفضل علي ، فهو مكان هادئ أعانني على التمرن على قول الشعر. فشكرا للبربخ وشكرا لأستاذي التجاني حاج موسى، فله الفضل علي في الشعر وفي تعلمي العزف على آلة العود فهو الذي أهدى إلي مع صديقي عبد القاهر عثمان حمودة آلة عود كان قد أهداه إياها الفنان زيدان إبراهيم و بالشعر والموسيقي يتطور الحس الفني قطعا. وكثير الشكر لأستاذنا المرحوم فاروق سلمان محمود الشاعر الفذ، فقد وافقني على أن الخلوة في صدر النيل تعينني كثيرا على الجيد من القول. وشكرا لأستاذي الطيب عبد الحميد الذي حبب إلي النحو وشكرا للأستاذ عباس أحمد الريح الذي سهل علي علم العروض وتقطيع الشعر وشكرا للمهندس حسين عبد العزيز الذي ظل يدفعني في مسيرتي دفعا ومهد لي الطريق إلى النقد. وشكرا لشقيقتي الدكتورة أم إسلام التي كانت ولا زالت تشجعني وشكرا لزوجي الحبيب أم عمر التي جمعت كثيرا من أعمالي.وأشكر كل من له فضل علي.
ومن قصائد البربخ كانت هذه القصيدة بعنوان (صباح العيد) وكانت في تمام الساعة الخامسة صباحا ، في أول أيام العيد. ولك أهدي قصيدة صباح العيد، وهي تجربة أفادتني كثيرا، وإن علبت عليها الرومانطيقية. وهذه القصائد نماذج، رغم رأيي الشخصي فيها بعد مرور عشرات السنين إلا أنها عزيزة علي، ففيها من صدق العاطفة ما فيها. وذكرت هذه القصيدة بالذات لأن فيها تصريح باسم البربخ.
وإلى القصيدة