الذي يبكي على اللبن المسكوب .. لا يقدر حتى أن يحلب قطة .. و الغوص في بحر المشاكل و الإحباطات القديمة هو كمحاولة تحديد النسل بأثر رجعي و بعد أن يمتليء البيت بالبنين و البنات. الدروس و العبر قد تأتينا من أشخاص لا ينوون إعطاءنا إياها في المقام الأول .. و لكنهم يمارسونها كطبيعة بشرية مكتسبة بالفطرة أو بالممارسة .. أحيانا تكون دروسهم ماثلة أمامنا .. فنجعلها تمر دون أن نبلورها كلاما مكتوبا يستفيد منه البشر . شظف العيش يغذي الروح في كثير من الأحيان بشفافية لا ينالها أولئك الغارقون في النعمة و الرافلون في ترف الحياة .. عبدالجبار إنسكب كل لبنه .. و لكنه صامد كجلمود الصخر .. يمكنه أن يركض خلف جواميس البر ليحلبها .. أخشوشن جلده من ضربات الأيام و نوازلها . فالمطر إنحبس هذا العام بعد أن نثر بذوره و أودعها باطن الأرض. و هو قام ذات صباح فلم يجد قطيع ماشيته .. كانت هناك بقايا حبالها و روثها .. وجد فقط آثار عربة كبيرة .. لم يسمع صوتها ليلا فقد أجهده السهر مع زوجته التي كان فيح الحمى يجعلها تهذي بإسم وحيدها المسافر .. سكينة زوجته ترقد بقدم متورمة بعد أن داست على رأس ثعبان ميت .. يشك المساعد الطبي في الشفخانة القريبة بأنها الغرغرينا .. سيذهب بها باكرا إلى المستشفى رغم أنه غير واثق من أن يجد شيئا يوصله إلى هناك .. فحتى حمارته إقتادوها ضمن القطيع .. أخرج ( عنقريب الحبل ) تحت ظل الراكوبة .. يقطع جوع صباحه بفتات كسرة تغير لونها و طعمها يبتلعها بماء قراح .. حتى نسمة الهواء أبتْ أن تزوره في هذا الخريف البائس .. جلس محاصرا بكل هذا الكم من الهموم .. يهمهم ( لطفك يا رب .. فرجك يا الله ) .. رنا إلى الأفق البعيد .. بنظرة لم تعرف الإنكسار قط يوما .. لأول مرة ينتابه الخوف على إبنه ... أصابه قلق عميق لم يألفه قلبه. ومَضَ برق بعيد .. و كركر رعد ظل يقترب رويدا رويدا .. حتى أتاه هزيمُهُ ليبتعد مجددا .. مخلفا وراءه صدى يجعل قلب عبدالجبار ينبض بأمل بعيد .. إستبشر خيرا .. نادى على زوجته جزلا : ( القبلي شال يا سكينة ) .. ران صمت عميق و طويل .. و لكن هاجسا جعل حواسه متحفزة .. دخل قطيته لاهثا .. وجدها جاحظة العينين تشخص نحو الباب و كأنها كانت تناديه لتودعه .. تمسك في إحدى يديها ( مسبحة ) كانت لا تفارق يد وحيدها .. المسبحة التي أعطاها إياها أبوها في آخر زيارة له .. عندما عاد من دفنها خائضا الطين و الوحل ... كان قد قرر أن يذهب في الغد إلى السوق ليحاول أن يكلم وحيده بالخبر و يحثه على العودة نهائيا .. أحس بخواء روحه و أن ظهره بات مكشوفا .. و هناك تحت الأرض .. كانت البذور تعانق أول الغيث ... لتعيد لعبدالجبار بعضا من المسكوب .. و عبدالجبار سارح في سيرة زوجته التي ترقد في غور لا يبعد كثيرا عن بذوره التي نسيها تماما .. و إستسلم لنوم تتخلله الكوابيس .. و لأول مرة في حياته منذ أن تزوج سكينة .. لم يطفيء فتيل ( لمبة الجاز ) حتى الصباح ..
(عدل بواسطة ابو جهينة on 04-16-2005, 02:04 PM) (عدل بواسطة ابو جهينة on 04-17-2005, 06:33 AM)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة