|
Re: محمد النعمان .. يسوع الطير (Re: ابو جهينة)
|
عزيزي أبو جهينة ، سلام.
لولا انقطاعي عن "النت" تماماً خلال الأيام السابقة بسبب مشاغل أخرى ، لما تأخرت دقيقة واحدة في التعليق على هذا البوست الذي أقدره حق قدره ولما تأخرت عن شكرك – بامتنان عميق – على هذه الإضاءة التي تفضلت بها والتي كشفت بالفعل ملمحاً مركزياً في نصي المنشور (طاء الطير – راءات البحر.) كما لاحظت أنت بحق ، فإن الطير هو "التيمة" الأساسية التي عمد النص إلى عوالمها واشتقاقاتها لكي يؤسس عالمه من جهة ولكي يقول – عبره – ما أراد أن يقول ، من جهة أخرى. هذا يعني أن "الطير" ، كموضوع للرؤية ، كان اختياراً واعياً من طرف الكاتب لما فيه من ثراء الدلالات التي وافقت ما يطمح النص إلى ايصاله. وبذلك يتجاوز هذا الإختيار مجرد "التعاطي" مع "الطير" من موقع العشق له. إن النص (واسمه يشي به) استنهض أقواله كلها من خلال "اللعب" المبدع على سحر هذا الكائن "الطائر" وثراء عالمه وأفعاله و"ايحاءاته" أيضاً على كائن مثلي ومثلك "لا يطير" ولكنه ، وبسبب الوعي ، يتشوف ويستشرف و"يهاتي" بالبعيد.
هناك إشارتان أرى في ذكرهما ما قد يعين على سبر أغوار هذا النص.
الإشارة الأولى "طاء" الطير هي أول كينونته (تلك المتحولة ، بمشيئة الريش ، من حال إلى آخر.) "راء" البحر هي نهاية امتداده في اللغة. ولكن لأن النص لم ير للبحر ثمة من نهاية واحدة أو خاتمة مطلقة فقد اجترح وتبنى تعميد "راءات" كثيرة ليرى وينطلق نحوها. ليس هناك راء واحدة تختم البحر (المشحون بالدلالات الرمزية) حتى وأن لم ينطوِ لفظ البحر إلا على "راء" مفردة. هذا يعني: إن كانت البداية واحدة وهي تكمن عموماً في معاني الإقلاع والتحليق والإنطلاق .. إلى آخره ، فإن النهايات ليست في الحقيقة واحدة.
من "طاء" الطير و"راء" البحر تتشكل ظلال أخرى للمعنى أيضاً ، يبزغ فعل الأمر "طِـرْ" إنه يستنهضنا لنمارس ما لا نفعله عادةً ونحن قمينين بفعله. طِـر .. إلا إننا حين نقف هكذا على أمشاطنا ونخبر الريش وكأننا نهمس لأرواحنا: افعل بنا يا ريشُ ما شئت فإن الآفاق يجب أن تظل مفتوحة على خيارات كثيرة. يجب ألا نعرف سلفاً أين سنحط. فالنهايات لا ينبغي أن تكون مخترقة تماماً بالبدايات ، وإن البعيد الذي ندرك كامل كنهه مسبقاً هو بعيد لا يستحق عناء السفر. إنها مغامرة الحب الفذة في جنونها الخلاق وطيشها الواعي.
تبقى أيضاً إشارة ثانية "الطير" في القسم الثالث والأخير من النص يجترح دلالة أخرى للفظه ويدعو إلى تأملها. دعنا نعتمد على مفهوم "العتبات النصية" كما درجت على استخدامه وترويجه باقتدار الصديقة الناقدة "الجندرية" حتى يتسنى لنا هنا أن نقول أن العناوين تقود ، بوظيفتها ، القراءة إلى دلالات ما يتعنون بها. عنوان القسم الثالث هو: على درجٍ أزرقٍ نحو حاسةٍ ، قال الحبُّ ، قالَ لي: أما المقطع الافتتاحي لهذا القسم فيأتي على النحو التالي:
طائرٌ مشى على دمي ثمـلاً استنصطني على سهرٍ ، قالَ لي:
يتطابق "الحب" و"الطير" إذن في هذا القسم من النص. يصير هذا القسم بكامله إذن "كلام طير" إنه تغاريد الحب وشقشقته لو حدّث الحبُّ أحداً. ولذلك تكثفت الغنائية فيه مقارنةً بما سبق من أقسام النص. إن ضمير المتكلم المفرد في غالب هذا القسم يعود تحديداً إلى الحب / الطائر المتكلم وليس إلى الشاعر كما قد يوحي به عنوان بوستك.
هاتان إشارتان لم أرد عبرهما أن أتعدى حدود موقعي كمبدع نص ، فأتغول بذلك على موقع الناقد القارئ. وقد رأيت في ذكر مثل هذه الإشارات ما من شأنه أن يوسع أبعاد القراءات الممكنة ودون أن يصادر ، بالطبع ، حقها في الإختلاف.
وشكراً لك يا عزيزي على احتفاء بالنص أسعدني جداً ، وعلى إضاءة ذكية انصتت بالفعل لنصٍّ يبدو – في وهلته الأولى – شاقاً وشائكاً ولكنه ، من بعد ، قادر على أن يكون موضوعاً للقراءة حين ننفتح على الشعر فيه ، ونغادر بذلك ، ولو لوهلةٍ واحدة ، مواقعنا الراسخة في عالم يبدو وكأنه يتحوّل ويتغير دائماً في البيت المجاور وحده.
ولك خالص الود والإحترام.
نعمان
|
|
|
|
|
|
|
|
|