|
بيوت من طين لا تجرفها السيول
|
فتيل الشمعة يتمايل راقصا بفعل نسمة مرت متباطئة و كأنها تعرف أن الجسد المسجى على ( العنقريب ) يحتاج إلى هواء ينعشه. الأم تعدل من جلستها بين الفينة و الأخرى على الأرض مفترشة ( برشا ) مهترءا و في يدها ( هبابة ) تصطاد بها هواءا معدوما في الغرفة الطينية ذات النوافذ الضيقة. يدها الأخرى تمررها على جبين الصبي ، فيلسعها فيح الحمى. يقطع نياط قلبها أنين فلذتها الذي يأتيها في حشرجة متقطعة . الجسد واه و البطن خاوية. أواه أيها الحبيب ، فديتك روحي ، ما بيدي حيلة. بالكاد سيأكل وجبته الثانية ( فول حاف ) دون زيت أو جبن. روشتة الدواء لم تستطع أن تأتي بها كاملة ، إكتفت بدواء واحد ( على قدر قريشاتها ). باعت آخر ( غويشة ) و ذهبت بثمنها للطبيب و عادت بدواء واحد. ماذا لو إستمر يرتعش هكذا ؟ من سيقرضها ؟ إقترضتْ من كل الجيران. ماذا سيأكل غدا ؟ و عشرات الأسئلة تطن في أذنها ، تتجاهلها و تعصر قطعة القماش المبللة على جبين الصبي. نزلت دمعة حارة تبلل خدها المتقرح. كيف كان سيكون الحال لو لم يكن هذا البيت المتهالك ملكا لزوجها؟ أين أنت يا ترى ؟ هل أنت حى نرجو عودتك و نحتفظ بباقي كرامتنا التي تمنعنا من سؤال الناس ، أم ميت أنت فنبكيك و نعلن تسولنا و تطفلنا على موائد اللئام ؟ ثلاثة سنوات منذ أخذت نصف ما أملك من ذهب و سافرت للعمرة و لم تعد. كل الذين من حولها ، لا يملكون سوى مواساتها بكلمات الشفقة و زيارتها من حين لآخر. الأنين يتصاعد من صدر الصبي . البنت ترقد على الأرض بجانبها ، متكومة تتلاعب بضفيرتها المتسخة. بكت طويلا لأن حذاءها المقطوع لن تستطيع أن تنتعله في المدرسة بعد اليوم. كان إفطارها اليوم بقايا فول سوداني نخر السوس معظمه. الزير القابع وسط الصالة يموسق لحنا بنقاط الماء على ( الجردل الصديء ) ، ترن في أذن الأم كسقوط الماء من السبلوقة الوحيدة الصامدة في جدار منزلها المتآكل. الكلب الهزيل يثاءب بعد أن تعب من إنتظارما يسد رمقه . يحشر ذيله بين فخذيه في كسل و تراخ. يتململ الصبي ، فتحادثه ، لكنه كان يهذي. إلتقطت منه بضع كلمات ( أبوى ما تتأخر ، ما تنسى العجلة و شنط المدرسة و علب الألوان ). خنقتها عبرة ، فدفنت رأسها في طرف ثوبها المهتريْ ، المعبق برائحة دخان المطبخ ، فأهتز جسدها و ( عنقريب ) الصبي . إزداد الصبي هذيانا. إرتعش و إنتفض ، ثم تشنج. هبتْ صارخة تضمه إلى صدرها ، تقيأ عليها. أفاقت البنت على ولولة الأم ، فتشبثتْ بأطراف ثوب أمها خائفة مذعورة. مالو يا يمة ؟ أكان مات أنا بزعل منك. جفل الكلب و هرول خارجا للحوش. حملته بين يديها و انطلقتْ تدق على أبواب جيرانها. لم تخف من ظلام الليل الحالك ، فتنقلت بين كل الأبواب تطرقها. و الصبي يتشنج ، ثم تقوس فإبتعدت رأسه و قدماه عن حضن أمه . كلاب الحى تنبح و هي لا تسمع غير نبضات قلبها و أنين فلذتها. تجمع الرهط من الحى ، و لكن بلا حول و لا قوة. تبادلوا حمله من يد لأخرى ، و الأم تلطم و تئن. ثم هدأ الولد ، خالته قد فارق الحياة . العرق البارد يتصبب من على جبينه الصغير فينزل منحدرا على وجنتيه الباهتتين. حملته راجعة لبيتها. عادت به لتسهر معه و مع مرضه. ذهبت باكرة لدكان بابكر . حدجها بنظرة فهمتْ مغزاها. ربنا يخليك يا خوي. الولد أمبارح كان داير يروح مني. أدينا سلفة تاني ، و ربنا كريم ، الولد لازم أوديهو الدكتور حسع. قال لها و هو يخبط طاولة دكانه : أنا فاتح الدكان دة سبيل ؟ ديونك بقت أكتر من تمن بيتكم. ظلت تتوسل و هو يسد أمامها كل أبواب الأمل. جاءت إبنتها مهرولة : يمة أروح المدرسة حفيانة و لا أروح بي سفنجتك؟ تجاهلتْ الأم سؤالها. رجعت خائبة. نظرات الإبن الزائغة تدعوها لمعاودة الكرة مع بابكر ( سيد الدكان ). إستوقفت أستاذ المدرسة تسأله : ممكن أبيع البيت بدون وجود زوجي ؟ طبعا ما ممكن. طيب ممكن أرهن البيت ؟ برضو صعبة يا أختي. فماذا ترهن و ماذا تبيع ؟ الموت أهون يا زينب يا بت الرجال. ( إن شاء الله يجي يومي قبال أفكر في جنس دا ). مسحتْ دمعة قهر بطرف ثوبها ، و رفعتْ رأسها بشموخ مهرولة لصغيرها. الحمى تدب من جديد. عيون الصبي تغور في المحجرين. ينظر إليها في توسل و رجاء . تزيدهانظراته وجعا على وجع. يناديها بصوت خافت. يمسك بيدها بقوة لا تدري من أين أتى بها. وجدتْ ( سيد الدكان ) على عتبة الباب يقف دون أن يستأذن. تنظر إليه و رأسها مليء بعشرات الأسئلة. إزداد ضغط يد إبنها على يدها. ينظر الرجل إليها نظرة أخافتها ، و لكنها رمقته متحفزة ، فوقف مترددا . إنزلقتْ يد الصبي. إرتسمتْ على محياه بسمة هادئة. لمستْ جبينه فكان باردا كالثلج ، رفعته بين يديها ، خمدتْ أنفاسه. إنتهت عذاباته . لم تعد أمه تحتاج للتوسل ( لسيد الدكان ) الواقف كالذئب عند عتبة دارها ينتظر أن تتوسل إليه لكى ( ينهش لحما ). ضمته إليها ، دونما صرخة أو عويل. لثمتْ خده و أبقتْ شفتيها على خده و كأنها تنفث فيه الروح. إبتلعت حزنها و الجسد البارد يغوص بين حناياها و البنت تتشبث بعنق الأم : يمة ، أنا زعلانة منك شديد.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
بيوت من طين لا تجرفها السيول | ابو جهينة | 12-30-03, 03:29 PM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | خالد عويس | 12-30-03, 04:27 PM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | سجيمان | 12-30-03, 04:54 PM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | ابو جهينة | 12-31-03, 08:50 AM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | Osman Hamad | 12-30-03, 05:16 PM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | ابو جهينة | 12-31-03, 08:51 AM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | ابو جهينة | 12-31-03, 08:52 AM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | ودقاسم | 12-31-03, 10:41 AM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | hamid hajer | 12-31-03, 11:38 AM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | ابو جهينة | 12-31-03, 11:53 AM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | ابو جهينة | 12-31-03, 12:01 PM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | Omer54 | 12-31-03, 03:02 PM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | ابو جهينة | 12-31-03, 03:11 PM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | haneena | 01-05-04, 03:51 PM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | ابو جهينة | 01-05-04, 03:59 PM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | Nada Amin | 01-06-04, 05:37 PM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | معتصم دفع الله | 01-06-04, 11:33 PM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | ابو جهينة | 01-07-04, 09:02 AM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | ابو جهينة | 01-07-04, 09:05 AM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | شتات | 01-07-04, 01:27 PM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | shiry | 01-07-04, 01:53 PM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | ابو جهينة | 01-07-04, 02:22 PM |
Re: بيوت من طين لا تجرفها السيول | ابو جهينة | 01-07-04, 02:26 PM |
|
|
|