بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 01:51 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة محمد علي الفاضلابي(mohammed alfadla&fadlabi)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-27-2003, 07:37 PM

mohammed alfadla
<amohammed alfadla
تاريخ التسجيل: 10-06-2003
مجموع المشاركات: 1589

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر (Re: mohammed alfadla)

    (.. بعد ثلاث عشرة سنة)
    ( 1 )

    قلت: "ينبغي التأسيس لمرحلة جديدة: نقد الحداثة "(بيان الحداثة" 1979) في فاتحة لنهايات القرن، دار العودة، بيروت 1980)، وهو قول يبدو الآن أكثر صحة وضرورة منه في أي وقت مضى، خصوصا أن مفهوم الحداثة يزداد التباسا، وأن الكلام عليها يكاد أن يصبح لغوا. و ها هي الكتابة التي تقوم على "قصيدة النثر" تكاد أن تسقط في الآلية والاتباعية كما كان الشأن في القصيدة الوزنية التقليدية. والحق أن النظر إلى ظاهرة الخروج على الوزن والقافية كما لو أنها تنطوي بحد ذاتها على الحداثة هو في أساس ذلك الالتباس وهذا اللغو.
    هكذا أصبح من الضروري، في الكلام على مسألة الحداثة في الكتابة العربية، أن نؤكد على ثلاثة مبادئ: الأول، هو أننا قبل أن نصف شاعرا أو كاتبا بأنه حديث، يجب أن نتأكد من أنه ليس أي منتج بالكلام الذي يتشبه بالشعر أو بالأدب، وإنما يجب أن يكون كاتبا أو شاعرا،حقا: أعني أنه يمتهن الكتابة الأدبية- الفنية، ويعبر عن نفسه وعن علاقته بالآخرين والعالم، بلغة أدبية- فنية، وبطريقة خاصة تميزه.
    الثاني، أن نعرف هذا الذي يطلق عليه اسم القديم معرفة عميقة ومحيطة. وأن ندرك أن صفة القدامة لا تعني بالضرورة التناقض مع ما يطلق عليه اسم الحديث.
    الثالث، وهو تتمة للثاني، أن ندرك أن صفة الحداثة ليست حكما بأفضلية الحديث على القديم، وإنما هي مجرد وصف، وأن هذا الوصف قد يقع على نص يكون في الوقت ذاته نصا عاديا أو رديئا. الحداثة بتعبير آخر، سمة فرق لا سمة قيمة.
    قد تبدو هذه المبادئ الثلاثة بدهية، في النظر. غير أنها ليست كذلك في الواقع وفي الممارسة. فثمة، من ناحية، استقطاب في حياتنا الأدبية بين الحديث والقديم، بحيث أن الأول أيا كان يشير غالبا عند بعضهم إلى التقدم. وأن الثاني، أيا كان يشير إلى التخلف، فيما يعنيان عند بعض آخر شيئا آخر مناقضا. وهناك من ناحية ثانية، تضخم في النتاج الكتابي: كل يدعي الكتابة الأدبية الفنية، وكل يدعي النقد والتقويم. والنتيجة هي فوضى وتخبط في الإنتاج الكلامي يؤديان إلى أن تتساوى النصوص كلها، وإلى أن يغيب التمييز بين الجيد والرديء. وبين المتفرد والمبتذل.
    وتعكس كلتا الناحيتين فقر النظرة، وضحالة الثقافة، وما هو أخطر من ذلك الجهل بالنفس، وبحقائق الأشياء.

    ( 2 )

    لا أظن أن أحدا يمكن أن يقول أن رينه شار، مثلا، أو سان- جون بيرس، أو ميشو، أو جوف، أو بونج، أو بريتون، أو بونفوا، أو دوبوشيه أكثر حداثة من هيراقليطس أو نيتشه أو هولدرلين أو غوته أو رامبو أو بودلير أو مالارميه أو لوتريامون إلا بالمعنى الزمني.
    هذا الذي أقوله في ما يتعلق بالكتابة الشعرية الفرنسية (وأقوله قصديا، لأن هذه الكتابة هي مرجعيتنا الحداثية الأولى) ينطبق تماما على الكتابة الشعرية العربية. فليس أبو نواس أو أبو تمام أو المتنبي أو المعري أو النفري أكثر حداثة من جلقامش أو امرئ القيس، إلا بالمعنى الزمني. وليس السياب أو حاوي أو الخال أو عبد الصبور (لكي لا أسمّي إلا الذين فقدناهم) أكثر حداثة ممن أشرنا إليهم، إلا بالمعنى الزمني.
    هذا مما يوضح، فيما يتعلق بي شخصيا، أنني حين أصف نصا بأنه حديث لا أضمر تفضيله بشكل مطلق على النصوص التي تقدمته في الزمان، بل أضمر، بالأحرى، شيئا آخر يتجاوز الإطار الزمني للنص إلى إطار آخر يتصل بالرؤية التي يصدر عنها، ببنيته، وبأبعاده.
    ما هذه الرؤية؟ ما تلك البنية؟ وما تلك الأبعاد؟ تلك هي المسألة.
    وهي، ويا للمفارقة، المسألة الوحيدة التي ينساها معظم الذين يتكلمون على الحداثة في الكتابة العربية.
    استطرادا، وإمعانا في التوضيح والتحديد، أحب أن أشير، بدئيا إلى أنني عندما أتكلم على الحداثة في المجتمع العربي، لا أشير إلى علم، أو تقنية، أو فلسفة.. وإنما أقصد، حصرا، الفنون والآداب. وفي هذا ما يشير، بدوره إلى المفارقات والتصدعات في المجتمع العربي، وغلى أن البحث فيها ضروري ملح، وإلى أنها تطرح أسئلة كثيرة يولدها هذا السؤال: كيف تنشأ حداثة أدبية في مجتمع يقوم، في بناه الأساسية، على التقليد، في مختلف الميادين الأخرى غير الأدبية؟
    أحب كذلك أن أشير إلى أننا أخطأنا، منذ البداية، في فهم حداثة الغرب. لم ننظر إليها في ارتباطها العضوي بالحضارة الغربية، بأسسها العقلانية خصوصا، وإنما نظرنا إليها بوصفها أبنية وتشكيلات لغوية. رأينا تجليات الحداثة في ميدان الفنون والآداب، دون أن نرى الأسس النظرية والمبادئ العقلية الكامنة وراءها. ومن هنا غابت عنا دلالتها العميقة في الكتابة وفي الحياة على السواء.


    ( 3 )

    الحداثة في إطار الموروث العربي- الإسلامي، تحديدا، وبالقياس إلى الماضي، وبوصفها إبداعية، إنما هي حركة، ودلالتها الغالبة إذن كامنة في التغيير والفروقات، لذلك لا يمكن أن تكون نظرية محددة، أو قواعد وقوانين محددة. إنها كمثل أفق يهيمن بأضوائه وبأبعاده، على فضاء الحاضر دون أن يمحو فضاء الماضي. فمع أنها قطيعة معه بالضرورة فهي استمرار له، بالضرورة. ذلك أن كل ابتكار لجمال جديد في اللغة، لا يمكن إلا أن يستند إلى قديمها الجمالي. فاللغة كيان ولا نقدر أن نجدده إلا من داخله، من داخل عبقريته، وجماليته، وخصوصيته. إن كنت حديثا حقا، فأنت تحيا داخل هذا الكيان- لا إلى جواره، أو خارجه، أو على هامشه، - أي أنك تحيا في بهاء القديم وفي طاقاته الفنية التي لا تستنفد. وكل كلام على الحداثة ينبغي أن يتم في إطار هذه الإحاطة وهذه الكلية وهذه الرؤيا الشاملة.
    نقول، بتنويع آخر، إن المحدث في دلالته العربية الأصلية هو "ما لم يكن معروفا في كتاب، ولا سنة، ولا إجماع" هذه الكلمة هي أصلا، دينية، ثم أصبحت وصفا يطلق على الشعر الذي يخالف الشعر القديم، الشعر المعروف، والذي ينعقد عليه الإجماع، هذا الشعر "المخالف" هو ما سمي "المحدث" و "المولد". هكذا يمكن أن نقول أن الحداثة سمة للأقوال والأشياء غير المعروفة من قبل. وبهذا المعنى، لكل عصر حداثته.
    وفي هذا ما يوضح عدم إمكان تحديد الحداثة الشعرية بوصفها خصائص محددة، ثابتة، كما أكدت، سابقا، ويوضح أنها، بالأحرى، حركة تاريخية وأنها بوصفها كذلك لا تنفصل عما قبلها وعما بعدها، وأنها نوع من الانقطاع- التواصل.
    ولئن كانت الحداثة لا تحدد، فمن الممكن القول إنها كانت دائما حاضرة في تاريخ الإنسان- ممارسة، أو إشارة ودلالة.

    ( 4 )

    في هذا الأفق، يبدو الكلام على قطيعة جذرية وشاملة مع التراث أو الماضي، كلاما لا ينهض على أي أساس شعري أو معرفي.
    صحيح أنني شخصيا تحدثت عن القطيعة والرفض- لكن في سياق آخر يختلف كليا، وعلى مستوى آخر مغاير كليا. كنت اقصد في حديثي هذا أن أقول أن الشاعر العربي مهما كان عظيما، لا يجسد في نتاجه اللغة العربية- فهي أوسع منه، وأن أقول. تبعا لذلك، إن على الشاعر الجديد أن يرتبط باللغة الأم، لا بنتاجها. ولئن كان يولد من الرحم الواحدة أبناء يتناقضون في كل شيء. فبالأحرى أن يكون في اللغة أبناء لها يتناقضون كتابيا، في كل شيء. فهذا التناقض دليل غني- وهو لا يعني القطيعة أو الرفض في أية حال. فهذان لا يتمان إلا في حال واحدة: أن نرفض الأم ذاتها، أي أن نرفض اللغة التي نكتب بها.
    دون هذا الوعي، دون هذه الإحاطة النظرية سوف تتعثر الحداثة الفنية- الأدبية في اللغة العربية، وهذا مما بدأت ملامحه بالظهور. وهذا مما يفرض على الشعراء الشبان، وبينهم مواهب شعرية كبيرة، أن يتعمقوا في فهم الحداثة ومشكلاتها، فيما وراء التشكيلات، وفيما وراء النثر والوزن.
    إن عليهم أن يدركوا أن الذين أسسوا الحداثة الغربية، كمثل رامبو وبودلير ومالارميه، كانوا كلاسيكيين- أعني أنهم لم يخلقوا الحديث إلا بفضل ارتباطهم العضوي العميق بالقديم.
    وقد يقول بعضهم اتهاما: الشعراء العرب الحديثون ينقلون أشكال الشعراء في الغرب. هذا كلام باطل. الذين يعرفون اللغة الشعرية، يعرفون أن الشكل لا يؤخذ، لسبب بسيط هو أنه لا يوجد في ذاته- معزولا، كشكل لوعاء ما، أو كشكل لآلة ما. الشكل للقصيدة كمثل الجسم للإنسان: لا يستعار. فالشكل هو دائما شكل جسد معين، قصيدة معينة، ثم إن تشكيل اللغة العربية يختلف، لاختلاف مادته- الموسيقية خصوصا، عن التشكيل في اللغات الأخرى. لذلك لا تمكن استعارة أو نقل شكل قصية أجنبية لقصيدة عربية إلا في حالة واحدة: حين تكون هذه الأخيرة مصنوعة كما تصنع آلة جامدة.
    اللغة كما قلت كيان- لا يقبل زراعة أعضاء غريبة عنه، لا يقبل إلا ما ينبثق منه.
    لا يقبل ما يكون لصقا.
    ولئن كان الإبداع فيما وراء القدامة والحداثة فلا يمكن أن تكون قطيعة بين الحداثة والقدامة، عمقيا، وإنما يكون بينهما فرق، يتجلى هذا الفرق من ناحية في استخدام عناصر قديمة استخداما حديثا، ومن ناحية في المناخ المرتبط بالعصر- سياسة، وثقافة، وقضايا، ومن ناحية أخرى، في الرؤية والرؤيا على السواء. ومن هنا لا نرى في إطلاق اسم الشعر على بعض النصوص المكتوبة بغير الوزن، قطيعة مع اللغة العربية- بل مع البحور الخليلية. أضيف أن هذه التسمية تستأنس بالإشارات التي وردت عند العرب القدامى حول إمكان تسمية النثر، في بعض الحالات، شعرا. والإشارة الأكثر دلالة، في هذا الصدد هي وصف العرب النص القرآن بأنه شعر- مع أنه غير موزون وغير مقفى.

    ( 5 )

    قلت الحداثة "فرق" لكن "مضمون" هذا الفرق يعمق ويتسع ويتعقد بحيث يكاد أن يحجب "التاريخ" أو "الماضي"، من حيث أن "الحاضر" هو الميدان الذي يتأصل فيه هذا الفرق. ربما كان هذا الحجب في أساس ما يدفع بعضهم إلى الكلام على "الرفض و"الانقطاع" ذلك أن هؤلاء لا يدركون سر الإبداعية وسر حركيتها، فهم أسرى المظهر الخارجي الذي يخضع للرؤية المباشرة التي توجهها الأهداف والمصالح المباشرة السياسية والثقافية والاجتماعية.
    ويتجلى هذا الحجب في الإبداع وفي النقد على السواء. من ناحية أولى هناك حضور لنصوص شعرية تحجب النصوص القديمة، من حيث أنها تشكيلات بنائية تتسمى باسم مقصور على تشكيلات بنائية مختلفة راسخة في الذاكرة والتذوق والرؤية، ويبدو هذا الحضور كأنه يطرد حضور النصوص القديمة، من مجال الذاكرة والتذوق، مزلزلا بذلك القيم والمفهومات الراسخة.
    ومن ناحية ثانية- وهذه أكثر وضوحا ومباشرة، يتجلى الحجب في المظاهر التالية:
    أ- النقد المتواصل لمفهوم الشعر التقليدي الموروث. ويتم نقده بإحاطة معرفية ومعايير غير مألوفة في النقد الموروث.
    ب- يقدم بعض النقاد مفهوما آخر للشعر، وتصورا آخر لدوره، مما يخلص الشعر من "موضوعاته" التقليدية المرتبطة بالحياة السياسية الاجتماعية القديمة- وخاصة تلك المرتبطة بالمدح والهجاء والفخر والرثاء. فهذه موضوعات كانت تمليها أوضاع وعلاقات وكان الشعر أداة لها. هكذا يرد الشعر إلى عناصر الأولية: الكلمة، الموسيقى، الصورة، - لكي يواجه، بدءا من ذلك، العالم الحديث ومشكلاته، ببناء "حديث" يعبر عن "القضايا الحديثة" وهذا مما يبدو كأنه قضاء على "الدور" الذي عرفه الشعر سابقا، وهو دور راسخ في الذاكرة الجماعية. والقضاء على هذا "الدور" يبدو بالنسبة إلى هذه الذاكرة، كأنه قضاء على الشعر نفسه.
    ج- يبطل الجدال شيئا فشيئا حول "اللفظ" (الشكل) و "المعنى" (المضمون) لأن الفصل القديم بينهما، فقد اليوم معناه هكذا ينظر اليوم إلى القصيدة بوصفها بنية واحدة لا تتجزأ، ولا تجد مسوغها في معيارية سابقة عليها، كما كان الشأن قديما، وإنما تجده في بنيتها ذاتها. ومن هنا يصبح الشعر بلا حدود، وتؤدي القصيدة إلى نشوء تحديد آخر للقصيدة، يغاير التحديد القديم. وهذا كله مما يوحي للذاكرة الجماعية بأن الحداثة "رفض" للقديم و "انقطاع" عنه.
    د-يكشف النقد عن عالم في الإنسان كان، في القديم مجهولا أو، منسيا، أو مكبوتا، هو عالم اللاشعور. وهو يضع هذا العالم في مستوى واحد مع عالم الشعور، ويرى إلى الإنسان بوصفه كلا لا يتجزأ.وتحرير الشعور أو الوعي وحده غير كاف فلا بد من تحرير اللاشعور أو اللاوعي.
    وهذا أيضا مما يوحي للذاكرة الجماعية بـ "الرفض" و "الانقطاع" ويمكن أن نسمي تجليات الحجب أو مظاهرة هذه بأنها أوهام الرفض أو الانقطاع عن التراث،وعند التقليديين، شأن الأوهام التي توحي بالحداثة عند الحداثيين، والتي تحدثت في دراسة سابقة منشورة.

    ( 6 )

    نلاحظ مع ذلك أن القضية الأساسية في الحداثة لم تعد تكمن في كتابة الشعر وزنا أو نثرا، وإنما أصبحت تكمن في الأفق الكشفي- المعرفي الذي تؤسس له هذه الكتابة، داخل التاريخ العربي، من جهة، وخارجه- في تاريخ الإنسان المعاصر، من جهة ثانية.
    إن مشكلية الحداثة الشعرية في اللغة العربية جزء جوهري من مشكلية المعرفة- بوصفها علاقة بين الإنسان والمجهول، ومن مشكلية العلم بوصفه علاقة بين الإنسان والطبيعة، ومن مشكلية التقنية بوصفها عملا وتطبيقا. وهي إلى ذلك وبفعل ذلك لا تنفصل عن مشكلية أعم ترتبط بوجود العرب ومصيرهم الحضاريين على السواء.
    وفي هذا الأفق نرى أن معظم الكتابات السائدة عن الحداثة، ليس إلا تغييبا للمشكلات الحقيقية التي تطرحها تجربة الحداثة.

    ( 7 )

    ليست الحداثة الشعرية من هذا المنظور مجرد بنى وتشكيلات كلامية، فهي تفترض بدئيا، معرفة الشاعر العربي نفسه بوصفه ذاتا، وبوصف هذه الذات لغة، ويوصف هذه اللغة أداة كشف، وإفصاح، وإيصال. هذه الإحاطة المعرفية بالذات، والتي هي الشرط الأول والبدهي لكتابة الحداثة تعبيرا عن الذات، إنما هي في الوقت نفس، الشرط الأول البدهي للعلاقة الخلاقة مع الآخر.
    غير أن هذه المعرفة في المجتمع العربي ليست سهلة، بل أذهب إلى القول إنها، على العكس، شبه متعذرة، في أوضاعه القائمة. والممارسة هنا، إما أنها نوع من المناجاة لا تتعدى الذات، وإما أنها نوع من المداورة. ولا تتحرر الذات حقا إلا إذا مارست المعرفة، كشفا وإفصاحا، بحرية كاملة. ولا تكتب الذات حقيقتها إلا في مثل هذه المعرفة الحرة، وهذه الحرية المعرفية.

    ( 8 )

    نستخدم جميعا في كلامنا على الشعر، اليوم عبارة الشعر العربي الحديث، والحداثة الشعرية العربية بيقين الواضع يده على الحقيقة، وباطمئنان، فمن أين يجيء هذا اليقين وهذا الاطمئنان؟ إن قيل لنا مثلا: إن "كلمتي "حديث" و "حداثة" استعارة من الآخر الأجنبي شأن كلمات وأشياء أخرى كثيرة، إن قيل إنهما عبارتان ألصقناهما على نتاجنا الشعري اليوم، بعد أن حملناهما الدلالات نفسها التي تحملهما عن ذلك الآخر الأجنبي، وأخذنا ننتقد ونقوم نتاجنا في ضوئهما، إن قيل لنا ذلك، فما يكون ردنا؟ واستطرادا، هل يكون شأننا مع هاتين العبارتين، كما هو شأننا، مع عبارات أخرى نعرفها جيدا، كمثل الثورة والديموقراطية، والحرية والإشتراكية، وغيرها؟ نكتب عنها الكتب، ونقيم لها الندوات، والمهرجانات، وباسمها ندين، ونبرئ، نحكم ونحاكم، وليس لها مع ذلك وجود حي في المجتمع، ولا تمارس على أي مستوى. إنها موجودة على الورق وبين الشفاه، لا غير. كيف إذن نغامر في الكلام على قضية لم تبدأ بأن نطرح حولها السؤال المعرفي الضروري: هل ما يسمى بالحداثة في الشعر العربي حداثة حقا، وهل هذا الشعر الذي يوصف بالحديث حديث حقا؟ كيف نصف شعرا بأنه حديث إذا كان لا يسير في الأفق المشكلي التساؤلي الذي تفتحه كلمة "حديث" أو "حداثة" بمفهومها المعروف، سواء على صعيد الكينونة وجودا وعدما، أو على صعيد العلاقة بين الكلمة والشيء، أو على صعيد السلطة ورموزها في مختلف أنواعها،ومستوياتها وبخاصة غير السياسية، أو على صعيد البنية التعبيرية، أو على صعيد القارة شبه العذراء في الكتاب العربية، أو على صعيد البنية التعبيرية، أو على صعيد القارة شبه العذراء في الكتابة العربية، قارة الجسد، بأبعادها وأعماقها وتخومها- من الرغبة والحلم والصبوة واللعب والعبث والمعنى والسر، وهذه الكيمياء التي تخترق هذا كله وتتموج محيطا بلا حدود؟ أليس من الأوليات إذن أن نتحقق من وجود الشيء قبل أن نشرع بوصفه وتحليله؟

    ( 9 )

    يتعذر فهم الظاهرة في الأعمال الكتابية التي ندعوها حديثة. إذا لم نفهم بنيتها الباطنة، وهذا ما يستلزم جلاء لما أسميه بالتباسات الحداثة في المجتمع العربي. منها على سبيل المثال: الالتباس التأويلي المرتبط بثقافة الوحي والذي يقيس الحياة والفكر والأدب على الوحي، فكما أنه لا تحديث في الوحي وهذا طبيعي، كذلك لا تحديث في هذه جميعا، وهذا أمر غير طبيعي. ومنها التباس الخصوصية والأصالة والأصل، وهل هذا الأخير في الشعر العربي والحياة العربية واحد أم متعدد؟ ومنها التباس الهوية ومفهوم الآخر، وهل الحداثة تطابق مع الهوية، وكيف يكون هذا التطابق؟ أم أن الحداثة انشقاق؟ وكيف؟ ولماذا؟

    ( 10 )

    لنقم ببعض المقارنات بين الحداثة في الغرب وما نسميه الحداثة في المجتمع العربي، نشأت الحداثة في الغرب في تاريخ من التغير عبر الفلسفة والعلم والتقنية ونشأت الحداثة العربية في تاريخ من التأويل، تأويل لعلاقة الحياة والفكر بالوحي الديني وبالماضي إجمالا.
    ومن هنا تنتج الفروقات التالية:
    الأولى، الغربية- مغامرة في المجهول، في "ما لم يعرف" والثانية، العربية - عودة إلى المعلوم.
    الأولى، تؤكد على الأنا- الذات، والثانية تؤكد على النحن- الأمة.
    الأولى، لا مرجعية لها إلا الإبداعية، والثانية، قائمة على المرجعية من كل نوع.
    الأولى، نوع من المناجاة، والثانية، صلاة إلى القبيلة أو الحزب أو الأيديولوجية.
    الأولى، تتحرك في عالم لا سيطرة فيه للمقدس وللرموز الدينية، عالم انتصر فيه الدنيوي، والثانية، تعيش في عالم لا سيطرة فيه إلا للمؤسسات والرموز الدينية.
    الأولى، تساؤل وشك، والثانية يقين وتسليم.
    الأولى، انفتاح ولا نهائية، والثانية مذهبية وانغلاق.
    الأولى، تتأسس على البعد النقدي والحركية، والثانية، تتأسس على بعد القبول والخضوع.
    الأولى، فرادات، والثاني، أنساق، الأولى، انفجار معرفي همشت فيه الرؤية الدينية، والثانية، هامش صغير في متن تسيطر عليه وتوجهه الرؤية الدينية.
    الأولى، تعدد واحتمالات، والثانية، واحدية، مبدأ وحيد مؤسس وحقيقة واحدة مطلقة.
    الأولى، تتحرك في عالم أمات مفهوم الله وأحيا الإنسان، والثانية، تتحرك في عالم الإنسان فيه هو الميت والله فيه هو وحده الحي.
    الأولى، تفترض في الذات، وفي من تخاطبه، الحيرة والغموض والشك، والثانية، لا تفترض في الذات، وفي من تخاطبه إلا طاقة الوضوح، والإيمان واليقين.
    الأولى، تصدر عن قيمة ترد إليها جميع القيم، قيمة تهيمن على وعي العصر وتوجهه، والثانية، ليست هامشا وحسب وإنما هي منبوذة أيضا ولا تعيش إلا بفضل التصدعات القائمة في المجتمع العربي.
    الأولى، دنيوة، والثانية، ديننة.

    ( 11 )

    لا تنشأ الحداثة مصالحة، وإنما تنشأ هجوما، إذن، في خرق ثقافي، جذري وشامل، لما هو سائد. وراء بالحداثة إذن رؤية شاملة لمشروع ثقافي، حضاري شامل، ما هذه الرؤية التي توجه ما نسميه بالحداثة الشعرية العربية؟ إن هذه الحداثة على افتراض وجودها كما قلت تتحرك في إطار ثقافي، مهيمن، هاجسه الأول، الأساس، هو ديننة الدنيا، والحداثة في دلالتها البدهية الأولى دنيوَة لا ديننة، وفي هذا ما يدفعني إلى أن أوصل كلامي إلى طرفه الأقصى زاعما أن الحداثة بوصفها حركة أو جزءا عضويا من بنية الثقافة العربية والشعرية العربية، غير موجودة في الشعر العربي أو التذوق العربي، أو الحساسية العربية، بل أن الذهن العربي السائد يرى أن الحداثة أو الحديث لا يجيئان من الذات، وإنما من الآخر الأجنبي، ذلك أن وراء القول بالحداثة أو الحديث دعوى الإتيان بشيء لم تأت به الرؤية العربية، وهي إذن دعوى تتهم هذه الرؤية بالنقص وتشكك في صحتها. هكذا نتحدث عن ظاهرة وعن مفهوم ينبذهما جوهريا النظام المعرفي الذي نكتب بلغته، ونمارس قيمه، ويؤسس لحياتنا وفكرنا، عنيت الحداثة والحديث. والسؤال هو: لماذا ننسى، أو نتناسى، جميعا هذا النظام المعرفي، في كلامنا على الحداثة والحديث؟ فهذا النظام هو وجودنا نفسه. أليس تناسيه، إذن، نوعا من التوهم؟ هكذا، كلنا نبدو كأننا نفكر ونكتب توهما. لذلك لا نقدر أن نبني شيئا، ولن نقدر أن نغير شيئا. كأننا نعيش بعقل الآخر، وأدواته، وتذوقه، داخل قفص اسمه الذات. أفلن نخرج أخيرا إلى الحقيقة؟ هذه الحقيقة هي تجاوز العائق المعرفي، هي الجهر بتفكيك هذا النظام،وتجاوزه، هي الجهر بنهاية المطلق، دون هذا الجهر والسير فكريا بمقتضياته، لا يمكن في نظري، أن يكون في المجتمع العربي حداثة ولا فكر حديث، بل لا يمكن أن يكون هناك فكر، بحصر المعنى، وما نسميه اليوم بالفكر العربي الذي يدور في فلك هذا النظام المعرفي، ويقوم بكليته على خطابية المعنى النهائي ومذهبيته ووثوقيته سواء في السياسة أو الثقافة أو الشعر، والذي يتصاعد في ما يشبه الصلوات التي تبشر بمستقبل يوجهه الماضي ويهيمن عليه، ليس فكرا وإنما هو نوع بائس من الوعظية البائسة.

    لا تبحث الحداثة في المجتمع العربي، في معزل عن هذا التفكيك، ذلك أن الحداثة بأبسط دلالاتها كما أشرت، حركة تقوم على قول ما لم يقل في هذا المجتمع، على رؤية عوالم متحررة من جميع العوائق النظرية والعملية، في حرية تخيل كاملة، وحرية تعبير كاملة، ويتعذر ذلك دون تجاوز النظام المعرفي السائد، الذي هو، وهذا ما أحب أن أكرره، ديننة للدنيا.
    أثير هذه النقاط لا بهاجس تحديد المصطلح وحسب، علما بأن الدقة في المصطلح مسألة تقتضيها، على نحو خاص، أوضاعنا الفكرية والمعرفية في المجتمع العربي. فنحن نتحرك من هذه الناحية فيما يشبه السديم، ولهذا فإن الأحكام التي تطلق وتسود حياتنا الثقافية غير وغير صحيحة غالبا. وليست المعرفة السائدة أكثر حظا، فهي معرفة غائمة وتشبه هي الأخرى نوعا من السديم. إنني أثير هذه النقاط بهدف آخر أيضا هو الإشارة إلى أن الحداثة التي نمارسها اليوم، إنما هي، قياسا إلى الحداثة في الغرب، نوع من الهروب، وإن كان ضروريا، نوع من الاختباء الذي لا بد منه، لكن داخل سور ضخم من المعوقات، وغلى أنها هي أيضا حداثة مهربة، وتهريبها ضرورة حياتية وحتمية. نعم أزعم أن الحداثة في المجتمع العربي، حداثة اليوم، ليست نابعة من ذاته، من ثقافته وأصولها، وإنما من خارج، ولا أظن أن الكلام على شعر حديث في مثل هذا المجتمع يمكن أن يتم دون مثل هذه التحفظات،وهي كثيرة، متنوعة، وعلى مختلف المستويات.
    لنقل بوضوح أن الحداثة اليوم، في المجتمع العربي، بوصفها مفهوما أو تنظيرا، وبشكلها العام السائد، إنما هي غريبة بكاملها، وإننا عندما نتكلم عليها، إنما نتكلم على الآخر،متوهمين أن هذا الآخر هو الذات. ومن الطبيعي أن هذا حكم على المستوى العام لا يلغي بعض الاستثناءات، لكنها استثناءات لا تشكل تيارا عميقا داخلا في بنية المجتمع، بوصفه جزءا عضويا منها، وإنما هي استثناءات تسمح بوجودها بعض الشقوق والتصدعات في هيكل المجتمع العربي الثقافي والاجتماعي. استثناءات لا تعيش إلا هامشيا في الأطراف وعلى الضفاف.

    ( 12 )

    يطيب لي أن أوصل كلامي في هذا الصدد أيضا إلى أقصاه، إذا أخذنا الحداثة في الغرب معيارا، فمن الممكن القول: ليست الحداثة وحدها غير موجودة في الحياة العربية، وإنما الشعر نفسه هو كذلك غير موجود، وأعني طبعا بوصفه رؤية تأسيسية وبوصفه فاعلية معرفية كشفية قائمة بذاتها. إننا نعرف جميعا، أن الشعر بدءا من الوحي، في الأديان التوحيدية جميعا، ل م يعد رؤية تصوغ الوجود، وإنما أصبح وسيلة لتزيين الموجود أو تقبيحه وفقا لأخلاقية الوحي ومعاييرها. بهذا المعنى، وفي إطاره تحديدا، يمكن القول، وأقول بأن الوحي أنهى الشعر، وبأن الشعر مات بدءا من الوحي السماوي. ومعنى موت الشعر هنا، هو أنه ل م يعد بالنسبة إلى مجتمع يؤمن بالوحي الشكل الأعلى الذي تفصح به الحياة أو الحقيقة عن نفسها، ولم يعد الشكل الذي يلبي الحاجة الضرورية للاتصال مع الكون والآخر. لكن أن يكون الشعر انتهى أو مات بوصفه رؤية تأسيسية، أمر لم يحل دون نموه في المجتمع الإسلامي بوصفه وسيلة. هكذا وضع الإسلام الشعر على الحدود، لا داخل المدينة ولا خارجها، بين بين، وقد نما على هذه الحدود، لا بوصفه تأسيسا معرفيا، بل بوصفه تجميلا أو تقبيحا للوجود كما أشرت. هكذا همش الإسلام الشعر مغيرا دوره الأساس. وبما أن هيمنة الإسلام على العقل، كانت أكثر منها على الحياة والجسد، فقد أتيح للشعر أن يستمر، لكن في مناخ من الصراع، كان يقصى حيث ينافس الدين، ويفاد منه، حيث يتولد عنه ما يسيء للدين إنما بقي في الوقت نفسه، هامشيا لقول حقائق لا يرضى عنها الدين كليا أو لم يقلها. وساعد في ترسيخ هذا الهامش، التطور المعرفي والاجتماعي الذي عرفه العرب، بين بداية القرن الثاني الهجري وأواسط القرن الخامس، هكذا ألحق الشعر بالحادثة، والشيء: الحادثة العابرة التي تذوب في زمنية الذاكرة، والشيء الجزئي الذي يذوب في الشيء النموذج. لم تعد للشعر قيمة، إلا بوصفه ماضيا أو تذكيرا بالماضي. الإنسان نفسه في الرؤية الدينية السائدة، لا قيمة له إلا بوصفه ماضيا، يستعيد زمن الوحي ويتطابق معه، بل ليس هناك في هذه الرؤية أي معنى للمستقبل إلا بوصفه ماضيا، ولا وجود له بوصفه إمكانا لنشوء حقائق جديدة تغاير الحقائق الماضية.

    إذ تحول الشعر إلى نوع من المطابقة والمصالحة، تحول في الوقت نفسه إلى حجاب. لم يعد يكشف عن الشيء، كما هو وبما هو، بل أصبح يكشف عنه وفقا للمقول السائد، المتراكم، المعمّم.

    ولقد قامت الحداثة الأولى- في هذا الهامش، في ذلك الهامش الإمكاني- قامت على خروج تمثلت علامته الأولى في قدرة الشعر على أن يضع موضع السؤال ذاته والعالم وقيمه بشكل مستمر، فالشعر سؤال حول الشعر، بقدر ما هو سؤال حول الإنسان والأشياء والعالم. فهل هذا الذي حققه المحدثون الحاليون، أم هو ما يحققونه؟ إن شعر أغلب هؤلاء المحدثين يندرج في أفق الشعر الذي يمكن أن يسمى بشعر النهضة. إنه شعر نهوض، أي شعر وظيفي. إنه شعر جزء من الحدث، شعر تابع للحدث، ذائب فيه. ولئن كان هولدرلين، يقول: "شعريا، يعيش الإنسان على هذه الأرض" فمن الممكن القول "وظيفيا، يعيش العربي على هذه الأرض".

    ( 13 )

    كانت الرؤية الخليلية لفن الشعر ترجمة دقيقة للرؤية الدينية. كانت بينهما مطابقة شبه كاملة: فقد أخضعت القواعد والأشكال في الشعر لمبدأ مطلق وثابت تماما، كما هي الحال في الحياة والفكر بالنسبة للوحي. فقد وضع الخليل معيارا أساسيا واضحا ومطلقا شأن المعيار الديني، يقاس عليه الشعر، ويميز به الشعر من اللاشعر. إن في ذلك ما قد يوضح لنا استطرادا، غياب تاريخ حقيقي للشعر العربي حتى اليوم. فليس هناك حتى الآن مثل هذا التاريخ، علما بأن الشعر العربي هو أقدم شعر متواصل في العالم الحديث. وسيطرة هذه المعيارية هي التي سمحت بالكلام على انحطاط ونهوض في الشعر، مما لا مثيل له في العالم كله، لأنه كلام، يناقض الشعر من حيث أنه ينظر إليه كما ينظر إلى العلم بوصفه كما تراكيما، أو كما ينظر إلى الدين بوصفه بعدا عن الأصل- النموذج أو قربا منه. الشعر لا يوصف بالانحطاط أو التقدم على المستوى التاريخي، بل بالشعرية أو اللاشعرية. الانحطاط مثلا في الشعر العربي كان مبدأ حداثة من حيث أنه كان تحطيما للنمذجة وخلقا للغة يومية في مستوى الأشياء اليومية. ثم إن الشعر حتى في أوج كماله يعيش في أزمة.

    الشعر تحديدا أزمة. فهو دائما جدل، صراع بين الشاعر ونفسه، بينه وبين اللغة، بينه وبين الأشياء. لكن الشعر بحسب الرؤية الدينية، وظيفة، وهو يتقدم أو ينحط بحسب فعاليته الوظيفية. لكن الشعر بحسب الرؤية الدينية، وظيفة، وهو يتقدم أو ينحط بحسب فعاليته الوظيفية. وفي هذا المستوى، استطرادا، نقول أن الشعر العربي ميت، بسبب من وظيفيته بالضبط، ومن النظر إليه وتقويمه، استنادا إلى فعاليته الوظيفية. ومن هنا ندرك مرة ثانية أن مشكلة الحداثة، ليست مشكلة الشعر وحده، بل هي مشكلة الفكر والحياة الثقافية، مشكلة الفكر والعقل. ومعنى ذلك أن الحداثة تتمثل في حقائق جديدة تفصح عن نفسها بأشكال جديدة. ولئن كانت أشكال البحث عن الحقيقة التي عرفها المجتمع العربي ثلاثة: الشعر- الدين، والفلسفة ذائبة في الدين، فلم يبق إلا الشعر لأنه بقي على الهامش. لكن هذا الهامش ألغته في العصر الحاضر الأيديولوجية، من كل نوع. اليوم أكرر، وأحب أن أكرر، أن لا وجود للشعر في المجتمع العربي بوصفه رؤية تأسيسية أو بوصفه شكلا معرفيا مستقلا لرؤية الوجود، وللحدس به وللإفصاح عنه. هكذا يبدو لي أن إغفالنا نقد ما يحول دون الحداثة، عنيت القراءة السائدة للوحي والممارسة السائدة له، هو الذي يسهم في تحويل الماضي إلى طقس هائل، بحيث يصبح أشبه ب محيط خرافي لا حد له، يبتلع الواقع كله، يهيمن عليه ويسيره. وهذا هو ما يميت الماضي نفسه. فتكرار الموروث كمثل نفيه. أو لنقل التكرار نوع آخر من النفي. وهؤلاء الذين يكررون الماضي، لا يقومون في الواقع إلا بنفيه، فليس تكرار الأصول أو اجترارها هو ما يجعل الإنسان مرتبطا بالأصول، بل نقدها والحوار معها. فما يؤصل الإنسان يكمن في المساءلة المستمرة للأصول. هكذا يبدو، فيما نلغي هذه المساءلة، كأننا نعيش بلا تراث وبلا حداثة وبلا شعر.

    ( 14 )

    الحداثة هي بالضرورة انشقاق وهدم من حيث أنها تنشسأ عن طرق معرفية لم تؤلف، وتطرح قيما لم تؤلف. إن الانشقاق جزء عضوي من الوحدة، لا يجوز أن نخاف منه، والهدم وجه آخر للبناء. وتتضمن الحداثة الرفض والتمرد من حيث أنها تتخلى عن التقليد، ومفهومات الأصول والأسس والجذور والمعايير الثابتة. والحق أننا نحن العرب اليوم لا نخلق حداثتنا الخاصة في القرن العشرين بقدر ما نعايش قليلا أو كثيرا نهايات الحداثة التي خلقها بعض أسلافنا الهامشيين في القرنين التاسع والعاشر. والحداثة مقرونة بالاختلاف والفاجع من حيث أنها تتعارض مع السائد من مفهومات الهوية والوحدة والثبات والنهائية وتؤكد على القطيعة والكثرة والتنوع والتحول والتفتح المستمر واللانهائية. ونقول أخيرا لا حداثة على المستوى النصي الإبداعي أو على مستوى التنظير، خارج هذا التمزق المعرفي. وما عدا ذلك مما يسميه بعضهم حداثة ليس إلا تقليدا آخر، ليس إلا مرضا آخر في قلب تاريخنا الذي أنهكته الأمراض.



    --------------------------------------------------------------------------------

    (باريس، 1992)
    * المصدر : البيانات - أدونيس، محمد بنيس، أمين صالح - قاسم حداد / دفاتر كلمات (1) الطبعة الأولى 1993 البحرين
                  

العنوان الكاتب Date
بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-27-03, 07:35 PM
  Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-27-03, 07:36 PM
    Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-27-03, 07:37 PM
      Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-27-03, 07:37 PM
  Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر الجندرية11-27-03, 10:09 PM
    Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-28-03, 08:18 PM
      Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر Shinteer11-28-03, 08:28 PM
        Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-28-03, 08:55 PM
          Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر Shinteer11-28-03, 09:05 PM
            Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-28-03, 09:33 PM
              Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر Shinteer11-28-03, 09:52 PM
                Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-28-03, 10:09 PM
  Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-28-03, 09:37 PM
    Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر Tumadir11-28-03, 09:39 PM
      Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر Tumadir11-28-03, 09:49 PM
        Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-28-03, 10:12 PM
    Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر ASAAD IBRAHIM11-28-03, 09:48 PM
      Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-28-03, 10:15 PM
  Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر sentimental11-28-03, 10:13 PM
    Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-28-03, 10:27 PM
      Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر ASAAD IBRAHIM11-28-03, 11:43 PM
        Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-28-03, 11:54 PM
          Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر ASAAD IBRAHIM11-29-03, 00:05 AM
          Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر ASAAD IBRAHIM11-29-03, 00:05 AM
            Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-29-03, 00:50 AM
              Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر ASAAD IBRAHIM11-29-03, 00:56 AM
  Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-29-03, 01:00 AM
    Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر إيمان أحمد11-29-03, 01:21 AM
      Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-29-03, 01:43 AM
  Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر sentimental11-29-03, 01:16 AM
    Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-29-03, 01:48 AM
  Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر sentimental11-29-03, 02:11 AM
    Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-29-03, 09:44 PM
      Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر omer ibrahim11-29-03, 11:16 PM
  Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-29-03, 11:18 PM
    Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر omer ibrahim11-29-03, 11:20 PM
  Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-29-03, 11:23 PM
    Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر إيمان أحمد11-29-03, 11:30 PM
      Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر omer ibrahim11-29-03, 11:32 PM
  Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla11-29-03, 11:34 PM
    Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر إيمان أحمد11-30-03, 00:30 AM
      Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر فتحي البحيري12-02-03, 01:05 PM
        Re: بيان الحداثة الي كل الذين كتبوا شعرا في المنبر mohammed alfadla12-03-03, 00:29 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de