|
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين (Re: ثروت همت)
|
بودلير، يا سيدي المُرهِق، أناجيك بعد أن استنفذ العمر مخزونه من الأسى ورصيده المعد سلفاً للمعاناة، أدفع بأحرفي لأفض عذرية البياض الموحش، أقدم قرابين الانتماء لوطن العبارة لديك، بعد أن أقحمتُ نفسي بنفسي في شِباك منفى اللغة وفقدان هويتها. ما أقسى أن تفطمك اللغة على صغر، فتتغذى على حليب أُعْتِصِر من أثداء متعطشة، بأيدٍ كانت المتعة غايتها، وبشفاهٍ كانت الشهوة دافعها، بدلاً عن فم رضيع كان البقاء دافعه. إن لغتي لمنفاي، ووجودي غربتي، ونفسي ضريحٌ وُضِعتُ فيه. ما أقسي كل هذا. {إن نفسي قبر أطوف فيه وأقيم منذ الأزل بثياب راهب ضال}، بودلير. ___ } للأحاديث شجون، فالحنين، يقسر النفس على تذكر (المعاناة) ، كقصيدة وأغنية}
نعم يا صديقي، للروائح ذاكرة، وللمواسم ذاكرة، وللتوقيت ذاكرة، وللموسيقى ذاكرة، وللإنسان ذاكرته الشاملة، التي تجمع مابين كل تلك الذكريات، تقويه وتضعفه، تسعده، تشجيه وتحزنه.
رائحة الطين، {والتي حين يستنشقها الإنسان يحس بالانتماء لكرة طينية كبرى}، كما قلت أنت، الانتماء، الأرض والوطن، المنافي والموت، والاغتراب ذاتياً، وجودياً وجغرافياً، كلها عجلات خشبية تدحرج النفس للحزن، وتزأر داخلك وأنت تستمع لحشرجة احتكاكها بالموت.كبائع متجول عجوز يزأر جاهداً لرزقه وتزأر العجلات بأساه.
قديماً كنت أفكر في العلاقة القوية التي تربط الفرد بالوطن وصلت لفلسفة ربما كانت غريبة نوعاً ما، وهي أن الإنسان يخلق من طين وطنه، من ذات الأرض التي أنجبته أبناً، وأرضعته من خيرها. ولكن وبعد أن تجرعت كُؤُوس غربتي لم أجد انتمائي إلا للموت، كفكرة عظيمة، كفناء طبيعي للجسد، كشيء غامض لم يُدرَك كنهه، الموت كفكرة، تؤرق كل كاتب، التجربة التي يتمنى الكثيرون خوضها والعودة من جديد للكتابة عنها، درويش كاد أن يفعلها، جدارية درويش هي رحلة الموت والعودة للكتابة عنه من جديد، محمود درويش تناول الموت في أكثر من قصيدة، تحدى الموت بكلماته، وغير مفهومه داخلي لطالما كنت أوصد بابي في وجهه، كضيف ثقيل الظل غير مرحب به، عندما مات درويش، وخرج الملايين لوداعه، كاد الدمع أن يثقب عيني وأنا أمنعه من التسرب، في نهاية المطاف نثرت حزني علي شجني، وأشعلت الجسد برغبات الرقص وثرثرته خلف إيقاع موسيقي صاخب، لطالما رحب محمود درويش بالموت، لطالما سَخِر من الحزن. فِلَم خذلانه بالبكاء والنحيب؟
ارتباط غربتي بالموت وما بعده، طور فكرتي الأولي، كنت ذات يوم داخل إحدى المقابر القديمة بلندن، أُناس قبروا قبل عشرات السنين، قبور حُفرت منذ القرن السابع والثامن عشر، حُروف نُحتت تنعي أصحابها: (مازلت خالداً في الدواخل- أسبوتوود ولد عام العام 1696 وتوفي في العام 1785) وأخري نقش عليها(نبُكيك مدي الدهر، ويخلدك التاريخ – أنطوني كاسار، أشرقت شمسه في ويلز عام 1873 وغرُبت في السودان عام 1948) . كنت علي علم مسبقاً أن المقبرة تضم جثث عشرات الجنود الإنجليز الذين قتلوا في السودان، يا كسار.. ولدت في بريطانيا، توفيت في السودان ، وقُبرت في بريطانيا. ويا نفسي، وُلدتي في السودان فأين ستنشدك المنية؟ وأين سيقبرك القدر؟..أين سيقبرك القدر؟ هل حقاً يخلق الإنسان من طين وطنه؟ أم من طين قبره!! توقفت كثيراً والجملة الأخيرة تتضخم داخلي، ارتباطنا بالطين، أكبر بكثير من ذاكرة الروائح يا صديقي، هو ارتباط بالتكوين والممات ومن ثم النشور.
تحدثتَ عن الروائح، فانزلقت بي الذاكرة لسنوات قحطي الأولي في المنفى، لا الوطن وطني، ولا الوجوه سحنتي، لن أراهن كثيراً علي اللغة، فان غربتي مع اللغة بعيــدة وممتدة منذ أن أضرم الوعي بنار ثورته فيني ، لم أحس يوماً بانتمائي للعربية كلغة أم، فالنوبية هي لساني الأخرس الذي فقدته مبكراً إثر انتقال أسرتي للخرطوم وأنا في شهري الخامس، كان كل من في المنزل يحرص علي التحدث معنا بالعربية، تلك جدتي تنادي(يا بنت يا ثروت تعال هنا) فأضحك مرددة (يا بنت وتعال هنا، في إيه يا *يو!) ثم أبتسم بخبث مقلدة صوتها بسخرية:(أنت يا مرة أنت بناديني ولا بنادي أخوي) تفرهد شفاهها السمراء ضاحكة وتقول( إمَّنا هي مصيبيي) تقصد ضاحكة أني مصيبة جاد بها كل من والدي وابنتها علي الزمن.
أسمعهم يتحدثون إلى بعضهم بالنوبية، فانصرف عنهم باهتماماتي، لم يكن ولعي بها كثيراً آنذاك، لم أهتم بتعلمها، كان فهمي لكتابات الطيب صالح يغنيني عن تعلمها، وأنسي الحاج وكافارني وابن عربي، يجردوني من تذكرها، وكانت الأنشطة الطلابية والألقاب المكتسبة تحد بيني وبين الهوة، بدأت السنين بلإنكماش، تمر السنة وكأنها شهر، ويمر الشهر وكأنه يوم، بدأ الاستلاب الفكري في التفاقم، وبدأت الهوة بيني وبين العربية في التصدع، لم تعد تأويني، أشعر بالضياع، لا أستطيع الوصول إلى طيات أفكاري بها، وبدأت لا شعوريا أميل للتعلم اللغات، اعتقدت حينها بأن ميولي لتعلم اللغات هواية ولكني أدركت لاحقاً بأنها كانت محاولات مستميتة لردم هُوَّة التغرب داخلي.
دخلت الجامعة، وكان لي ما أردت طالبة بكلية الآداب قسم اللغة الروسية والإعلام، لكن وبعد محاولات مستميتة من الأسرة تم إقناعي بالتحويل لقسم المحاسبة جامعة الخرطوم، وكان لهم ما أرادوا. أثناء دراستي التحقت بمركز السُدس (مركز داخل الجامعة يتم فيه تعلم اللغة الفرنسية) التحقت به كمحاولة للهرب من منفي اللغة، أذكر مناكفة أصدقائي لي وسخريتهم الضاحكة (والله يا ثروت كأنك بتغسلي بنطلون جينز) فأجيبهم ضاحكة، أزرق ولا اسود.
مرت الأيام، توقفت عن متابعة دراسة الفرنسية بعد أن اكتشفت أن ضالتي ليست بين طيات حروفها، أخذني طلب العلم وملاحقته إلى إنجلترا، تعلمت الإنجليزية، ولا سبيل للخروج من منفي اللغة، منفي اللغة، أين أنا من هذه اللغة، التحقت بإحدى الجامعات كتكملة لدراسة المحاسبة، و في ذات الوقت بدأت في تعلم اللغة الأسبانية كخيار أخر للهروب من منفي اللغة، لم أجد ضالتي فيها أيضاً ولكني باقية علي دراستها حتى الآن فما أجمل القراءة للوركا بعيداً عن أخطاء الترجمة الفادحة والجافة التي تتم في حق النصوص المترجمة، أذكر حديثاً لكونديرا اعترض فيه على عدم مصداقية بعض المترجمين في ترجمة النصوص قال فيه:{ للأسف، فإن من يقومون بترجمة أعمالنا، إنما يخوننا, إنهم لا يجرؤون على ترجمة غير العادي وغير العام في نصوصنا، وهو ما يشكل جوهر تلك النصوص. إنهم يخشون أن يتهمهم النقاد بسوء الترجمة وليحموا أنفسهم يقومون بتسخيفنا}.
كنت أحاول الانتماء للغة حتى وإن أدارت هي ظهرها، لم أكن أدرك أنني بذلك أرتكب حماقة تلو الأخرى، أنني أوسع حدود غربتي ، وأمد من عمرها ما مدَّ الله من عمري، لم أكن أدرك آنذاك أن حل المشكلة أقرب من روسيا وفرنسا وبريطانيا وأسبانيا، وأن حلها في لسان جدتي الكوشي، والتخلص من حياء والدتي وحرجها حين التحدث مع أصدقائي خوفاً من قيامها بتأنيث مذكر..أو تذكير صديقة.
* يو: تعني أمي في اللغة النوبية.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
منفى اللغة و مقصلة الحنين | Hussein Mallasi | 02-25-10, 09:36 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Adil Isaac | 02-25-10, 12:28 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Hussein Mallasi | 02-25-10, 12:39 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | معتصم الطاهر | 02-26-10, 02:11 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Mohamed E. Seliaman | 02-26-10, 02:39 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | محمد سنى دفع الله | 02-26-10, 03:47 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | محمد حيدر المشرف | 02-26-10, 04:09 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | ثروت همت | 02-26-10, 08:48 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | hanouf56 | 02-27-10, 03:42 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | hanouf56 | 02-27-10, 03:49 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | حاتم علي | 02-27-10, 06:37 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | عمر عشاري | 02-27-10, 06:44 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Hussein Mallasi | 02-27-10, 07:38 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | عمر عشاري | 02-27-10, 07:46 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | عمر عشاري | 02-27-10, 07:49 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | ضياء الدين ميرغني | 02-27-10, 07:57 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Emad Abdulla | 02-27-10, 08:05 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | محمد عبد الماجد الصايم | 02-27-10, 08:23 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | محمد حيدر المشرف | 02-27-10, 08:29 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | محمد البشرى الخضر | 02-27-10, 08:49 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | abubakr | 02-27-10, 08:53 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | محمد الجيلى | 02-27-10, 10:06 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Emad Abdulla | 02-27-10, 10:19 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Mohamed E. Seliaman | 02-27-10, 10:36 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | hanouf56 | 02-27-10, 10:38 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | ثروت همت | 02-28-10, 04:23 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Mohamed E. Seliaman | 02-28-10, 04:37 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Mohamed E. Seliaman | 02-28-10, 04:55 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | معتصم الطاهر | 02-28-10, 08:50 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | ثروت همت | 02-28-10, 09:53 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | د.محمد حسن | 02-28-10, 09:57 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Mohamed E. Seliaman | 03-01-10, 06:25 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Mohamed E. Seliaman | 03-01-10, 06:42 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Mohamed E. Seliaman | 03-01-10, 10:03 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | ماجدة عوض خوجلى | 03-01-10, 02:14 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Mohamed E. Seliaman | 03-01-10, 07:34 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | ثروت همت | 03-02-10, 08:36 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | ثروت همت | 03-02-10, 09:03 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | محمد على طه الملك | 03-03-10, 01:57 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Mohamed E. Seliaman | 03-03-10, 05:29 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | ثروت همت | 03-04-10, 10:26 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | abubakr | 03-03-10, 07:41 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | abubakr | 03-03-10, 07:31 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Mohamed E. Seliaman | 03-03-10, 03:33 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | فايزودالقاضي | 03-04-10, 11:18 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | محمد على طه الملك | 03-04-10, 12:34 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Mohamed E. Seliaman | 03-04-10, 01:03 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | محمد على طه الملك | 03-04-10, 03:39 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Mohamed E. Seliaman | 03-08-10, 10:44 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Yassir Tayfour | 03-08-10, 11:05 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | abubakr | 03-08-10, 11:46 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | ثروت همت | 03-09-10, 09:59 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | Mohamed E. Seliaman | 03-10-10, 09:30 AM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | حبيب نورة | 03-25-10, 08:25 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | محمد عبدالله حمدنا الله | 03-25-10, 09:17 PM |
Re: منفى اللغة و مقصلة الحنين | حبيب نورة | 03-25-10, 09:26 PM |
|
|
|