|
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) (Re: عاطف عبدون)
|
ما أحلى الغزل
ولنا وقفة في مسألة تغزّل الخليل ببنات أهله، ممّا أسماه بنفسه مجوناً (يا سعادتي وثروتي ومَجَنِي)، من باب التّجاوز. فقد كان الخليل رجلاً عفيفاً، ملتزماً بأخلاق مجتمعه. وفي ظنّنا أن ذلك التّغزّل كان يجيئ على مستويين: الأوّل من قبيل المداعبة لنساءٍ لا يمكن أن يُتّهم بهنّ الشّاعر، وذلك لأواصر القربى الشّديدة التي تضعهنّ في مقام الأخوات؛ أمّا المستوى الثّاني فهو من باب التّوسّل للإلهام بتوضيعه في شخصيّات متعيّنة. ومما يجدر ذكره أنّ الخليل اتّبع هذا الأسلوب في الخرطوم، كان ذلك في أغانيه أو في الاستشهاد بأغاني غيره. من ذلك تغزّله وترنّمه بأغنية "زاهي فرعك" [علي المك: 149]، وهي القصيدة التي ألّفها في زواج صديقه أحمد عبد السّلام [المرجع السّابق: 198]. ويقول مطلعها:
زاهي فرعك نما وسما
تشبهي القمرة في السّما
ونلمس فيها العديد من أوجه الغزل الصّريح مثل:
يا نسيم أمشي سالما
بي لُطُفْ شيشة حلِّما
بالعَلَيْ أبقى كلِّما
وهاك رويحتي سلِّما
***
شوف وريدا وسوالفا
شوف صديرا المُزالفا
شوف ضميرا المُوالفا
من كِفيلا المِخالفا
***
غصنُ بانٍ إذا مشى
لعِب الرّدفُ بالحشا
وإذا مال واختشى
فضح الغصنَ والرّشا
ثمّ يقول بعد كلّ هذا في خاتمتها:
إنت يا برُ يا سلام للجميع أكتِبْ سلام
واحفظُم في صلا وسلام متّع أحمد عبد السّلام
وأحمد هذا أصلاً من السّكّوت من قرية إرَوْ جنوبي عبري [رواية ابنه محمّد عثمان]، وقد وُلد بها عام 1886م، ثمّ قدم إلى حلفا للدّراسة في خلوة جدّه بأمّه محمّد نور، ومنها قدم إلى الخرطوم عام 1899م. وكان الخليل قد التقى به في حلفا، واختلف معه إلى خلوة محمّد نور لزمنٍ قصير ريثما غادرها إلى دنقلا مع عمّه لمواصلة تعليمه هناك حيث درس الكتّاب، ومنها قدم إلى الخرطوم عام 1908م للدّراسة في كلّيّة غردون. واسمه بالكامل: أحمد عبد السّلام مصطفى أحمد محمّد ترْيَل. واسم تريل هذا كان لأحد ضبّاط محمّد علي باشا، فدرج جنوده على إطلاق الاسم على أبنائهم من حبّهم له؛ ولهذا يُشير الخليل إلى أحمد عبد السّلام بالتّركي. ووالدة أحمد عبد السّلام هي زهرة محمّد نور، وأمّها فاطمة بنت حفصة بنت كيخا؛ وكيخا أصله من إرَوْ، وقد ذهب إلى حلفا للتّجارة، وهناك تزوّج عبد السّلام مصطفى من ابنته، وكان ذلك حوالي 1885م، فولد منها أحمد وعبده وعيشة (عائشة). وكان السّيّد عبدالله المحجوب (عمّ السّيّد علي الميرغني) السّبب في قدوم الشّيخ محمّد نور إلى حلفا من أُورو، إذ استدعاه لتعليم ابنه إبراهيم علوم الدّين. وإبراهيم هذا مات ودُفن بحلفا، ثمّ نُقلت رفاته لدى غرق حلفا [راجع قصّة ذلك في حسن دفع الله، 1975]. أمّا زوجة أحمد عبد السّلام التي قيلت فيها تلك القصيدة العامرة بالغزل، فاسمها "ملكة" وكانت صاعقة الجمال؛ واسمها بالكامل: ملكة حسن داؤود عيسى، وهي شلاّليّة من الكنوز ببحري، وخالُها أحمد محمّد إمام المشهور باسم "إمام"، وكان يسكن قريباً من منزل آل أحمد عبد السّلام. وفي زواج إمام نفسه عام 1923م بالخرطوم بحري أنشد الخليل قصيدة (الشّرق لاح نوره) [علي المك: 114-116]، وفيها أشار إلى كثرة أنوار الرّتاين المصاحبة لزفّة العريس، ويقول في مطلعها:
الشّرق لاح نوره وازدان
سرّ قلب القاصي والدّان
ويقول في مقطع منها:
حفلة زي الرّوضة ماهله
كلّها عيـون كاحـله
يا إلهي عقولنا ذاهله
سيرة أم دي سفينة راحله
ونُشير إلى أنّ الشّطرة الأخيرة ترد في تحقيق علي المك [المرجع السّابق] بقراءة مختلفة:
سيرة أم دي جنينة راحله
كما ترد بنفس القراءة في تحقيق فرح خليل [1999: 216]، ولكنّا نرجّح القراءة التي أثبتناها ("سفينة" دون "جنينة") وهي المأثورة عند أسرتي أحمد إمام وأحمد عبد السّلام. ولا نرى وجهاً للشّبه في جملة "جنينة راحله" في معنى الإشارة إلى "سيرة" عريس زُفّ ليلاً على أضواء الرّتاين الباهرة، وربّما أوقعهم في هذا التّصحيف بدء المقطع بتشبيه الحفلة بالرّوضة، والله أعلم. وهذا يعكس كيف أنّ ما تركه لنا جيل الرّوّاد من أمثال علي المك، فرح خليل فرح وبدري كاشف وآخرين قد يحتاج إلى مزيدٍ من الجهد والعمل المتواصل في سبيل الإحاطة بأدب الخليل، إن كان إلى الإحاطة من سبيل.
ولننظر هنا إلى هذا الغزل الذي أتى به الخليل في قصيدته لأحمد عبد السّلام؛ فالخليل كأنّما يتغزّل في محبوبته لا في عروس صديقه الخلوص. فملكة هذه امرأة نوبيّة من الخرطوم بحري من شلالّيّة الكنوز وزوجها من كيخياب قرية أُورو بالسّكّوت، وكان الخليل صديقاً لأسرتها، ثمّ صديقاً خلوصاً لزوجها. وما كان الخليل يقضي يوماً بالخرطوم بحري إلاّ وتجده في منزل صديقه هذا. وقد أُثرت عنه مداعبته لها دائماً بأبياتٍ من الشّعر إمّا قالها هو فيها أو قالها شاعر آخر وذلك في حضور زوجها وأهلها. إذن فتغزّله هذا ليس ممّا يمكن أن يُتّهم فيه. وفي الحقيقة جاء تغزّل الخليل هذا بوصفه إذناً عامّاً للشّعراء كيما يستلهموا الشّعر من جمال هذه الملكة غير المتوّجة. وهكذا لم يمضِ غير زمن وجيز حتّى شرع باقي الشّعراء في تدبيج القصائد الجياد في هذه الملكة. في ذلك أنظر قول بطران [رواية ابنها محمّد عثمان أحمد عبد السّلام]:
ملكة جيلها حاكمـة عنانا بي سيف الرّمش طاعنانا
ولنلاحظ هذا الاستقواء بما أتى به الخليل. فمصطفى بطران ينتمي إلى أُورومة النّوبيّين ممّن ألقوا بعصا ترحالهم بالخرطوم وأمدرمان وبحري، ويقول عنه مبارك المغربي [2002: 309] "... محسي الأصل من جزيرة سكّوت"، وهذا قولٌ لا نعرف له وجهاً، فالوارد لدينا أنّه محسي من جزيرة بدين، وليس من سكّوت، فضلاً عن عدم وجود جزيرة باسم "سكّوت"، فهي منطقة وليس مكاناً بعينه، والأمر يحتاج إلى تحقّق. لكن الثّابت أنّ مصطفى بطران كان ينتمي إلى الأُورومة النّوبيّة البحراويّة، الأمر الذي يجعله أكثر قرباً من أهيل الملكة التي تغنّوا بها. هذا الاستقواء الإبداعي أخذ به مصطفى بطران في التّغنّي بملكة جيلها، فكان أن التقط القفاز منه أيضاً سيّد عبد العزيز، والذي لم يكن نوبيّاً، فقال:
ملكة الكامل جمالِك شلتِ النّوم من عيني مالِك
ويذهب بعضُ العارفين ببواطن أغاني الحقيبة إلى أنّ سيّد عبد العزيز قالها في امرأة من الخرطوم، ولكن الحقيقة أنّه قال هذه الأبيات في ذات الملكة غير المتوّجة، ولكن في مناسبة بالخرطوم. وقد تحقّقنا من كلّ ذلك من ابنها محمّد عثمان أحمد عبد السّلام ـ وكلاهما اسمّان مركّبان، وعاشت الأسماء. بعد زواجه، رُزق محمّد عثمان بابنته الكبرى، فأسماها على والدته الفضلى، فكان أن أصبح لدينا ملكة أخرى، فأنعم وبارك فيهم جميعاً.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 12:46 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 12:48 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 12:55 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 01:01 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | الطاهر ساتي | 07-17-09, 12:58 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 01:24 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 01:31 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 01:38 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 01:40 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 01:45 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 01:50 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 01:54 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 01:59 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 02:08 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | الطاهر ساتي | 07-17-09, 02:04 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 02:23 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 02:25 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 02:34 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 02:40 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 02:45 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 02:52 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 03:00 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 04:38 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 07:19 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 07:57 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 07-17-09, 08:22 PM |
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) | عاطف عبدون | 09-05-09, 11:26 PM |
|
|
|