غراب كتاب المطالعه .. (مضحك جدا) ..

Quote: الطيش عند الله بعيش أذكره جيدًا ذلك اليوم الختامي من العام الدراسي لسنتنا الأولي في سلم التعليم السداسي آنذاك. يوم حفر في ذاكرتي ويذهب بي كلما أذكره إلى إحساس كئيب، حزين. لم يفارقني هذا الإحساس طيلة هذه السنوات المديدة. أذكر اليوم وأذكر "يحيىى" فقط، الذي لا يعلم إلى الآن أنى كلما رأيته أشيح عنه، ليس بسبب ما أصابه من بله أو عي ولكن عند رؤيته أتذكر تفاصيل اغتيال براءته وسذاجته وطفولته أمام ناظري دون أدني إدراك لماهية التربية ولا مقاصد التوجيه.. هل هذا انتقاد؟ لا هو أكبر من هذا هو حزن عميق لموت إنسان حي.. كانوا قد أعلنوا لنا قبل يوم أن اليوم الذي يلي ستكون النتائج والإجازة.. هللنا وفرحنا، كم هي رائعة هذه الإجازة التي تقطعنا عن المشوار القسري في البرد والحر إلى المدرسة.. المدرسة التي فيها الجلد والحفظ والواجبات والاختبارات.. وأذكر من فرحتي بيوم الإجازة أني نسيت كتبي بالقرب من حنفية المياه التي كنا نركع ركوعا كي نشرب منها ماء له خاصيتي الرواء والإشباع بما يشوبه من كمية معتبرة من الطمي اللذيذ! جاء اليوم الموعود.. وأمرنا بالصمت والتزام الهدوء والجلوس على الأدراج وجاء صوت الأستاذ حادًا منبهًا: إنتو حتصفقوا للعشرة الأوائل الشطار بس.. البقية زفت ما بستاهلوا التصفيق! وبدأ التوزيع.. الأول فلان الفلانى.. والتصفيق يعلو، والبشاشة ترتسم، والفرح يأخذ البعض للمس الأول عند المرور به تبركًا به وتأكيدًا لصحبته وآخرون ذهبوا إلى مناداته "هناي ... تمام يا.. الأول يا دا" .. كل هذا والأول يحاول أن يخفى حرجه من هذا الإعجاب المفاجئ الذي لم يتوقعه.. أما البعض الآخر من عتاولة الصف الأول فقد أبرقوا الأول سريعًا بعيونهم وعيدًا قاطعًا بجلدة ستجعله يندم على أوليته التي نالها دون إذنهم الكريم.. والأستاذ يحذر ويتوعد من هذه الفوضى.. ثم الثاني والتصفيق يعلو والضرب على الكنب يزداد بالأكف والأرجل.. الثالث.. الحادي عشر ولا زلنا نصفق.. وهنا استبد الغضب بالأستاذ فضرب السبورة صائحًا: "يا بهايم.. ما قلنا التصفيق لحد العشرة الأوائل بس.. نشوف تاني واحد يصفق.. عشان أهرسوا هنا" وسكتنا فرقًا وخوفًا وصمتنا صمتًا رهيبًا إلا من بعض الضحكات الشقيقة المكتومة التي تستغل غفلة الأستاذ لتتسرب لتعير بعض من جاء ترتيبه متأخرًا، حتى إذا بلغ العدد الثلاثين أو يزيد راود بعضنا الحنين إلى الهرج والمرج والتصفيق، إذ كان بالنسبة لنا مخزيًا أن لا نصفق لأشخاص محددين كانوا فاكهة الفصل.. نعم إن ترتيبهم جاء بهم متأخرًا لكن ذلك لا يمنع أن نحييهم ففعلنا ذلك رغم كل التحذيرات السابقة.. رمية بالكرسي الذي يجلس عليه وكثير من السباب كان كافيًا إن يعيد الهدوء إلى أكثر مما كان عليه سابقًا.. ومضي الأستاذ حتى بلغ الأخير، الطيش الذي كان "يحيىى" لكن يحيىى فاجأ الجميع بالتصفيق لنفسه والتهليل مع رسم ابتسامة حيية، ساذجة، عريضة. وتقدم نحو الأستاذ الذي بادره بصفعة لم يحتملها خده النضر فوقع أرضًا لكن ابتسامته ظلت معلقة على وجهه ولم تفارق محياه بيد أنّ ظلالًا من الحيرة حفت حواشيها.. وقذف له الأستاذ بالنتيجة في وجهه صائحًا: وبتتبسم كمان يا بليد.. غور، الله لا ورانا خلقتك تاني".. لم يغير كل ذلك من يحيى.. لكنه حين استدر ليعود إلى مكانه، كان هناك دمع جامد يبرق في عينه.. لم ينزل.. دمع حمل كل الأسئلة الساذجة.. لماذا؟ في ماذا؟ ماذا جنيت؟ كان ذلك آخر عهدٍ ليحيى بالمدرسة.. وآخر عهدي به صغيرًا.. إذ خرج من المدرسة من باب الانكسار ودخل إلى الحياة العامة من باب البلاهة صبيًا في إحدى الورش.. أمرُّ عليه يوميًا وأتحاشاه.. و خرجت يومها من المدرسة وقلبي يعتصره حزن عظيم.. ولساني يتعزى بقولتنا المشهورة: "الطيش عند الله بعيش".. هل كان من الممكن أن يحدث له غير الذي حدث؟ هل كان من الممكن ترقية مذاقه السعيد بتذيله الفصل وتشجيعه إلى أن يبلغ مكانًا متقدمًا قليلًا؟! ولكن.. ما دام هناك أول فلابد أن هنالك طيش، وإن غادر يحيى المؤخرة فهي لشخص آخر ربما يكون أقل احتمالًا وأسرع انكسارا من يحيىى!؟ ثم هل هذه هي الطريقة المثلى لتقييم الأداء الطلابي؟! أسئلة لا زالت تحيرني، رغم مضي زمن طويل جدًا عليها. لكني أتذكر ذاك الحزن الذي خرجت به من المدرسة كلما سمعت بالامتحانات والنتائج رغم أني يومها كنت صاحب الحظوة بالمركز الأول. أين يحيى الآن .....؟؟!! إنه في المسافة بين غفلتنا.. وابتسامته الحيية الساذجة .. التقيته قبل سنوات وخيّل لي أن الدمع ما زال يبرق في عينيه كم كان.. هكذا كلما اقتربت منه لأحييه وأُذكرّه بي يقف دمعه الباسم ساترًا لعري المسافة بين نسيانه لكل شيء.. وتذكري لكل شيء.

(عدل بواسطة الطيب برير يوسف on 07-02-2009, 03:39 PM)