|
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه (Re: رأفت ميلاد)
|
سـطع نور أبيض غمر الكون . خيوط ضوئية منهمرة من فراغ مهول تهطل فى مدى سـحيق لا قاع له . لاسـماء ولا أرض لا حدود . صمت مطبق ورؤى كالحلم . وزنى هلامى معلق فى الهواء . لا أعرف إن كنت أحلق أو أدور . خطوط الضؤ تخترقنى كأنى نافذة زجاجية . لا ترمش عيناي وأحس بجفونى تغيب الى أعلى وجهى .
تضائل بريق النور متلاشـيآ لا أدرى إن كنت أبتعد عنه أو هو يبتعد منى . نزلت داخل فجوة رخوه كأن جسمى يزوب فيها . بدأت أنزلق إبتلاعآ فى إنحدار سـحيق بسرعة تفوق طرفة عين فى مدى ليس له قاع . لا إحساس لا تفكير لا آلام لا جزع . كالحلم أحس أنى مازلت هناك .
أصبحت فى فضاء فسـيح ضيائه كالمغيب و لا حدود له . ليس له غطاء وليس له قاع . كأنى داخل سـحابة من البلور. كأنى أقف على الهواء و أسـير إنجزابآ بدون أرادة بسرعة زاحفة . يحيطنى مئات المئات من البشر متشـابهون . لا هم نسـاء ولاهم رجال ولكنهم بشـر . لا أراهم ولكنى أحس وجودهم . بعضهم متوقف تمامآ وبعضهم يسير ببطئ وبعضهم أكثر سرعة وبعضهم إنسحابآ . بعضهم بسـرعة أكاد لا أراهم . جميعهم بهم إنحناءة كأنهم يسـقطون . ولا أدرى إن كانوا بجانبى أو فوقى أوخلاي يعبرون . وجودهم خرافى مثل وجودى .
كأنى وصلت إلى مكان أكثر إظلامآ . زاد ظلمة فوق ظلمة لا أدرى إن كنت أدخل أنا الظلام أم يبتلعنى الظلام . ضاق الفضاء الأسـود الجديد . كنت كأنى أتخطى بعضهم وبعضهم يتخطانى وبعضهم يكاد يلفحنى . صار الفضاء نفق أسـود متداخل كأنه يدور حولى . ترائى لى آخره لون داكن كلما صار أقرب تحول الى أحمر قانى كأمواج تتلاطم . على البعد تترآئى الأجسـاد كظلال فى ضؤ النور الأحمر وعنده تغيب وتتلاشى .
إعترتنى رجفة وزبزبات تأتى وتغيب مثل وخز الإبر . بدأت أحس بأصوات تأتى من بعد سـحيق . رنوت لها بوجود جديد. تملكت شـيئآ من عقلى . قاومت زحفى فأحسـت بأنى توقفت . بدأت أحس بالذين يتخطونى أكثر إدراكآ . قررت النظر خلفى . تأقلمت قليلآ بالجزء القليل العائد منى . أصبحت أدور ببطء كأنى أعوم فى داخل كائن بحرى لزج . كلما زاد إحسـاسى بلزوجته زاد ادراكى لوجودى . فى دورة كأنى أزيح جبل إلتففت حول نفسى .
آخر النفق الأسود فى الجزء الآخر هالة ضؤ بيضاء . يزيد إتسـاعها ويضيق كأنها تلتف حول نفسـها . تجمعت بكل ماتبقى فىّ أو بالأحري ما عاد إلىّ لكى أسـير نحو الضوء . لكنى تجمدت تمامآ . راقبت نفسـى و أنا أفقد إحسـاسـى وأصبح جسـدى يميل للأمام قليلآ ويدور كأنى أعوم فى الهواء الى وضعى الأسـبق الى الضؤ الأحمر بسـرعة أكثر من من دورتى للخلف . فقدت كل نفسـى وعدت فى إسـتسـلام تام .
صدى صرخة صاعقة شـقت روحى . ألتأم شـملى وشـعرت بأن لى عينان . صدى الصرخة الذى لازال يتلاطم شـق أذنى وكاد يفجر رأسى . تصلبت كل أعضائى وأنا أتابع رنين صدى الصرخة يرتطم فى أرجاء الفضاء . أحسـست أنى أألفه . تردد مبتعدآ وكأنى سمعته يردد أسـمى . قذفت بنفسـى جزعآ خلفه وغبت داخل الضؤ الأبيض. لم تكن خيوط بيضاء بل ضؤ سـاطع أري خلاله أشـباح تتحرك .
بسـكون صدى الصرخة تلاشى الضؤ الأبيض . إنقشـعت غشـاوة من عينى وتحلول الأشـباح أناس بملابس بيضاء يلتفون حولى ويحدقون بى . ناديت بغير صوت . أتوا إلىّ وتكلموا معى ولكن أذنى كانت صماء . أحدهم وضع أذنه على صدرى . تقدم إثنان أحدهم مسـك زراعى وأحدهم غطى وجهى بقناع شـفاف . لم أشـعر بملمسـهم على جسـدى . تعلقت عيناى على حاجز زجاجى كأنى أرى خلفه صديقى وزوجته يلتصقان به ينظران إلىّ . نظرت إليهما متوسـلآ و قليلآ قليلآ ضاعا منى .
أفقت فى غرفة سـاكئة وأنوار خافتة . حاولت الجلوس ولكنى كنت مكبل برزمة من الإسـلاك وحزمة من الأنابيب البلاسـتيكية . عدلت عن النهوض وأنا أشـعر بدوار فى رأسى . بإلتفاتة منى فزعت وأنا أجد إمرأة جالسـة قربى على كرسى وثير مسـتغرقة فى النوم . كانت فى رداء راهبة . تأملتها وهى نائمة تعلوا وجهها إبتســامة خفيفة . خطت السـنون بدون رحمة على وجهها ولكن لم تسـتطيع طمث جمال نضر ورثته من شـبابها .
غفوت وأنا أنظر إليها وأنا لا أدرى إن كانت فى حلمى . وعندما أفقت كانت هى تنظر الىّ . منحتنى إبتسـامة عزبة وأحتضنت كفى بكلتا يديها بقوة . تركتنى مسـرعة وعادت معها ممرضة شـابة . دخلت الممرضة مسـرعة وتخطتنى مراقبة عدة أجهزة فوق رأسى لم أنتبه إليها قبلآ . عادت وتناولت يدى من مرفقى وهى تراقب سـاعة يدها بإهتمام . نظرت إلىّ بإبتسـامة منتصرة وتناولت يدى بكلتا يديها وقالت بحرارة . (مرحبآ بك مجددآ)
تهللت الراهبة المسـنة وتناولت يدى وأخذت تترنم بنغمات ملائكية . إبتسـمت لها وأسـلمتها يدى كاملة . تزكرت أمى وهى تغنى لى وأنا طفل فخلدت إلى نوم عميق .
تناولت إفطارى تحت إلحاح الراهبة . كانت تسـاعدنى بتقطيع الخبز وطليه بالعسـل وتحضير كوب الحليب . سـألتنى فجأة بإهتمام . ( ما قصة صديقك الذى أتى هنا بمسـاعدتنا )
لم أسـتوعب جيدآ . شـرحت لى بأنى فى هذيانى زكرت لها بأن صديقى ممنون جدآ لهم ولم ينسـى أبدآ رعايتهم له . عرفت من تعنيه . عرفت منها بأنى قضيت معهم ثلاثة أيام لم أفيق فيها إلا يوم أمس .
حكى لى بأنه أخذ العصا من أمه وأخذ يجرى لا يلوى على شـئ . عند أطراف القرية قابلته إمرأة يعرفها عائدة من المدينة . كانت تحزره أمه من الذهاب الى هذه المرأة . وكان يذهب إليها سـرآ لأنها تحبه وتغدق عليه بقطع النقود الصغيرة . كانت قد فقدت صغيرها غرقآ فى النيل . وكانت تعلم أن أمه لا تحبها فحافظت على علاقتها به سـرآ . تمتهن تجارة الخمور البلدية ويقال أيضآ إنها تبيع الهوى .
قبضت عليه وهى فزعة تسـأله كيف تحصل على هذه العصا . حكى لها وهو يلهث بطفولة مرتبكة كل ما حدث . جزعت وأخذت منه العصا وخبأتها تحت ثوبها ومسـكت على يده وقفلت به راجعة الى المدينة . كانت على طول الطريق تتلوا بآيات وجمل منظومة بصوت كأنه العويل دون أن تخاطبه . وصلا مدينة مروى التى كان يراها لأول مرة . أثقل خطواته مترهبآ من المدينة منبهرآ بتزاحم الناس ومناداة الباعة داخل السـوق . صارت تقتلعه إقتلاعآ وتحثه على السـير بتوسـل حتى بلغا محطة القطار .
وقف مشـدوهآ ينظر الى ذلك القطار العملاق لا يرى له آخر . الدخان يتصاعد منه كثيفآ ويطلق صافرته بين الهنية والأخرى وصوت من الأجراس السـميكة . والناس يتصادمون فى عجالة . متراصون بين مودعين ومسـافرين . ويحشـرون أمتعتهم حشـرآ داخل القطر . وتختلط أصوات النحيب بالضحكات العالية يعتلى الفضاء مسـحة من الغبار العالق من كثرة الأرجل الزاحفة .
بجانب القطار جلسـت على الأرض وإحتضنته بعنف وهى تردد كلام منظوم أشـبه بالنحيب وهى تهزه يمنة ويسـرى يكاد يفقد أنفاسـه بين يديها . وكلما تلاحق صفير القطار إرتفع صوتها بالعويل . تحرك القطار ببطء وعلت أصوات المودعين وطرقعات قفل الأبواب . حملته عاليآ وقذفت به داخل القطار وقد علا صوتها بالنحيب . هرع الى النافذة ورآها جالسـة على الأرض تهيل التراب على رأسـها .
صار يتجول داخل القطار بدون هدى يطالع الناس وهم يرتبون فى أغراضهم المتكدسـة ولا أحد يعيره إهتمام . أخذ يتنقل من عربة الى أخرى وكلما توغل الى الأمام قل عدد الركاب وتبدلت مقاعدهم أكثر نظامآ وأصبح الناس يراقبونه كأنه دخيل غير مرغوب فيه . وصل الى عربة هادئة تمامآ أبوبها مغلقة ولا يوجد أحد فى الطرقة الضيقة أمام الكبائن المغلقة . سـمع صوت غناء جميل منظم صادر من إحدى الكبائن . وقف عند الباب ينصت بإهتمام وزاد فضوله ففتح الباب برفق . وجد فى الداخل أربعة سـيدات بيض البشـرة فى ملابس بيضاء طويلة وغطاء أبيض للرأس . صمتوا عن الغناء وهن ينظرن إليه بدهشـة . مدت إحداهن له يده تشـجعه بالدخول ولكنه فر هاربآ .
بعد عدة ساعات وكان عاد الى مؤخرة القطار وإختلط بإزدحام المسـافرين هناك شـعر بجوع شـديد وهو يرى إمرأة تطعم إبنها . جلس يرقبهم فلحظت ذلك إمرأة أخرى فأعطته قطعة من الخبز الجاف . جلس فى ركن يأكلها . لاحظ البعض وجوده منفردآ بدون مرافق . كثرت الهمهمات وحاول أحدهم إسـتدراجه بالسـؤال عن عائلته ولكنه التزم فقط الصمت وكان يتحين إنصرافهم عنه ليعود لقطم قطعة الخبز بيده . يبدو تدوال الناس الأمر وقرروا الإبلاغ عليه .
رأى عن بعد رجال قادمون فى زى مختلف أقرب للزى العسـكرى ومعهم ذلك الرجل الذى كان يحادثه . أحس بخطر وهو يرى تركيز أعينهم عليه فلاذ بالفرار . صغر حجمه وخفته سـاعدته فى تخطيهم وسـط تلاطم الأجسـاد الجالسـة على أرض القطار . وصل الى مقدمة القطار وتوقف يلقط أنفاسـه . سـمع همهمتهم قادمين فلم يتوانى أن يفتح كابينة السـيدات ويندس داخلآ ويقفل الباب . وجم النسـاء وهن يرون الرعب فى عينيه . خرجت إحداهن وأغلقت الباب خلفها . عادت بعد قليل وأبخفة رفعته فى سـرير علوى وغطته بمجموعة من الملابس . بدأن يتحدثن بلغة لم يفهمها ولكنه كان يعلم إنهن يختلفن عليه .
ربما نوع من الهروب من واقع مجهول إسـتغرق فى مخبأه لك فى نوم عميق . أفاق بصعوبة وإحدى السـيدات تهزه بشـدة . أحسـت براحة عندما فتح عينيه كأنها جزعت عندما لم يلبى ندائها . إعتنوا به حتى بلغ القطار الخرطوم وأخرجوه متخفيآ داخل ملابس أكثرهن بدانة حتى عربة تجرها الحصين التى كانت فى إنتظارهن .
شـب وترعرع فى مدرسـة الراهبات بالخرطوم وصار إسـمه (يورج) . تبنته إحدى السـيدات من بعثة تبشـيرية . كانت تسـكن فى منزل صغير هى ووحيدتها داخل حوش الكنيسـة . أخذته معها لدى عودتها وتحصل على تعليم مهنى وتزوج من إبنتها . أعطته العصا فى يوم زواجه وكانت تحتفظ بها منذ وصوله . وكانت العصا هى الجزور التى تربطه بأرضه بكل ما بها من مر الذكرى. سـألتنى الراهبة عن إسـمه الحقيقى . لم أسـأله يوم عن إسـمه الحقيقى ولا أعرف إن كان يتحدث العربية أو النوبية .
وأنا أبحث فى المحطات الفضائية كانت تزدحم بأخبار حادث إنفجار القطار . تم إعتقال عدد من المشـتبه بهم جلهم من أهل شـرق آسـيا .
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-20-06, 12:29 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | محمد مكى محمد | 11-20-06, 01:35 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-20-06, 03:43 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | ابراهيم برسي | 11-20-06, 08:29 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-21-06, 11:12 AM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-21-06, 01:29 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | Muna Khugali | 11-21-06, 01:39 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-21-06, 05:54 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-22-06, 08:52 AM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-23-06, 08:43 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-24-06, 03:57 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-26-06, 01:55 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-29-06, 11:04 AM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 12-03-06, 05:28 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 12-06-06, 09:06 AM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 12-12-06, 07:41 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | محمد مكى محمد | 12-12-06, 07:48 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | محمد مكى محمد | 12-12-06, 07:58 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 12-13-06, 06:29 AM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 12-20-06, 05:38 PM |
|
|
|