ونزعنا ما بأيديهم من أرض ، وأقمنا على النهر سداً (آية من ثورة الشمال)

Quote: كتب : عبد الناصر فقيري الأرض الضيقة كان مرتعنا ونحن صبية ... ينحصر بين جنابي الجدول الكبير في اللفة الشهيرة عند المنعطف وهو يغادر ساقية أبناء واوة متجها غربا ليحتل الجزء الأكبر من ساقية أبناء فقير عمارة في تلك البقعة الفسيحة الممتدة إلي شاطئ النهر كان عمي حمزة يرحمه الله يرعى حديقة مانجو غناء ... ونخلات عمي صديق الباسقات .. تتمايل طربا مع نسائم النيل وصوت مياه النهر المرتدة من حجارة البابور القديم .. كانت تلك الأرض الخصبة مسرحا لكثير من الزراعات البستانية . وكنا نشاهد أحواض الباميا والجرجير وبعض شجيرات الطماطم .. وكان ما يميز تلك المساحة قربها من شاطىء النهر وامتداد الأرض بالتدرج نحو الماء وعندما يفيض النهر ويجود بطميه في تلك النقطة ... كان عمي يسارع في زراعة اللوبيا والترمس وبعض البقوليات سريعة النمو والنضج وكانت جدتي رحمها الله تتحين الفرص حتى يستقيم عود ما زرعوه وينضج فتسارع في جنيه وتجميعه .. وكنا حضورا لكرنفالات الحصاد هذه حتى تتحول كل تلك الجهود إلي حبوب بيضاء نظيفة مفروشة في سوق القولد وجدتي تجلس خلف بضاعتها مزهوة هذا وقد تبدل الحال ورحل الخير مع الأجداد الذين توسدوا أرض ال########ة القديمة حول ضريح حسن أوبا ... فقد أغار النهر ونقض اتفاقه مع أجدادي البسطاء وأعمل معول الهدم في تلكم البقعية وبدأ أولا باكتساح حجارة البابور القديم وحرم نخيلات عمي من سيمفونيتها المحببة .. وتبدل جريدها الأخضر اليانع إلي أوراق صفراء ذابلة ... يخيم عليها خيوط العنكبوت وبقايا حرب الحشرة القشرية وتكالبت المصائب علي رقعتنا المحببة .. وفي آخر زيارة وجدت أن النهر مد لسانه إلى حافة انحناء الجدول الكبير وضاعت الرقعة القديمة المنتجة .. وتبقت بعض المساحات الضيقة المليئة بشجيرات الهشاب الشوكية العجفاء . ورغما عن مكابدة أبي لغرس بعض شجيرات النخيل لتعويض الفاقد الأكبر إلا أن النهر لا يلبث أن يغير سنة بعد أخري طامسا كل الرسم الذي يرسمه والدي علي ما تبقي من تلك الأرض . بيد أن جل ساكني تلك الأنحاء ومنذ عهود طويلة ... ومنذ حياة أجدادي الراحلين كانوا يحلمون بالأرض الممتدة غرب قريتهم .. وكانوا يعيشون سنة بعد أخري يحلمون بالمشروع الكبير المسمى بمشروع غرب القولد الذي وعدت الحكومة بتنفيذه من منتصف القرن الماضي ... وكان هذا الحلم يكبر ليصغر مرة أخري ... كلما رحل فرد منهم ... وكانت الأحلام تراود شباب البلدة الذين بدأوا فرادا وجماعات في مغادرة بلدتهم كلما ضاقت الأرض وامتدت الأسر .. علي أمل العودة وقد جمعوا ثمنا لطلمبات ماء حديثة يفلحون بها تلك الصحراء بعد أن يئسوا من نجدة تأتي من قبل الحكام وامتدت السنون وبينها كان بعض المغامرين يقومون بإنشاء مشاريع صغيرة في تلك الأنحاء تسمى بالمترات أخذت كل مدخراتهم وجهدهم بل أخذت حياتهم أيضا ورحلوا مع الراحلين إلي فناء ال########ة القديمة .. واليوم وقد استبشرنا بإنشاء سد القرن في مروى .. وكبر حلمنا أخيرا بأن ينساب الماء عذبا ... ليروي تلك الأرض العطشى وتلك الأفئدة الحالمة .. ويسارع الأهل إلي صناديقهم القديمة للبحث في أوراقهم المربوطة بخيوط الدوبارة ليوم أبيض انتظروه ... ليحيوا حيازاتهم التي دفعوا فيها مدخراتهم مستبشرين بقدوم الماء والكهرباء ... للبدء في تنفيذ مشاريع الحلم القديم ... ويزداد الحلم بعودة أبناءهم المغادرين إلي بقاع الأرض المختلفة ... يتبدد الحلم ويصطدم بصخرة قرارات وفرمانات .. تدعو إلي سحب تلك الأرض من أقدام مالكيها ... وتدفع بها إلي جهات لا صلة لها بتلك الأرض ولم تحلم يوما في منامها أو يقظتها في أن تطأ إقدامهم عليها ... يا من بيده الأمر ... أجعل تلك الأرض لمستحقيها ... أجعلها لمن ظلوا يحلمون بها ... حقق لهم الحلم الطويل الممتد منذ زمن الأجداد ... رحمة بنا نحن أولادهم المهاجرين ... فنحن نرغب أن نعود ... ونرغب أن نحقق حلم كل الذين يتحلقون حول الدومة القديمة ... في تلك ال########ة الملكية ... نريد أن نضع عصا ترحالنا .. لننعم بما تبقى من عمرنا .. بجانب أحبتنا .. نرغب فقط أن نشارك في تشييع من يرحل منهم ... ونضعهم في قبورهم ... غير ان نسمع برحيلهم عبر جهاز هاتف محمول .. لنجلس سويعات نبكي ونترحم عليهم تحت جدران غرف أسمنتية بلهاء تنظر إلينا بكل ريبة .