جبر.. موسيقى الألوان

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-27-2024, 04:59 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة نهال كرار(نهال كرار)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-14-2007, 11:59 AM

نهال كرار

تاريخ التسجيل: 01-16-2005
مجموع المشاركات: 3337

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: جبر.. موسيقى الألوان (Re: نهال كرار)



    كانت البداية بالغة الصعوبة، مليئة بالمعاناة و القلق، هذا عدا عن الحنين الذي أخذ ينغل في قلبه، نتيجة الصغعوبات المادية، و نتيجة حاجز اللغة، و أيضاً بسبب المواصفات المطلوبة في رسام الساحة، من حيث قدرته على رسم البورتريه أو الرسم الكاريكاتيري الذي يرسمه. كان يتلقى ألف لير إيطالي مقابل البورتريه، و يكتفي بثلاثمئة لير مقبل الكريكاتير. و هذا النوع من العمل، بالإضافة إلى ما يتطلبه من وقت و جهد، فإنه يترك تأثيره على طريقة الفنان في الأعمال الأخرى، هذا إذا تبقى لديه فضلة من وقت لمثل هذه الأعمال.
    ورغم مشقة الحياة، خاصة لرسام في الساحة، فإن روح الفنان إذا كانت متيقظة داخله، و متطلبة، فلابد أن تجد طريقها، و أن تتمكن في النهاية من الوصول، خاصة وأن البيئة المحيطة توفر الكثير من العناصر.
    لن يتاخر جبر في الإنتساب إلى كلية الفنون في روما، و سوف يواصل دراسة النحت أولاً بإشراف جريكو حتى عام 1975، ثم يدرس الرسم بإشراف جنتليني حتى عام 1978،
    وخلال ذلك تتاح له الفرصة ليقضي أوقاتاً مديدة في المتاحف، و في الساحات المليئة بالمنحوتات، سوف يزور المدن. المتاحف كفينيسيا و فلورنسا، و ستكون السينما أحد أبرز اهتماماته، خاصة من خلال متابعة أعمال المخرجين الإيطاليين العظام مثل بازوليني و فليني.
    و إذا كنا قد أشرنا إلى مشقة العمل في الساحة، فقد استطاع جبر أن يصرف جهداً مضاعفاً، لكن خلال فترة محدودة، تكون كافية لتامين متطلبات الحياة، لكي يصرف باقي الوقت من أجل مواصلة الدراسة و التفرغ للعمل الفني الحقيقي، و بهذه الطريقة سيتمكن من إقامة أول معرض له عام 1975، ثم يتبعه بعدد من المعارض الأخرى، بمعدل معرض كل سنة تقريباً، و حتى عام 1979، ليتوقف فترة من الزمن، ينشغل خلالها بمعارض مشتركة، و ينصرف أيضاً إلى العمل العام.
    إن المرحلة الإيطالية. إذا جاز لنا أن نقسم أعمال جبر إلى مراحل، هي التي اكتشفت الفنان داخل جبر علوان، و هي التي صقلته. لذلك فهو يجيب حين يسأل عن تأثير إقامته في روما على فنه: " الإيطاليون هم الذين اكتشفوا أنني فنان، و هم الذين دفعوني إلى العمل الفني". قد تكون مثل هذه الإجابة اعتراف بالجمبل، و للتدليل أيضاً على مدى الغنى الذي اكتسبه من خلال إقامته في روما. لكن من المؤكد أن الفنان الهاجع داخله كان بحاحة إلى تحريض لكي ينطلق ثم ليتوهج، و كانت روما، بعد بغداد، الحاضنة ثم مفجرة الشرر، خاصة و أن علاقاته مع الوسط الفني الإيطالي أخذت بالتزايد و الإتساع، و أصبح جمهوره بالدرجة الأولى، جمهوراً إيطالياً، و إليه يتوجه، و إن يكن بلغته الخاصة، التي تميزه عن الفنانين الإيطاليين، كما يعترف و يؤكد النقاد الذين تناولوا أعماله.
    المرحلة الإيطالية إذن هي المرحلة الأهم و الأبرز في مسيرة جبر الفنية، إذ ساهمة بإعداده، كما أتاحت له فرصة العرض. و بتتابع العروض، و الرغبة باقتناء أعماله من قبل متذوقين، أو جامعي الأعمال، أصبح إعتماد جبر أقل من قبل على الساحة، و تلبية رغبات السواح أو العابرين، كما أصبح يعطي وقتاً أطول و اهتماماً أكبر لكي يتكرس كفنان، و من خلال اللوحات التي يرسمها في مشغله.
    إن اتساع صلاته بالمناخ الإيطالي، لم يقلل و لم يضعف صلاته بالمناخ العربي، العراقي تحديداً، إذ بقي على علاقة بأصدقائه المقيمين في إيطاليا، يلتقي بهم، و يشترك معهم في معارض جماعية، و يتبادل معهم الأفكار و الهموم، و ما يجب أن يعمل من أجل إبراز الفن العربي، العراقي تحديداً. كما توثقت علاقاته بمجموعة من الفنانين العراقيين المقيمين في أوروبا، فرنسا و هولندا و ألمانيا، و تكون ما يمكن تسميته: الفن المهاجر.
    عدة سنوات من الاستغراق في العمل العام، ينقطع جبر خلالها عن إقامة معارض خاصة، لكن لا ينقطع عن إعادة النظر بأعماله التي أنجزها، كما يحاور نفسه و الذين حوله عن الدور الذي يجب أن يضطلع به الفنان، خاصة التشكيلي، و يتابع الانجازات الفنية و المعارض الاستعدادية للفنانين الكبار، و يتأهب في ذات الوقت لانطلاقة جديدة. لقد كانت هذه السنوات. رغم أنه لم ينجز خلالها الكثير، هامة في حياته و مسيرته الفنية، لأنها كانت سنوات التأمل و الأختبار، و من ثم الوصول إلى أسلوبه الخاص. إن وصول الفنان إلى أسلوبه خطوة متقدمة في رحلته الفنية، لأن الأسلوب هو الشخص، كما يقال، أو هو الملامح التي تميزه عن غيره، تجعله هو نفسه و ليس فناناً آخر، مهما برع في تقليده. فالأسلوب هو ثمرة جهد متواصل و تأمل طويل، و هو الخلاصة أيضاً لهذا الجهد و لهذا التأمل.
    صحيح أن الفنان الحقيقي لا يكف عن التطور، و قد ينتقل من مرحلة إلى أخرى، تتغير فيها ألوانه أو ضربات فرشاته، وقد يمييل إلى المساحات الكبيرة بعض الأحيان، و إلى الصغيرة أحياناً أخرى؛ وربما ينوع بالمادة التي يستعملها تبعاً لأعتبارات يريدها أو يقدرها. و قد يلجأ إلى تجارب جديدة و مواد جديدة، لكنه في كل هذه الحالات يبقى هو نفسه، و تشي به، دون جهد كبير في معظم الأحيان، أمارات تدل عليه، حتى لو لم يوقع لوحته.
    عاد جبر بعد فترة الإنقطاع إلى العرض، و إذا ظل في أكثر معارضه السابقة يحاور جمهوراً إيطالياً، وانتزع اعتراف عدد من نقاد الفن الإيطاليين، و نال أيضاً جوائز فنية، فقد أخذ في مرحلته الجديدة يتطلع إلى العرض خارج إيطاليا، و هكذا بدأت معارضه تتوالى في فيينا و لييج و لندن و دمشق و عمان و مدن أخرى. أما المعارض المشتركة فقد وصلت إلى الكثير من المدن الأوروبية.
    و تجدر الإشارة هنا، و قبل الإنتقال إلى الحديث عن الجانب الفني في أعمال جبر، إلى أن عدداً من أعماله احتل مكانه في متاحف أوروبية، خاصة إيطالية، وفي متاحف عربية. كما تجدر الإشارة أيضاً إهتمام جبر المتزايد بإقامة علاقة و حوار بين الفنانين العرب في الوطن وزملائهم في المهاجر التي يقيمون فيها، و ان تنظم معارض هنا و هناك، إذ عن هذا الطريق يمكن أن يخلق التفاعل، و تمد الجسور، و يتم التأثر و التأثير، و الذي من شأنه أن يغني الطرفين، خاصة و أن الهجرة الإلزامية قد طالت بالنسبة لعدد كبير من الفنانين، وأخذ الوطن يصبح بعيداً أو حتى مجرد ذكرى، بعد أن تتالت السنوات دون أن تتاح لهم فرصة العودة من جديد.
    لا تهدف هذه الدراسة إلى تناول كامل أعمال جبر علوان، منذ بدايته الأولى و حتى الآن. إن هدفها، بالدرجة الأولى، وغالباً، يقتصر على الأعمال المرافقة، للأن المطلوب، وربما الضروري، تناول أعمال محددة يمكن رؤيتها و التعامل معها، و بالتالي تساعد على فتح حوار حول هذا الفنان الذي يشكل إضافة نوعية في الفن العربي المعاصر، و الذي استطاع إثبات وجوده في إيطاليا أولاً، ثم في الأماكن التي عرض فيها أعماله، كما يعد أيضاً باحتمالات و آفاق هامة، خاصة و أن لديه الرغبة في الانخراط بأعمال فنية قد تطل على المسرح، وربما وسائل تعبير أخرى.
    أشرنا من قبل أن جبر، في معهد الفنون الجميلة ببغداد، ثم في أكادمية الفنون بروما، درس النحت، وأن بداية اختباراته الفنية، و كان لما يزل صغيراً، و يعيش إلى جانب النهر: كتل الطين، و كيف يحولها إلى تماثيل و أشكال، كتعبير عن هذا التوق الداخلي لخلق أشكال فنية.
    هذه البداية، ربما لسهولتها، باعتبار أن الطين المادة الوحيدة المتاحة، ثم ذلك المخزون في الذاكرة، و حتى في اللاوعي، و الذي تصطدم به العين أينما اتجهت في العراق و أجزاء أخرى من المنطقة، من تراكم الآثار و الأوابد و المدن الميتة، و التي تظهر على سطح الأرض على شكل منحوتات و كتل، خاصة في مكان شديد القرب من جبر، بابل، و ما يتولد نتيجة ذلك من تحريض و رغبة بالمحاكاة. و أيضاً الإنجازات الفنية في العراق الحديث، و المتمثلة بالمنحوتات و النصب و العمارة، و بشكل خاص نصب الحرية، الذي أنجزه جواد سليم، و أصبح أحد أهم المعالم في بغداد المعاصرة، و كان موضع اهتمام كبير لدارسي الفن و المتذوقين إضافة إلى الجمهور، خاصة بالموقع الذي يحتله كبوابة جديدة لكل داخل إلى بغداد... هذه العناصر، و ربما أخرى أيضاً، بما في ذلك الاستعداد الجسدي، جعلت جبر يمييل، بداية، إلى النحت، كتخصص دراسي.
    يذكر جبر أن أول ما لفت نظره، واستوقفه، لما وصل إلى بغداد للدراسة: منحوتات جواد سليم.
    وجواد سليم بالنسبة للفن العراقي المعاصر، و العربي أيضاً، واحد من أبرز المجددين و المؤصلين لهذا الفن، من حيث الإنجاز و التنظير، ومن حيث ربط هذا الفن بجذوره التاريخية، سومرية بابلية، ثم عربية إسلامية. يضاف إلى ذلك أن مرحلة جواد، و الفترة التي تلتها، كانت من أخصب مراحل الفن العراقي، تظراً لما أثارته من اهتمام تجاوز الوسط الفني إلى جمهرة كبيرة، خاصة وأن الإنجاز الفني الذي ساهم فيه الكثيرون كان يؤكد خصوبة هذه المرحلة، و يقدم الدليل على ذلك.
    ليس غريباً، إذن، أن يختار جبر النحت، و أن يواصل الدراسة في هذا الحقل حتى في روما. و لكن هذا الفنان الذي اختار النحت لم ينحت إلا قليلاً. فقد استبدل الأزميل بالريشة، و استعاض عن الحجر و البرونز بالقماش و الألوان. و إذا كان من المفيد في وقت لاحق تقصي أسباب هذا التحول، فإن ما يراد لفت النظر إليه هنا، هو أن روح الكتلة ظلت موجودة في رسوم جبر. بل أكثر من ذلك : إن رائحة التراب، و ربما الطين القديم، لا تزال تعبق من عدد غير قليل من لوحاته. إن جوديا ، مثلاً، بجلسته القوية، و القلقة بنفس الوقت، يمكن رؤيته في لوحة الوجه الآخر للسلطة المرسومة عام 1980، و كذلك في لوحة الدراجة المرسومة عام 1984، و يمكن أن يتكرر الحال في لوحات أخرى كثيرة أيضاً، و في مراحل متلاحقة.
    لا يعني ذلك مأخذاً، و إنما طريقة في العمل الفني، خاصة و أن عدداً كبيراً من الفنانين جمع بين النحت و التصوير، و لعل جواد سليم يكفي كمثل في الإيطار العربي.
    في لوحة جبر ثمة مركز، و هو الذي يشكل الثقل الأساسي فيها، أما الأجزاء الأخرى، فتمثال الفراغ بالنسبة للعمل النحتي، أي تتوزع و تتناغم لتخدم المركز، و من أجل أن يكون في أقوى و أجلى حالاته، فالكتلة التي تبرز، لا بد ان تكون في الموقع المناسب، أن توضع في المكان الذي يلائمها، و هذا ما يجعل النظر يتركز في لوحة جبر على البؤرة أولاً ثم ينسحب تدريجياً إلى الجوانب، لكي يربط الأجزاء ببعضها، و ليكشف الصلة بين هذه الأجزاء، و بالتالي مدى ترابطها و انسجامها.
    و لأن روح الكتلة، في اللوحة، تتمتع بهذه الأهمية، فإن الأمر يشبه التعامل مع مادة النحت، تشذيباً أو بالإضافة. فحيث تكون هناك ضرورة للحذف، للتخلص من الزائد، لا يتردد جبر في أن يحذف، و حين تقضي الضرورة بإضافةٍ هنا أو هناك يفعل. كل ذلك من أجل أن يكون حتى الفراغ في خدمة البؤرة أو مركز الثقل.
    يضاف إلى ذلك، ومن روح النحت ايضاً، أن الكتلة التي يتعامل بها النحات، خاصة إذا كانت من الحجر و الخشب، تكون كبيرة، ثم يبدأ إختصارها و تشذيبها تبعاً لما يريد أن يخلق منها.
    جبر وقد استبدل المادة و أداة التعبير، استعاض عن ضخامة الكتلة باتسلع اللوحة، ولعله من الفنانين العرب القلائل الذي يتعامل مع لوحات بهذه المساحة، و يجد فيها نفسه. إذ العادة أن يلجأ الفنان إلى اللوحة الصغيرة، نسبياً لكي يسيطر عليها، و يحسن ترويضها و التعامل معها.
    جبر يفعل العكس تماماً، إذ في المساحة الكبيرة يتحرك بكفاءة و حرية، الأمر الذي لا نلمسه بنفس الحيوية، أو بنفس المقدار، في اللوحات الصغيرة.
    لا يراد هنا المفاضلة بين لوحة و أخرى تبعاً للمسافة، فلجبر لوحات متوسطة المساحة تتجلى فيها حرفية النحات، و مثال على ذلك لوحة الشيخ المتسكع إذ تبدو الشخصية و كأنها مقدودة من المرمر الأسود أو مصنوعة من البرونز، خاصة و أن طريقة بناء اللوحة تقييم صلة قوية بين الشخصية، أو التشخيص الموجود في اللوحة و بين الفضاء المحيط بها، و كأن الفضاء، خلق، كمكان، لاستقرار التمثال و ثباته. حتى الألوان التي تم اختيارها فقد كانت مشتقة من اللون الأسود، بعد أن داخله البياض، ليصبح لوناً مساعداً لإبراز الحدود، أكثر من إبراز الملامح، و كأننا نشهد في عتمة أول المساء تمثالاً تسلط الضوء على الجزء الأعلى منه فقط ليتوهج و يشتعل. و كذلك الأمر بالنسبة للوحة الموقدن و هي بمساحة 50*70 سواء بطريقة بناء اللوحة أو اختيار المكان، إذ يتبين و كأن الأمرين نابعان من رؤية النحات بدرجة أولى.
    و إذا كنا قد مّيزنا إحدى صفات جبر بإتساع مساحة اللوحة، فيمكن أن نضيف هنا، و استطراداً، أن لديه طموحاً أن يجد الفرصة مستقبلاً للمساهمة في رسم جداريات أو ديكورات لأعمال مسرحية يكون فيها الفن التشكيلي جزءاً من بنيتها، كصيغة من صيغ التلاقي و التفاعل بين أدوات التعبير، و إقامة الجسور فيما بينها.
    هذه الصفة، أو هذه الخاصية النابعة من النحت، تتجلى في عدد غير قليل من أعمال جبر، و تقدم الدليل على إمكانية استخدام الصفات الإيجابية لفن و توظيفها في فن آخر. فالكتلة أو الحجم الذي يحتل الجزء الأساسي في اللوحة تتفرع منه الإشعاعات، إذا صح التعبير، أو الأجزاء، لتصبح مستقلة عن الكتلة و مرتبطة بها في نفس الوقت، مع مرونة عالية في الاستخدام قد لا نجدها عند الآخرين.
    إن اللوحة هنا ليست حصيلة جمع الأجزاء، و إنما علاقة الأجزاء بالمركز، و علاقة الأجزاء ببعضها، بحيث أن أي اختلال في البناء أو العلاقة يضعف اللوحة كلهان و قد يهدمها، هذا يقتضي معرفة عالية، و حرفية متقدمة، في تحديد العلاقة بين المركز و الأطراف، و كيف يجب أن تتساند و تعزز التناغم الذي يربط فيما بينها.
    النحات قبل أن يعمل إزميله في الحجر لابد أن يعرف طبيعة المادة بين يديه، و ما تحتمل من ضغط و شد و علاقة بين الأجزاء، غير واضحة، لكن ما أن يواصل السباحة، العمل، حتى تتحدد الأشكال و تتضح العلاقات، و هذا يتم تدريجياً، بالتراكم، باستمرار العمل، و أيضاً بالخبرة المستمدة من التجربة الطويلة و المعاناة، تماماً كما يفعل البدوي و هو يلتمس الماء في الصحراء، إذ عليه أن يحسن الإختبار، مدفوعاص بغزيرة البقاء، إلى أين يجب أن يتجه، مستهدياً برائحة الهواء و رطوبته، و بحركة النجوم. إنه يفعل ذلك بحدس داخلي يشير دون أن يقول.
    يذكر جبر أنه حين يبدأ العمل و يواجه القماشة البيضاء يبدأ دون مخطاطات سابقة، دون دفتر يوميات، وبعض الأحيان دون فكرة، أو دون فكرة واضحة، لما يجب أن يرسم، لكن ما أن يبدأ اشتباكه مع الألوان، و العادة أن يفرش منها مقادير كبيرة، و ينظر إلى بياض اللوحة، حتى يصاب بحالة من الانفعال أقرب إلى الهياج، إذا صح التعبير،و يشرع في الرحلة. أنه يعمل، في المرحلة الأولى، بسرعة كبيرة، بتدفق لا يقوى السيطرة عليهن و كأنه الحمى. لكن ما تكاد الأشكال و الألوان و الأجزاء بحوار من أجل أن تتناغم، أن تتكامل و تترابط، لتصل اللوحة إلى الهارموني الذي أشرنا إليه من قبل.
    هكذا تبدأ رحلة اللوحة. لكن هذا لا يعني أن كل لوحة يجب أن تسلك الطريق ذاته، أو تمر بالمراحل نفسها، لأن الحالة النفسية هي التي تملي، بالدرجة الأولى، طريقة العمل، و تحدد مدى الرؤية، و ما يجب إختياره من ألوان و أشكال. كما أن هناك لوحات تكون مرسومة، أو مرسوماً الجزء الأكبر منها، في الذهن أو في الذاكرة، و ما على الفنان إلا أن يظهرها،
    و التظهير ذاته علاوة على البراعة التي يقتضيها، فإن اختيار الإضافات، و في المراحل المتعاقبة، أمر بالغ الأهمية لكي تأخذ الصورة روحها.
    قدر لي ان أشهد جبر يعمل. ورغم أن الفنان، تقريباً، يحرص على سرية لحظة الإبداع، إذ يرغب أن يكون وحيداً، غير مراقب، فقد رأيت أمامي طفلاً يلعب. كان و هو يمزج الألوان، و هويقبض على الفراشي، و حين تتوالى ضرباته على سطح اللوحة، حين يتقدم أو يتأخر‘ و يفعل ذلك كثيراً، للتأكد من الأشكال و الألوان، كان ، ورغم إحساسه بوجود آخر، أنه مراقب، طفلاً يلهو، يلعب ، يدندن، يشجع نفسه، يضحك، و بعض الأحيان يشتم، فجأة يتوقف، و فجأة يعود إلى اللعب.
    يذكر جبر أنه يشعر بالضيق و القلق، بقيود تكبله، في حال وجود أحد و هو يرسم. حتى ربيع، زوجته التي رافقته في شتاء 1996 إلى دمشق، و حين حول سكنه إلى مرسم، و أنجز أعمالاً هامة، بما فيها بورتريه لسعد الله و نوس، كان يضطرها بشكل جميل، إلى مغادرة البيت، لكي تتاح له أقصى حالات الحرية أثناء العمل.
    يراد من هذه التفاصيل الصغيرة تأكيد أن الحرية في اللعب تكتمل حين ينطلق اللاعب على هواه، بلا خوف، بلا قيود ، و من أجل المتعة أيضاً، و هذا بالنسبة للفنان، لايتحقق إلا حين يكون وحيداً.
    إذا كان الفنان يؤثر الوحدة حين يعمل، يتبادر إلى الذهن مباشرة سؤال: لماذا تقتصر معظم لوحات جبر على شخصية واحدة؟
    يتأكد لنا ذلك حين نقلب الكاتولوجات التي بين أيدينا، بما فيها لوحات هذا الكتاب، أن نجد الغالبية العظمى من اللوحات تحتضن شخصية واحدة، و هذه الشخصية بالإضافة إلى وحدتها، فإنها تمتلىء بالشجن، إذا لم يكن بالحزن العميق، رغم محاولات الفرح التي تتظاهر، خاصة من ناحية الألوان.
    إن هذه الحالة تتكرر بشكل لافت للنظر: الوحدة و الحزن.
    و يحاول جبر، و ببراعة ملفتة، من خلال تغييب الملامح، او من خلال إطفائها، أن يبعد عن أنظارنا مسحة الحزنن أو أن يوهه، لكن إذا لم نستطع أن نكتشف الحزن في العينين فوراً، فإن الكثير من الإشارات و القرائن تشي به، تدل عليه: وقفة المرأة المتعبة؛ الانتظار اليائس؛ الأكتاف المتهدلة؛ الرأس المائل؛ حركة اليدين أو القدمين؛ هذا اليباس في الروح الذي يتخفى لكن لا يختفي؛ كل هذه القرائن، و غيرها، تؤكد الحزن، تجعله قوياً حين نمعن النظر، حين ندقق في الشخصية التي نراها.
    حتى لحظات المتعة، لقاء إمرأة و رجل، و التي تتجسد في عدد من اللوحات، و قد لا يخلو بعضها من شبق، فإنها لحظات مسروقة، ملتبسة، و كأنها، بمعنى ما، الاستثناء في هذه الحياة، لأن الحزن هو الأقوى، هو الباقي.
    في الرقص ، و الرجل بعيد، أقرب إلى الغياب و التجاهل. أليس في هذا دليل كافٍ على مدى حزن تلك المرأة؟ و في لوحة، ورغم العري و شبق الرجل، فإن وجه المرأة يوحي أنها تغتصب، و كذلك الأمر في لوحة عطيل و دزدمونه ليس معنى ذلك أن المرأة وحدها فقط الحزينة، في لوحات جبر، و إنما هي الأكثر حزناً، و إن كان الرجل حزيناً أيضاً، لكن الرجل يواري حزنه بالجهامة، بالقوة العضلية، و يحاول تأخير الاعتراف بحزنه و انكساره، في الوقت الذي تبدو المرأة أكثر شجاعة و هي تعترف. حتى لوحة الجواهري، و ما تتسم بها ملامحه من كبرياء، فإن في العينين حزناً، و هما تنظران إلى بعيدٍ مجهول و ربما عصي، و ما يؤكد ذلك أكثر حركة أصابع اليدين التي تحمل ما يفيض عن التساؤل، إلى الحيرة.
    و إذا تأملنا اللوحة التي رسمها جبر عام 1995 بعنوان " تانغو"، و ما تحمله السيقان من رشاقة، فإننا نلاحظ هذه السيقان تغادر، تنسحب، و كأن اللعبة في نهايتها أكثر مما هي في حالة إقبال و فرح. و حين تنسحب أنظارنا إلى المرأة في اللوحة التي تقابلها، نجد الحزن كله مجسداً بتلك الوقفة اليائسة التي تقفها المرأة، و هي على يقين أكيد أن لا أحد سيأتي، و أن لا فائدة من الانتظار.
    حتى البياض الذي يسربلها و يمتد أمامها و ترتمي أجزاء منه على يسارها و بالقرب من القدم اليمنى فإنه بياض الأكفان أكثر مما هو بياض ثوب الزفاف.
    الوحدة و الحزن، إذن، من المعالم التي تميز الكثير من شخصيات جبر. و إن نظرة مدققة لما يعتبر إقبالاً على الحياة أو فرحاً في بعض اللوحات، نكتشف أن وراء ذلك قدراً كبيراً من القلق و الحزن، و اللوعة، و حتى الجنون. قد يختبىء القلق أولاً يظهر الحزن مباشرة، لكن النظرة الثانية تشي به و قد تكشفه.
    أتذكر رأي سعد الله و نوس حين جرى الحديث عن البورتريه الذي رسمه له جبر، قال: إن جبر التقط و سجّل اللحظة الحرجة: لم يلتقط حالة المرض، لكنه لا يؤكد حالة العافية، لأنه لم يكن متاكداً، و بالتالي طرح سؤالاً، و كان يريد أن يشرك الآخرين في الإجابة عليه.
    ما يساعد جبر على تسجيل مثل تلك اللحظات الحرجة، هي لحظات الانتقال و التحول، تلك الغمامات الخفيفة، و التي تشبه الدنتيلا، التي يسدلها على شخصيات لوحاته.
    ألمحنا سابقاً أن النور المبهر، التشبيه بالوهج، الذي يملأ العراق، و الذي ملأ طفولة جبر، لا يمكن التعامل معه إلا من خلال ساتر يكسره أو يخفف من حدته، و هو ما اتبعه معماريون عراقيون مثل رفعة الجادرجي، و إن مثل هذا المقدار من النور يصعب التعامل معه في اللوحة، و لأن جبر يريد أن يبقي جزءاً من العواطف و الرجفة الداخلية التي تعتمل في قلوب الشخصيات التي سجلها في الظل، أو غيرعارية تماماً، فقد لجأ إلى المكر الفني، بأن جلل تلك الشخصيات بالدانتيل، أي أبقى مساحة من ملامحها في الظل، فنحن لا نرى عيون، و لا انفراج الشفاه، كما لا تلتمع رمانة الكتف في نصف العتمة التي يقصدها بمثابرة. لذلك يجعلنا ندقق، نمعن النظر، و يجعلنا نتساءل أيضاً. و هكذا يصبح المتلقي، المشاهد، جزءاً من اللوحة، لأن اللوحة أصبحت سؤالاً، و هو مدعو للمساهمة في الوصول إلى جواب على هذا السؤال.
    و هنا نصل إلى المحطة المركزية في رحلة جبر الفنية: اللون.
    العين هي النافذة التي نطل من خلالها على العالم المحيط بنا، و هذا العالم يتألف، قبل كل شيء، من الأشكال و الألوان، ثم تأتي الأمور الأخرى. لذلك يجب، بداية، التعامل مع هذا العالم بالنظر إليه، برؤيته، و بحالته القائمة، أي كمعطى بصري، ثم تأتي بعد ذلك العلاقات و الرموز و التفسيرات. و إذا كانت للوحة مميزات تلتقط بالعين، فيذكر جبر قولاً قديماً : " أن الشاعر اعمى و الرسام أخرس، و أنا مع هذا الرأي ط أي أن الرسام يرصد العالم بعينيه. و هكذا استبدل الكلمات بالأشكال و الأصوات بالألوان، لتكون هذه " كلماته" أو طريقته في التعبير، دون إحالة إلى شيء آخر، لأن الشيء الآخر، مهما كان بليغاً، أو واضحاً، فأنه يختلف بالضرورة عن الأشكال و الألوان، أو هو ليس إياها، و بالتالي بمقدار ما يهدف إلى توضيحها، أو ينوب عنها، فأنه يقود إلى الخطأ، أو لا يوصل إلى حيث يجب الوصول. و لأن جبر منجم من الألوان، فإن الطريقة التي خاطب بها العالم تتم عن طريق اللون و الشكل. يقول داريو ميكاكي، أحد أبرز النقاد الإيطاليين، و قد تابع أعمال جبر لدى الفنانين المعاصرين بحوث غنية عن موسيقى الألوان. جبر يمتلك هذه الموسيقى، و يعرف تنظيمها و تركيبها حسب أسلوبه. فلو أعدنا النظر في لون أحد رسومه، و ليكن الأخضر مثلاً، فسنجد أن هذا اللون لا يتكرر ثانية على الإطلاق و معنى ذلك أن الإنسان لا يستحم في النهر مرتين، على قول أفلوطين، لأن اللون نفسه يتغير تبعاً للحالة النفسية، للموضوع، للعلاقة بين أجزاء اللوحة، و بين ألوانها.
    إن جبر و الألوان حالة خاصة بين الفنانين العرب، إن لدبه مخزوناً لونياً استثنائياً قلما نجده عند غيره. و إذا كانت محافظة روما قد منحت جائزتها لجبر عام 1985، فسبق أن منحتها لفليني، و كان جبر الأجنبي الأول الذي يحصل عليها، و قد منح تلك الجائزة بصفته ملوناً، أي أن لديه حساسية للون تميزه عن غيره من الفنانين، و كما يقول داريو : " جبر و هو يبدع أشكاله شيء عميق، مأساوي و مختصر، و كل ذلك يحدث ضمن إحساس عميق باللون، ذلك الإحساس الذي لا يمكن مقارنته أو العثور عليه لدى أي من الرسامين الإيطاليين" ، فاللون يبدو و كأنه ينبض على السطح من الشكلن مثل إنفجار بركاني ينبع من فوهة سرية.
    ألوان جبر خلاصة للذاكرة و الرغبة، و هي رؤيته لما يجب أن يكونه الواقع أكثر مما هي تصوير لهذا الواقع، كما أن هذه الألوان سلاحه من أجل عالم أكثر جمالاً و أكثر انسجاماً و إنسانية، لأن ألوان العالم الذي نعيش فيه الآن حائلة و يغمرها القتام و البرودة، بحيث تزيد في وجع الإنسان و تعمق مشاعر الوحدة و الحزن لديه، و هذا ما يحاول جبر أن يقاومه.
    النقاد الأجانب الذين تناولوا أعمال جبر يجمعون على أن ألوانه من الشرق، من العراق، يقول الشاعر و الناقد البلجيكي، ريجينيال كولي : " جبر مخلص لغنى الشرق"، " الألوان التي هي أخيراً هنا، حيث ينبغي عليها أن تكون دائماً، تثير ضجيجاً. لكنه ضجيج مطمئن. إن الانسيابات الصفراء أو الخضراء تبدو محمولة على الهرب من اللوحة، لكن يمكن التنبؤ أنها لن تفعل ذلك".
    و يقول الرسام و الناقد الإيطالي أينو كلابريا : "جبر ينتمي إلى جيل الذاكرة، إنه يستند على الواقع و رؤيته التخيلية تحركها جذوره الشرقية".
    أما داريو ميكاكي الذي رافق بدايات جبر في إيطاليان و تابع تطوره، فيقول : "جبر لا يبحث و لايرسم مدفوعاً بهدف أو رغبة أن يبني متحف لون خيالي، بل يدفعه حب الحياة من الحياة نفسها"، أما دوافع إختياره فهو " احتفال لوني نابع من الذكرى و الحلم لأنه هو رسام من المقام الأول، مليء بالحيوية، ليتأكد كاندهاشة شاعرية أصيلة، و ليحاول خلق أسلوب خاص لحياته ورسمه اللذين يدفعان لإعادة النظر إلى الأشياء".
    و يتلبع داريو فيقول : " تلاحقت أمامي الرسوم ذات الألوان المذهلة، كما لو أنها خارجة من بركان هائج، كي تتجمد بهيئة طبقات و كتل صخرية على السطح و يمكن ملامستها بالعين، كما يمكن القول باليد لشدة الإحساس الهائج فيها". ثم يضيف متسائلا : " أين هو النبع الشاعري في ألوان جبر؟ إنه ليس في الكيمياء، و لا في أنابيب اللون. أما البوقة فهي الأنا العميقة في طيات الفعل، حيث يتدفق الدم، و يمتزج الماضي مع المستقبل، حين ذلك كل فكرة و كل إحساس يجد لونه المناسب و عنفوانه الموجب ومنه يجد خلاصه في اللوحة". و يختم داريو بالقول : " جذور جبر امتدت بعيداً و أوراقه تسطع على النور الإيطالي، إنها سيرة إنسانية".
    الشاعر الإيطالي تونينو غويرا يقدم لآخر معرض أقيم لجبر ربيع سنة 1997 بالقول :

    " فكرت في غويا
    غويا جديد رمى قبضة من الألوان
    على عالمه المعتم من الظلال
    و الغموض...."

    يكفي هذا القدر من الاستشهاد حول رؤية الأجانب لأعمال جبر و ألوانه للتأكيد أن هذه الألوان. من الشرق، في الوقت الذي يحاول بعض " نقاد" المنطقة نسبة جبر إلى هناك، إلى الغرب، لأنهم لم يروا مثله ألوان الشمس، و بالتالي لم يكتشفوا الفن الذي يحيط بهم.
    أما جبر نفسه فيقول : " يمكن الاكتفاء بالموضوع بالنسبة للرسام بتجلياته البصرية و التسميات تناسب الشرق، لأننا ورثة لغة. بالنسبة لي الموضوع هو احتمالات لونية" و لذلك " إضافة إلى اهتمامي باللون فأنا أعتبر نفسي فناناً تعبيرياً، و أجد في الإنسان حالات تعبيرية تساعدني في خلق الموضوعات : حركة يد، حركة وجه، رقصة، ملابس....." و ما يهمني ليس التصنيف ضمن مدرسة، بل يهمني أن أكون صادقاً بالتعبير من خلال لوحتي". فإذا كان طقس العراق، الذي احتضن طفولة جبر، يحكمه، بالدرجة الأولى، فصلان : الصيف و الشتاء، فصيفه طويل شديد الحرارة، نهاره طويل أيضاً، نوره فياض مبهر، حتى ليبدو كل شيء فيه براقاً، واضحاً إلى درجة العري، فإن باقي الفصول، ثم الليل، يخلق تضاداً لونياً يوازي الصيف و ضوءه، فالظلمة حنونة، و إن كانت موغلة في السواد، و بالتالي فإن الألوان في مثل هذه البيئة صريحة، واضحة، و مستقلة في أغلب الأحيان.
    حين يتهاوى ضوء الشمس على الأشياء و الكائنات تصبح عارية، ناحلة، أقرب إلى البياض. و هذا ما جعل عدداً مهماً من لوحات جبر تغرق في البياض العذب الموحي. أما إذا حلت الظلمة فإن الأشياء و الكائنات تغرق في السواد و تتحول إلى أشكال شبحية لا ينقذها إلا ضوء القمر أو الفوانيس الفقيرة، فتتبدى عند ذلك نائسة في خضم السواد و الخضرة، و قد تتخللها لمعة ضوء من نجم بعيد أو نيزك أفلت من مداره، فتترك جمرات مضيئة هنا و هناك، و كذلك فإنها تومىء إلى الشكل أكثر مما تسجنه في التفاصيل.
    في أضواء مثل هذه تصبح الألوان لها نكهة مختلفة عن الأماكن الأخرى. إنها لا تتداخل، لا تتدرج، لا تموه نفسها، و لذلك تصبح مباشرة صريحة، و بعض الأحيان حادة. في الأماكن الأخرى يصعب للون أن ينفصل عن آخر، أن يستقل، و هذا ما يجعل الألوان تمتزج إلى درجة تفقد ألوانها و تتحول إلى ألوان أخرى.
    حين خرج الانطباعيون إلى الهواء الطلق، إلى الطبيعة، بدت ألوان انطباعيي الشمال مختلفة عن ألوان انطباعيي الجنوب. و في محاولة لاكتشاف خصائص النور، و بالتالي اللون، أوغل عدد من الانطباعيين جنوباً، و عبر بعضهم البحر، و هكذا تغيرت ألوانهم على الشاطىء الآخر من المتوسط.
    رساموا العراق امتلكوا جرأة الانطباعيين الأوائل، لذلك لم يتردد عدد كبير منهم في أن ينتقل من المراسم إلى الهواء الطلق لاختيار الموضوعات و الألوان، و هذا ما أدى إلى تميزهم في الاختبارات اللونية، و التي تجلت بانجازات هامة، انتقلت من جيل إلى آخر، و إذا كان فائق حسن يعتبر رائداً في هذا المجال، فإن ضياء العزاوي لا يقل إقداماً و شجاعة في مغامرته اللونية، حين توصل إلى ألوانه الخاصة، من خلال الصراحة و القوة في اختياراته. جبر ابن هذه البيئة، و كانت باصرته ترشد وتضيف إلى بصيرته في اختباراته ثم في خياراته اللونية، و إن اختلف عن فائق حسن و ضياء العزاوي، فإذا كان الأول أخضع اللون إلى الموضوع، و جعله تابعاً له، و إذا كان ضياء العزاوي مثل الطرف المقابل، من خلال التضاد اللوني، و خلق الحوار بين الألوان،و كان أكثر إيغالاً في مغامرته اللونية، و كان جريئاً في تجريبه و اكشافاته، فإن رحلة جبر اللونية لها خصائص تجعلها مختلفة عن الاثنين. التشخيص محور في أعمال جبر. صحيح أنه لم يعد مهتماً بالموضوع كما كان الحال من قبل، و تجاوز المضمون بعد أن تخفف من تأثيره المباشر، و بالتالي يختلف عن فائق حسن، إذ لا يخضع اللون للموضوع، و إنما يقيم صلة غير مباشرة، أو يجري حواراً بين الموضوع و الألوان التي تتفجر منه أو تفجره و القادرة على إظهاره في أحسن تجلياته، دون أن تذوب فيه. أي أن اللون ذاته، في حالات كثيرة، هو الموضوع، دون أن يعني ذلك إلغاء التشخيص أو اعتباره هامشياً. لقد اندمج اللون بالشيء الذي يراد له أن يكون موضوع اللوحة إلى درجة أن أية إزاحة أو تغيير يفسد اللوحة كلها. أو كما يقول الناقد السوداني فتحي عثمان : " هدف جبر اكتشاف علاقات الألوان في تنوعها و تجددها عبر الموضوع، و في النظر إلى المساحات كعلاقات لونية تخلق متعة بصرية لا نهائية، أي تركيباً و اكتشافاً، أو هكذا تبدأ اللوحة لكي لا تنتهي".
    أي أن اللون لدى جبر بقدر ما يحرض على خلق الموضوع، فإن الموضوع ذاته يصبح، أو يتحول إلى بنية لونية مندمجة. و هذا ما يعطي لوحته نكهة مميزة و متجددة، فالحساسية المرهفة للون، و النابعة من مكان قصّي، من الذاكرة او الحلم، تجعل اللون مناخاً بصرياً و نفسياً في آن، إذ يمكن التعامل معه خلال الموضوع، كما يمكن رؤيته طيفاً و علاقات لونية تحتضن حالة، أي أكثر من شيء، لا يمكن أن تبرر أو أن ترى بهذا القدر من التجلي إلا بهذه الحاضنة الشفافة و الحوارية من الألوان.
    لا يمييل جبر إلى التجربة أو إلى الغنائية اللونية، إذ أن التشخيص لا يزال موجوداً و أساسياً في لوحته، و لذلك فإن اللوحة لا تعتبر حواراً بين الألوان فقط، و لا تنحو إلى التزيين او إظهار البراعة، قد ما تعكس رؤية للألوان و قدرة على توظيفها ضمن سياق تتبدى فيه، و كأنها تحمل داخلها طاقة لم تكن فيها من قبل، أو لم نكن، كمشاهدين، قادرين على اكتشافها أو التفاعل معها بهذا الشكل إلا بعد أن أعاد جبر ترتيبها و تنظيمها في السياق بطريقة تبرز قوتها و الطاقات الكامنة فيها.
    قد تعتبر كلمة تنظيم أو ترتيب، باردة، لا تفي بالغرض، لأن جبر، و هو يتعامل مع اللون، يصل إلى خلاصته، إلى روحه، إذا صح التعبير. و هذه الخلاصة، أو هذه الروح لا تتبدى بوضوح إلا من خلال انسجامها الداخلي، و قدرتها على أن تحاور عين المتلقي و أن " تقول" له شيئاً جديداً لم يكن في اللون لما كان محايداً، أو كما هو عند رسامين آخرين.
    إن بعض النقاد في إشاراتهم إلى العلاقة بين أعمال جبر، ألوانه بشكل خاص، و أعمال و ألوان : كوكوشكا و مونش و نولده، و أيضاً التقاطع مع فرانسيس بيكون، فلا بد من إضافة عدد آخر غير قليل من الرسامين الذين تميزوا بألوان، أو بموضوعات، تستهوي جبر، مثل لوتريك و غوغان، و مثل مروان قصاب باشي في متابعته لحالات معينة و تكرارها غير التكرر في محاولة لقراءتها و اكتشاف أغوارها، إذ تعني أن جبر في قلب حركة التشكيل، وله تميزه في نفس الوقت، كما أن لديه هموماً فنية و محاولات بحث، مستفيداً من مخزونه البصري، و من ثراء الطفولة بشكل خاص.
    ليس من السهل تصنيف جبر في مدرسة فنية، لأن التصنيف يعتمد، أغلب الأحيان، من قبل النقاد و مؤرخي الفن لتسهيل قراءة الفنان، أو لوضعه في خانة من خلال المشترك مع الآخر، دون الالتفاف، بما يكفي، إلى الشيء الخاص أو المختلف، مما يؤدي إلى إطلاق أحكام قد لا تكون كافية أو دقيقة في توصيفه.
    جبر بالإضافة إلى رفضه أن يكون ضمن قالب محدد، فأنه يمتلىء حنيناً إلى تجاوز نفسه باستمرار، لأن أحد أهم دوافعه ك الاكتشاف. و رغم أن موضوعات معينة تتكرر في أعماله، إلا أن المفردات و زاوية النظر ثم الألوان في كل لوحة تختلف عن الأخرى. و احد أبرز مظاهر الاختلاف اللون، فاللون تمليه الحالة النفسية، و هذه لا تتكرر أبداً، لأن لكل حالة نفسية لحظتها، و التي تنتهي تتغير، بانتهاء تلك اللحظة.
    لقد تحدثت مطولاً مع جبر عن لوحتين : " ناشرة الغسيل" التي تمتلىء بالبياض، و قد عرضت في أول معرض أقامه جبر في دمشق عام 1987، و كان ينوي أن يحتفظ بها، لكن أتى من اقتناها، و ذهبت. و لأن لها تلك المنزلة في نفسه، فقد حاول أن يرسم لوحة مثلها، لكن المحاولات انتهت إلى الفشل، فتوقف عن تكرار المحاولة.
    أما اللوحة الثانية فهي " الشاعر"، و قد أخذت شكلاً معيناً، إذ كانت تسبح في النور، في بياض أقرب إلى لون الحليب، لكن، ورغم انتهاء اللوحة، إلا أن التطورات التالية التي لحقت بذلك الشاعر جعلته يحوّلها إلى اللون الأخضر و مشتقاته، علها تكون أملاً للمستقبل، أو أرضاً قد تنبت خضرة دائماً. و لا يزال جبر يتحسر على "غياب" اللوحة في بياضها الزاهي تحت ثقل الألوان التي تراكمت فوقها.
    هذا يعني أن الرسام الجدي لا يرسم لوحة مرتين، حتى لو أراد. و حين نتأمل " نساء جبر" نجد أن هتاك شيئاً مشتركاً، و لكن نجد في نفس الوقت أن كل امرأة تختلف عن الأخرى نوعياً، و مع ذلك نستطيع ، دون خطأ، أن نقول : هذه المرأة من نساء جبر، كما لدينا نفس الجرأة أن نقول : هذه من نساء رينوار.
    اللون، هنا، هو الذي يحدد، هو الذي يعطي النكهة، و هذا اللون، بالإضافة إلى ما يعكسه من مزاج نفسي، فإنه حصيلة معاناة طويلة و تجارب متواصلة إلى أن وصل إلى ما يمكن تسميته اللغة الخاصة، أي لغة جبر التي تميزه عن غيره من الفنانين.
    و إذا كانت ذاكرة الطفولى لا تزال حاضرة و مؤثرة في ألوان جبر، فإن الألوان الحارة قدر ما تملك من تأثير مباشر على العين، و تولد إيحاءات تتداعى بسرعة، فإن اللون الأحمر، خاصة حين يحتل مساحة واسعة نسبياً في اللوحة، يمكن أن يكون خطراً، و هذا ما يتطلب أن يكون هناك اقتصاد و روية في التعامل معه، خاصة وأن لجبر أعمالاً بالغة الأهمية حين تخفي هذا اللون، حين تداخله مع غيره من الألوان.
    إن الرحلة مع ألوان جبر بمقدار ما تولد متعة بصرية، فإنها تطرح أسئلة بالغة الأهمية، لأنها تجعلنا نعيد النظر بالألوان التي حولنا، أو تجعلنا نراها بشكل مختلف عما تعودنا رؤيتها.
    و الفنان الذي يستطيع أن يعوّد الناس على رؤية الأشياء بطريقة مختلفة عما تعوّدوا عليه، إذ يجعلهم يرون الألوان جديدة، يكون فناناً أضاف لأبصارنا بصيرة جديدة، و هذا أقصى ما يحلم به الفنان.
    هذا الدفق بالألوان، هذه الخصوبة المتجددة في ألوان جبر، و هذه الطفولة الدائمة في الرؤية و الاكتشاف، تجعلنا نقول لقد استطاع هذا الفنان مساعدتنا على أن نرى الأشكال و الألوان بطريقة أجمل، و جعلنا نتساءل أيضاً.

    عبدالرحمن منيف
                  

العنوان الكاتب Date
جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار04-14-07, 11:15 AM
  Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار04-14-07, 11:28 AM
  Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار04-14-07, 11:40 AM
    Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار04-14-07, 11:59 AM
  Re: جبر.. موسيقى الألوان سمرية04-14-07, 01:15 PM
    Re: جبر.. موسيقى الألوان سمرية04-14-07, 01:24 PM
    Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار04-15-07, 10:24 AM
  Re: جبر.. موسيقى الألوان Elmosley04-14-07, 01:19 PM
    Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار04-15-07, 11:41 AM
      Re: جبر.. موسيقى الألوان Elmosley04-16-07, 07:45 PM
  Re: جبر.. موسيقى الألوان fadlabi04-14-07, 01:39 PM
    Re: جبر.. موسيقى الألوان Bannaga ELias04-15-07, 01:37 PM
      Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار04-19-07, 00:10 AM
    Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار04-16-07, 12:20 PM
  Re: جبر.. موسيقى الألوان bushra suleiman04-15-07, 04:25 PM
    Re: جبر.. موسيقى الألوان غادة عبدالعزيز خالد04-16-07, 12:24 PM
      Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار04-23-07, 12:45 PM
    Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار04-19-07, 01:13 PM
  Re: جبر.. موسيقى الألوان Foetus04-16-07, 09:24 PM
    Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار04-23-07, 11:22 PM
  Re: جبر.. موسيقى الألوان الملك04-16-07, 11:58 PM
    Re: جبر.. موسيقى الألوان خدر04-20-07, 06:02 AM
      Re: جبر.. موسيقى الألوان Emad Abdulla04-20-07, 09:10 AM
        Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار05-04-07, 08:46 PM
      Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار04-30-07, 09:36 PM
    Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار04-30-07, 08:15 PM
  Re: جبر.. موسيقى الألوان Ibrahim Algrefwi04-20-07, 01:19 PM
    Re: جبر.. موسيقى الألوان طلال عفيفي04-30-07, 09:14 PM
      Re: جبر.. موسيقى الألوان Elmosley04-30-07, 10:01 PM
      Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار05-17-07, 11:28 PM
    Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار05-04-07, 10:34 PM
  Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار04-30-07, 10:39 PM
  Re: جبر.. موسيقى الألوان Foetus04-30-07, 10:54 PM
    Re: جبر.. موسيقى الألوان عامر تيتاوى05-01-07, 00:27 AM
      Re: جبر.. موسيقى الألوان غادة عبدالعزيز خالد05-04-07, 10:55 PM
    Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار06-14-07, 10:50 AM
  Re: جبر.. موسيقى الألوان nourelhadi awad05-18-07, 08:47 AM
    Re: جبر.. موسيقى الألوان Elmosley05-18-07, 02:17 PM
  Re: جبر.. موسيقى الألوان نهال كرار06-14-07, 10:21 AM
  Re: جبر.. موسيقى الألوان عبدالله داش06-14-07, 02:55 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de