(ســــيناريوهات) : دمـغة غـريق

Quote: النص ، سردي: النص الذي بين أيدينا ، يبدو كأنه خاطرة ، دارت في ذهن الكاتب ؛ إثر حادثة محددة؛ فأراد صاحبها أن يوثقها لنفسه؛ فأخرجت هذا النص. هذا النص يصعب تصنيفه، كقصة صغيرة، أو أقصوصة، رغم ما يتوفر فيه من عناصر القصة، من حيث تطور الأحداث وتصاعد الحوار. والعمل برمته يشابه شيئا من الكتابة التي مارسها الدكتور محمد عبد الله الريح ( حساس محمد حساس) في الصحافة، ضمن استراحته المشهورة، ويشبه أحيانا تجربة الأستاذ المبدع يحي فضل الله ، في ( تداعيات) خلال الثمانيات. ولكن النص اعتمد على الحوار، مما يجعله أقرب إلى العمل المسرحي أو كتابة التمثيليات، خاصة أن صاحبه قد جزأه تجزيئا يساعد على ذلك فجعله مشاهد، المشهد الأول ورمز إليه بعنوان جانبي ( في المنزل) والمشهد الذي يليه ( في مكتب التلفونات) ، ( في مكتب المدير) و... وكأن الكاتب قد أراد إخراجا مسرحيا لنصه، من خلال رسمه أو اقتراحه لشكل الحركة أو وصف المكان. فهو يقول: (أخرج حاج الطاهر نظارة القراءة من جيب جلابيته وبدأ يقرأ في تفاصيل الفاتورة ...) ويقول: (قال حاج الطاهر في استغراب وهو يضع سبابته أمام (دمغة غريق) مخاطباً المتحصل ") كذلك لم يهمل وصف المكتب ونوع الكراسي والستائر و لم يهمل وصف موقف السيارات, ولكنه سرعان ما أهمل ذلك لما استغرق في السرد. اللغة: الكاتب يستعمل لغة سهلة ، هي العادية ، الفصيحة لا الفصحى ؛ فلا يتكلف ولا يتقعر، بل يجعل الحدث نفسه هو الذي يخلق لغة السرد.؛ فكانت اللغة بسيطة وحلوة. أما لغة الحوار الداخلي، فنقلها الكاتب بأمانة تامة، كما هي، دارجة، سودانية، سهلة وحلوة. الكاتب الساخر: تتجلى روح السخرية في الآتي: أولا: النص كله، مبني على فكرة أنه يجب ( التحصيل) . التحصيل بأي صورة، سواء كانت مقنعة أو غير مقنعة. و المواطن لا يملك الحق في السؤال عن القيمة المحصلة طالما أنها ( رسمية). أما استهجان الكاتب لذلك فهو ظاهر إذ سمى النص كله بكلمة قبيحة (جباية). ثانيا: المفارقة الواضحة بين مظهر المكتب الفخم ، الذي بهر حاج الطاهر، وادعاء المدير أنه مقر متواضع. ثالثا: الحرفية في تطبيق اللوائح والقوانين التي تجعل من المدير منفذا غبيا، يدعي أن حدود مسئوليته هي الأموات ، بل الذين ماتوا غرقا ولا شأن له بالأحياء أو الحفاظ على الأحياء. رابعا: ذكر الكاتب لبعض الأسماء والمسميات التي لا معنى لها وليست موجودة وغير منطقية "..عندك هسع دمغة (الطريح ودمغة) ودمغة (الشليق) ودمغة (الحابل) ودمغة (النابل) ومثال آخر: منظمة الغرقانين بالخارج، للناطقين بغيرها ... خامسا: صور الكاتب بعين راصدة الأحداث المعاشة ، في زمن تاريخي معين وقضية فرض الضرائب ، بشكل مضحك، ومنفر في آن واحد. وهذا واقع عاشه الناس لفترة طويلة، ضريبة الشهيد ، ترعتي كنانة والرهد، رسوم القناة الفضائية، رسوم طريق التحدي، ضريبة صندوق دعم الشريعة و كثير من المسميات. وكثير من الهيئات والمؤسسات التي يحق لها أن تجمع المال، بطريقة عشوائية تنم عن الفوضى. وأظن أن الكاتب وفق لطرح القضية تحت المجهار، بغية التشخيص والعلاج. سادسا: موقف حاج الطاهر نفسه، موقف غريب، وقد يكون مرفوضا بين الناس، أن يتجشم أحدهم كل هذا العنت، ليسأل عن قيمة تافهة وهي الألف جنية. فاعتاد الناس على أن لا يسألوا إذا طلب منهم أن يدفعوا؛ طالما أن الحكومة رفضته وهو (رسمي)؛ كأنهم استسلموا للأمر. سابعا: حاج الطاهر نفسه ، الذي يمثل الضحية، لم ينج من الحرفية، فهو يسأل عن وجود الدمغة ( الدمغة دي بلصوقها...)، وكأني به لو كانت هنالك دمغة من ورق ملصقة على الفاتورة ، لما سأل. وهذا واقع اكتسبه من خلال العمل المدني. فهو أسير أيضا للوائح والقوانين، بل تعدى الأمر ليتكلم عن الدستور، مصيبا كان أم مخطئا، شأنه شأن كثيرين يظنون أنفسهم على علم ويتسمون تشدقا؛ (بالمثقفاتية). ثامنا: السخرية من موقف الحاج الطاهر، الذي اجتهد في قراءة المكتوب على الفاتورة ، بعد أن أكد الكاتب أنه قد استخرج نظارته؛ ولكنه أخطأ في قراءة الغين عينا." دي يا حاج ما دمعة.. دمغة.. بالغين مش بالعين . دمغة غريق.. ألف جنيه بس". وكأني بالكاتب قصد كلمة (دمعة) إشارة إلى الأسى الذي يحس به المواطن، فيقرأها هكذا وكأنه يهم بالبكاء. تاسعا: البرود الواضح للموظفين ، خصوصا المدير. لم يثر المدير في وجه المواطن ، كما نتوقع بل كان باردا متخلقا بسلوك من اعتاد على ذلك، متجاوزا للإثارة ؛ ليخدم غرضه الأساس في تحصيل المبالغ: " يا أستاذ ما (تهيج) ساكت.. أول حاجة انحنا ما قاعدين ناكل مال زول بالباطل لأنو المسألة دي أجيزت من المجلس التشريعي للولاية.. وانتو النواب ديل انتخبتوهم.. يعني هم بمثلوكم... بل أكثر من ذلك ساق الحجة على المواطن بأنه هو المسئول عن إصدار القرار وهذا واضح في النص أعلاه. وأخيرا: يتبنى الكاتب فكرة مفادها أن الموظفين المنعمين يستخدمون النصوص الدينة، واللغة الخطابية، مبرر للوصول لغاياتهم، لاحظ معي قول الموظف الأول، مستعملا كلمة أفتيك إشارة إلى الفتوى والتي اعتاد المواطن على سماعها، من أناس محددين: - كذلك وظفت اللوحات لكسب الشعور الديني ، رغم النقد الذي يمكن أن يوجه إليها: (من كفن غريقاً فكأنما أطعم عشرين مسكيناً) وثالثة تقول: (الغرقى إخوانكم فتبرعوا لهم)، (الغرقان في ذمة العايش). فالنص الأول ( من كفن غريقا فكأنما أطعم عشرين مسكينا) تخدع القارئ فيظن أنها حديث نبوي وهي ليست كذلك. و النص الثاني ، كتب بلغة دارجة لا يمكن أن تكون مثبتة على واجه مؤسسة ( الغرقان في ذمة العايش). و النص الثالث ( الغرقى إخوانكم فتبرعوا لهم)، نص يستطيع حاج الطاهر أن ينتقده، بحجة أن غير المسلمين ليسوا من إخوانه. تعقيب: النص ممتع واستطاع الكاتب أن ينفذ إلى قضايا مهمة في حياة المواطنين، بطريقة ساخرة. أفرز النص انتقادات لاذعة للمواطنين ، الموظفين ، أجهزة الحكم المدني ... ولم يتعرض بشكل مباشر للطعن في الحكومة.