ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى..

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-01-2024, 05:22 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة ابوبكر سيد احمد(abubakr)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-04-2007, 05:32 AM

abubakr
<aabubakr
تاريخ التسجيل: 04-22-2002
مجموع المشاركات: 16044

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. (Re: احمد حماد ادريس)

    ودحماد وودشيقوق والاعزاء المتداخليين .. قبل عام واكثر قراءت عن "المنسي في عالم الطيب صالح " في مصدر ما ونشرته في قائمة تضم اصدقاء شتات في العالم نتحاور احيانا من خلالها وها انا وانتم في حولية الطيب صالح وباحثيين عن ملامح مصطفي سعيد اعيد ما نقلت وما كتبت حينئذ هنا :

    Quote:
    سلام .. ارفق مقالا للطيب صالح عن " المنسي" صديقه المصري القبطي المسلم الامريكي البريطاني العتال غسال الصحون استاذ الجامعة زوج الليدي البريطانيه الفقير الذي مات وهو من الاثرياء صديق اعظم من عرفه الغرب من فنانيين وكتاب وساسة زز المناضل في غير قضية ززالممثل في غير مسرح ... حاجة عجيبة كان ذلك المنسي ... فيه من مصطفي سعيد ومن الطيب صالح وربما من كل من عرفهم الطيب صالح ...
    عجيب ذلك المنسي ..هل هو خليط من الحقيقة وخيال كاتب شاطر مثل الطيب صالح ام هو الخيال نفسه تحول الي كائن في شكل مصري فهلوي صاحبه كاتبنا الطيب صالح ....
    اقرؤ لعلكم تجدو ا بين السطور كائنا عفريتا فيه كل مفاسد ومحاسن البشر* ....
    ابوبكر 16 ينائر 2006


    المنسي في عالم الطيب صالح
    يكتب الروائي الكبير الطيب صالح عن شخصية فريدة عرفها خلال عمله في الإذاعة البريطانية، يرسم ملامحها برهافة وفرادة، ومن خلال المنسي يأخذنا الطيب إلي مفردات عالم كامل. ومن يعرف الطيب عن قرب وطريقته الجميلة في الحكي، يكاد يسمع صوته العميق، الواضح، الواثق من خلال هذه السطور. المنسي مصري، ولكن لم تحير شخصية الطيب مثلما حيره. وهذا ما سنقرأه في ذلك النص الممتع، والذي تضمنه كتاب ضخم صدر في بيروت عن دار رياض الريس، أعده وحرره الدكتور محسن أبشر الطيب، ويعد الكتاب مرجعا شاملا لما كتب عن الطيب وعالمه الروائي، وشخصه الجميل.




    (1)
    في مثل هذا الوقت من العام الماضي توفي رجل لم يكن مهما بموازين الدنيا، ولكنه كان مهما في عرف ناس قليلين، مثلي، قبلوه علي عواهنه، وأحبوه علي علاته. رجل قطع رحلة الحياة القصيرة وثبا وشغل مساحة أكبر مما كان متاحا له، وأحدث في حدود العالم الذي تحرك فيه، ضوضاء عظيمة. حمل عدة أسماء، أحمد منسي يوسف، ومنسي يوسف بسطاوروس، ومايكل جوزف، ومثٌل علي مسرح الحياة عدة أدوار، حمالا وممرضا ومدرسا وممثلا ومترجما وكاتبا وأستاذا جامعيا ورجل أعمال ومهرجا. ولد علي ملة ومات علي ملة. ترك أبناء مسيحيين وأرملة وأبناء مسلمين. حين عرفته أول مرة، كان فقيرا معدما، ولما مات ترك مزرعة من مائتي فدان من أجود الأراضي في جنوب إنكلترا، وقصرا معدما، ولما مات ترك مزرعة من مائتي فدان من أجود الأراضي في جنوب إنكلترا، وقصرا ذا أجنحة، وحمام سباحة، وإسطبلات خيل، وسيارة 'رولز رويس' و 'كاديلاك' و 'مرسيدس' و 'جاغوار' وماركات أخري. وخلٌف أيضا مزرعة من مائة فدان في ولاية 'فرجينيا'، بالولايات المتحدة، وبيتا في 'واشنطن' ومطعما وشركة سياحة.
    لما بلغني نبأ وفاته، اتصلت بداره في 'ثاتشبري' في ضواحي 'ساوثهامبتون' بإنكلترا.. أجابني صوت أمريكي لشاب، هو ابنه الأكبر 'سايمون' علمت منه أن الموت أخذ أباه علي حين غرة وهو في أوج الصحة والعافية، فأصيب بسرطان الكبد الذي قضي عليه خلال أسابيع، وكنت وقتها في السودان. ثم خطر لي أن أسأله كيف دفن أبوه فأخبرني أنهم لم يدفنوه بعد، وكان قد مضي علي موته نحو عشرة أيام، إنهم ينتظرون أن تتم الإجراءات لحرق جثمانه.
    قلت له: 'ولكن أباك رجل مسلم، وحرق الجثمان محرم عند المسلمين'.
    فأجابني، نحن لانعلم عن إسلامه شيئا، الذي نعلمه أن والدنا كان مسيحيا، وكان يقول لنا 'حين أموت أحرقوا جثماني'.
    قلت له 'اسمع، لايوجد أدني شك أن أباك كان مسلما، وأنا شاهد علي ذلك، إنه أمر خطير أن تحرقوا جثمان رجل مسلم. وتذكر أن أباك خلٌف أرملة مسلمة ولكم منها أخ مسلم. إذا قلتم إنه لم يكن مسلما فمعني هذا أن زواجه هذا كان باطلا'.
    اتصلت بزوجته في الرياض فاستغاثت بوزارة الخارجية السعودية التي سارعت بالتدخل، فحسم الأمر، ودفن 'منسي' كما كنا نسميه كمسلم، وأقيمت عليه شعائر المسلمين، وذلك بعد نحو شهر من موته. ومع ذلك نشرت صحيفة 'الأهرام' أن أهله في مصر أقاموا القداس علي روحه في الكنيسة القبطية. ورغم حزني عليه ضحكت. قلت هكذا 'منسي' لغز في حياته ولغز في مماته. لقد أربك الناس حوله وهو حي، وها هو يربكهم وهو ميت. كانت الحياة بالنسبة له، نكتة كبيرة، وضحكة متصلة لاتنقطع. كانت الحياة، سلسلة من 'شغل الجلسة' كما كان يقول.
    ولد ونشأ قبطيا في بلدة 'ملاوي' في عمق صعيد مصر. وكان يقول لنا إنه كان يقضي معظم أوقاته مع أطفال المسلمين من سنه. فنشأ أقرب إلي المسلمين. توفيت والدته وهو بعد صبي، وكان أكبر إخوته، وتزوج أبوه وأنجب بعدها. وهذه حقيقة مهمة في حياته. كانوا فقراء مستورين ولم تكن الحياة سهلة. وصل الجامعة بعد جهد، فدرس اللغة الإنكليزية في جامعة الاسكندرية وأتقنها، لفظا ومعني، بشكل لافت للنظر، وكان أضرابه قليلين في إتقانه للغة الإنكليزية بين من عرفت من العرب. كان صعبا أن يقتنع الناس أن 'منسي' في عبثه وهذره يمكن أن يتقن أي شيء. وقد قضيت كل سنوات معرفتي له، أحاول أن أقنع الناس، أنه إنسان عنده مواهب، وأنه يتقن أشياء كثيرة. قاده حبه للغة الإنكليزية بطبيعة الحال، إلي إنكلترا، فوصلها العام 52، بعد سلسلة من المغامرات والألاعيب وال 'أونطة' وانخرط في الدراسة في جامعة ليفربول. كان فقيرا لا يملك قوت يومه، فكان يدرس ويعمل، عمل حمالا وغاسلا للصحون في المطاعم، وممرضا، ثم انتقل إلي لندن. وكان في كل تحركاته كما أخبرنا فيما بعد، يستعين بالجمعيات الخيرية والهيئات الكنسية ويلعب علي كل الحبال.
    عرفته العام 53، أول عهدي بهيئة الإذاعة البريطانية، فكنا نعطيه أشياء يكتبها أو يترجمها وأدوارا صغيرة في التمثيليات الإذاعية تعينه علي العيش والدراسة. ظل طول حياته يحب التمثيل، وحتي بعد أن أثري، كان يأتي إلي الإذاعة، ويؤدي أدوارا في التمثيليات، ويصر علي تقاضي الأجر. وكنت أقول له 'أنت ممثل جيد في الحياة، ولكنك ممثل فاشل في الفن'.
    قبل أن تتوثق صلتي به في تلك الأيام، زارني ذات يوم في داري، وكان يسكن غير بعيد مني في حي 'فلهام' وأنا في حي 'ساوث كنزنغتون'. قدم لي زوج جوارب من نوع رخيص. قلت له:
    'ما هذا'؟
    'هدية'.
    'وما هي المناسبة'؟
    قال ضاحكا:
    'بمناسبة عيد ميلادك'.
    'أي عيد ميلاد؟ يا أخي اليوم عيد ميلادي. وافرض أنه عيد ميلادي. هذه رشوة'.
    قال ضاحكا:
    'يعني...'.
    'الله يخيبك. يعني حين تريد أن ترشوني، تعطيني رشوة لاتزيد قيمتها عن شلنين'؟
    لم يبد عليه أي شعور بالحرج، وقد كانت تلك من ميزاته الكبري في الحياة، أنه لايخجل ولايهاب ولايبالي ولايحس بالحرج. قال لي وهو يضحك من أعماق قلبه، بطريقة طفولية كانت من مقومات جاذبيته:
    'قلت أجرب. مين عارف؟'
    لكننا أصبحنا صديقين حميمين بعد ذلك، بل إنني من بين سائر أصدقائنا المشتركين، أصبحت بمثابة 'أب روحي' له، رغم أننا كنا من سن واحدة، ربما لأن الآخرين، عبدالمنعم الرفاعي، وأكرم صالح، وعبدالحي عبدالله، ونديم صوالحة وغيرهم، كانوا، علي حبهم له، يعاملونه بفظاظة، ولا يأخذونه مأخذ الجد.
    (2)
    لو أن قامة 'منسي' كانت أقصر ببوصة واحدة أو بوصتين، لأصبح قزما. ومع تقدم السن، ترهٌîل جسمه، وصار له كرش كبير، ومؤخرة بارزة، فكأنك تنظر إلي كرة شقٌîت نصفين، نصف أعلي ونصف أسفل. وكان شديد العناية بمظهره، يلبس قمصان الحرير. وال 'بدل' الفاخرة، يحصل عليها بأثمان بخسة. كان باديء الأمر يفصًٌل ثيابه عند 'ترزي' في نواحي 'هولبورٍن'، وكان هذا يحصل علي القماش بسعر الجملة من محلات 'دورٍمîيي' المعروفة في بيكاديللي. ذات يوم انشغل فتطوع 'منسي' ليحضر له القماش، فأعطاه الرجل بطاقته، واستغل 'منسي' الفرصة فسجل اسمه عند 'دورميي' علي أنه 'ترزي' وحصل علي بطاقة، وأصبح بعد ذلك يحصل علي القماش بسعر الجملة بهذه الصفة. وأشهد أن 'منسي' كان كريما معنا، فكنا نذهب معه إلي 'دروميي' ونشتري ما يلزمنا بسعر الجملة. كذلك اكتشف 'منسي' بقدرته الخارقة علي الاكتشاف، ترزيا ماهرا في منطقة ال 'ايشت اند' الفقيرة، يتقاضي ربع الأسعار التي يتقاضاها الترزية في وسط لندن، فأصبح يفصل ثيابه عنده. حتي بعد أن هاجر إلي أمريكا وفتح الله عليه هناك، كان يحضر خصيصا إلي لندن، فيشتري القماش من 'دورميي' ويفصله عند صاحبه ذاك في ال 'ايست اند'. كان يقتني البدل والقمصان بالعشرات دفعة واحدة. ولابد أنه ترك كميات كبيرة منها بعد موته. لن يستفيد منها أحد لسوء الحظ، لأنني أشك أن يكون في كل هذا العالم الطويل العريض شخص واحد مثل 'منسي'.
    ومع ذلك لم يعدم طوال حياته نساء يحببٍنه، بعضهن كن جميلات جمالا بيٌنا، فارعات، تراه يختال إلي جانب الواحدة منهن، فكأن نخلة إلي جانب شجرة الدïومٍ. كان وجهه صبوحا يميل إلي الاستدارة تزحمه عينان واسعتان وقحتان يركزهما علي محدثه طول الوقت، دون أن يطرف له جفن. وكانت تلك حيلة نعرفها عنه، فكنا نعابثه بوسائل شتي. وكان سريع الضحك، فلا يلبث وجهه أن يتكسٌîر بضحك طفولي. هذا مع سرعة بديهة وتملك تام لناصية اللغة الإنكليزية، وقدرة عجيبة في الذهاب بها كلٌî مذهب. وكان جريئا، يقتحم الناس اقتحاما، ويرفع الكلفة فورا كأنه يعرف الشخص من زمن، وكأن هذا الشخص مهما علا شأنه دونه مرتبة. رافقني إلي حفل تخرجي في الجامعة، فقابل لأول مرة، سفيرا عربيا وزوجته، وكانا من أسرة حاكمة. انشغلت عنه فترة ولما عدت إليه، وجدته قد أوقف الرجل وزوجته، ووقف هو بينهما، يضرب الرجل علي كتفه مرة، ويضرب السيدة علي كتفها مرة، ويقول وهو يقهقه بالضحك:
    'آه. اتكلموا كمان، والله لهجتكم ظريفة جدا'.
    جررته عنهما، وقلت له:
    'أنت مجنون؟ ألا تعرف هؤلاء؟'.
    'حيكونوا مين يعني؟'.
    ولما أفهمته، قال:
    'وإيه يعني؟'.
    كانت الوقاحة تنفعه أحيانا، وتضره أحيانا، ولكنها كانت تسعفه مع النساء في الغالب.
    حكي لنا أوائل معرفتنا به، أنه أحب فتاة في ليفربول حبا ملك عليه نفسه، وقد خطبها وحدٌîدا موعد الزواج. ولكنها ماتت موتا مأسويا في حادث سيارة. قال إنها كانت حبه الأول والأخير، وإنه لن يتزوج بعدها، وسوف يظل وفيا لذكراها إلي الأبد. كانت طريقته عجيبة في الحزن، يقول لك إنه حزين، ولكن لاتبدو عليه أية علامات للحزن. لم يمض وقت طويل حتي جاء يخبرنا أنه قد تزوج. دهشنا دهشة عظيمة، ثم تأكدنا أنه قد تزوج بالفعل فتاة من أسرة إنكليزية عريقة تنحدر من سلالة سير تïوماسٍ مورٍ. بعضنا كان يعرف من هو سير توماس مور. والذين لم يسمعوا به من قبل أعطوا 'منسي' الفرصة ليتباهي أمامنا جميعا، فشرح للذين يعرفون وللذين لايعرفون من هو سير توماس مور بلغة إنكليزية متقعًٌرة وكأننا في فصل دراسي:
    (سير توماس مور جد زوجتي العزيزة هو الوزير الفيلسوف مؤلف كتاب 'يوتوبيا'.. أنت يا عبد الحي جاهل، طبعا لم تسمع بكتاب 'يوتوبيا' كان الوزير الأول للملك هنري الثامن، نعم، الملك الشهير الذي تزوج ثماني زوجات أمر الملك بإعدامه لأنه رفض أن يؤدي له قسم الولاء حين فصل الملك هنري الكنيسة الإنكليزية عن سلطة الفاتيكان في روما. كذلك رفض سير توماس مور أن يطلق الملك زوجته كاتٍرين أوفٍ أراغون ليتزوج من آن بولين، فاهمين ياجهلة؟ آه سير توماس مور هو بطل المسرحية التي ألفها روبرت بولٍت عنه مسرحية 'رجل لكل المواسم' هذا باختصار هو الرجل الذي تنحدر من سلالته زوجتنا العزيزة).
    في مثل هذه المواقف يكون 'منسي' في أحسن حالاته يستعرض إجادته للغة الإنكليزية، ودقة معرفته بتاريخ الإنكليز وهاهو الآن يجد سببا إضافيا أنه هو شخصيا قد أصبح جزءا من تاريخ الإنكليز. وازداد عجبنا حين علمنا أن 'العروس' إضافة لكل هذا، فهي أيضا عازفة بيانو موهوبة تزداد شهرة يوما بعد يوم، وتقيم حفلات 'كونسيرت' في قاعة 'وًجٍموٍر' الشهيرة.
    ويقول له عبد الرحيم 'وإيه اللي رمي ست محترمة زي دي علي واحد بغل زيك؟'.
    حكي لنا أنه تعرف بها في اجتماع لنادي 'شباب حزب المحافظين' علي أثر مناظرة حامية تصدي فيها 'منسي' لرئيس وزراء بريطانيا آنذاك سير أنتوني ايدن وسوف نري فيما بعد كيف أن منسي قاد مناظرة عن قضية فلسطين، وهولايعرف كثيرا عن قضية فلسطين، في مواجهة أحد جهابذة السياسة في بريطانيا، وخرج منتصرا يقول منسي إنه كان رائعا في تلك الليلة وهو يوجه الضربات لسير أنتوني ايدن، ذلك الدبلوماسي المحنك والسياسي العتيق دافع عن تأميم مصر لقناة السويس وهاجم سياسة حكومة سير أنتوني ايدن العدوانية نحو مصر بعد الاجتماع جاءته تلك الفتاة الطيبة وأعربت له عن إعجابها بشجاعته وقوة دفاعه عن بلده، ودعته إلي دارها وعرفته بأهلها يقول 'منسي' إنه قرر في تلك الليلة أن يتزوجها.
    وهكذا تحول 'منسي' بين عشية وضحاها من حال إلي حال انتقل من غرفته البسيطة في حي 'فولهام' إلي دار من طابقين في شارع 'ًسدٍني' الشهير، في حي 'تشîلٍسي' العريق. كانت 'ماري' تعيش هي والدتها وحدهما فقد كان أخواها وأختها متزوجين وسرعان ما أصبح 'منسي' سيدا مطلق السلطان في تلك الدار الإنكليزية المحافظة كانت حماته التي تربت علي أيدي مربيات فرنسيات، وتتحدث اللغة الإنكليزية بلكنة فرنسية، تعيش في الطابق الأرضي، فاستولي هو، علي الطابق العلوي. كنت تراه متي زرته يجري طالعا نازلا آمرا ناهيا.
    قلب تلك الدار رأسا علي عقب. وسرعان ما أخذت الدار تمتليء بأصناف من البشر لم تخطر علي بال أجداد 'ماري' النبلاء الراقدين في مضاجعهم الدارسة في أطراف إنكلترا... يفتح 'منسي' لك الباب، فتهجم عليك روائح الملوخية والكمونية والكوارع والمسقعة، روائح تتلوي منها دون شك، أمعاء أولئك الأسلاف في مراقدهم النائية.
    يقول له عبد الحي، وقد كان يحضر للدكتوراه في الاقتصاد في جامعة أوكسفورد، بلهجة فلاحي الدلتا التي يعتز بها:
    'ياصعيدي ياقبطي يا ابن ال.... والله عال. بقي إنت تجي بلاد الإنكليز آخر الزمن وتتزوج مين؟ حفيدة سير توماس مور؟'...
    يترجرج جسم 'منسي' الذي بدأت تظهر عليه آثار النعمة، ويتقلص وجهه المستدير، ويشيع في عينيه الوقحتين ضحك طفولي كان من مكونات جاذبيته:
    'إنت أصلك فلاح ماتفهمش حاجة، تفتكر دي حكاية كبيرة؟ طظ. وإيه يعني سير توماس مور؟ ثم ماتنساش إني أنا من سلالة ملوك الفراعنة في صعيد مصر'.
    'إنت من سلالة ملوك الفراعنة؟ أنت من سلالة شحاتين في الصعيد'
    'اسكت يافلاح. قال ايه؟ جايي يعمل دكتوراه في الاقتصاد جاتك نيلة إيه اللي عرف الفلاحين في الأقتصاد؟'.
    (3)
    كانت في 'منسي' خصلتان حميدتان، حبه للبسطاء وحفاظه للود وقد ظل طول حياته يحتفظ بكل الصداقات التي كونها منذ بداية حياته ويضيف صداقات جديدة، كانت قدرته مذهلة علي التعرف بالناس واصطناع الأصدقاء والاحتفاظ بهم. وكان أصدقاؤه من مختلف الأجناس، وشتي المذاهب والمشارب والأقدار والمراتب وكانوا كلهم عنده سواسية، الأمير مثل الفقير، يعاملهم ببساطة ودون تكلف إلا أنه كان يعني بالفقراء والأطفال عناية خاصة، ويكون معهم علي سجيته تماما، ومع الأطفال يكون كأنه طفل. لقد زار الدوحة أو لعهدي بها، منذ خمسة عشر عاما وتعرف بطريقته العجيبة علي عدد كبير من الناس في وقت قصير.
    كلهم مازالوا يذكرونه ويسألون عنه، خصوصا بين سائقي سيارات الأجرة كان يترك أثرا عند الناس لاينسي، أثرا حسنا في الغالب، وفي أحيان قليلة شيئا من الضيق والنفور ولكن مهما كان الأمر فإن كل من يتعرف به لاينساه أبدا.
    لذلك كان يجد أصدقاء حيثما ذهب حين رافقني في رحلتي إلي الهند وإلي أستراليا، وهي قصة سوف أرويها فيما بعد، زاره شاب في الفندق الذي أقمنا به في سيدٍني كان الشاب يخاطبه باحترام بالغ لفت نطري، فسألت 'منسي'، فقال:
    'هذا ابن فلان الجزار، تذكر الجزار في سلïونٍ ستريت؟'
    أول مرة وافقت فيها 'منسي' إلي محل ذلك الجزار أعطاني كمية عظيمة من اللحم وطلب مني مبلغا ضئيلا قلت للرجل:
    'لابد أنك أخطأت في الحساب هذا اللحم يستحق أكثر من هذا بكثير' تلفت الرجل حوله، وكان المحل مزدحما بالزبائن قال لي: 'نعم أنا آسف'.
    ثم أعاد اللحم إلي مكانه ووزن لي الكمية التي طلبتها، وتقاضاني ثمنا كبيرا عليها، ولما خرجنا قال لي 'منسي' غاضبا:
    'إنت مش حتبطل التغفيل بتاعك دا؟ الرجل عاملك معاملة خاصة لأني فهمته أنك صاحبي'.
    'طيب يأخي مش كنت تفهمني؟ أنا ظنيت أنه أخطا فعلا إيه عرفني إنك بتعمل شغل الأونطة حتي مع الجزارين'.
    لكن لم يكن ذلك 'شغل أونطة' فقد كان الرجل صديقه، كما علمت فيما بعد، وقد أقام عنده أول قدومه إلي لندن، وأصبح كأنه فرد من أفراد عائلته وظل 'منسي' وفيا لتلك الصلة طول حياته ولما فتح الله عليه، كان من بعض هداياه إلي صديقه الجزار، سيارة 'روفر'.
    في سيدني، سألت 'منسي' لماذا يعامله الشاب بذلك الاحترام المبالغ فيه، فأجابني:
    'لأنني أنقذته من مصير قاتم، وأنا السبب في أنه درس في الجامعة وأصبح مهندسا'.
    ولما استوضحته أكثر، حكي لي أن صديقه الجزار كان ينتمي إلي جماعة دينية متزمتة تعيش بمعزل عن الناس ولا تتعامل معهم إلا في أضيق الحدود ويرفض أفرادها أن يدخلوا أبناءهم المدارس وقد ظل 'منسي' يحاور الرجل حتي غير فكره وأخرجه من الجماعة كلية، وأقنعه بإدخال ابنه المدرسة وكان ابنه الأكبر.
    يقول 'منسي':
    'لولاي لكان هذا الشاب الآن جزارا في سوق 'سمًثٍفيلد' أو عتٌîالا في ميناء لندن'.
    قلت له:
    'كنتî أدخلتî الرجل الإسلام بالمرٌîة وكسبت أجرا'.
    يقول 'منسي' ضاحكا:
    'أيامها كنت كافرا، ولو كنت مسلما، كنت أدخلته الإسلام بس ما تنساش إني أنا أدخلت عشرات في الإسلام في أمريكا'
    وأقول له:
    'سبحان الله ربنا حكمته بالغة يتحول واحد كافر زيك إلي داعية للإسلام'.
    يضحك بمتعة حقيقية فقد كانت تناقضات الحياة تستهويه وتنعش روحه كما ينتعش النبات بالماء، يقول:
    'تصور واحد زيي يتجوز واحدة من الأشراف، وانتو المسلمين أولاد المسلمين اللي متجوز انكليزية واللي متجوز سويسرية واللي متجوز مش عارف إيه'.
    زارته أيضا سيدة مصرية مع زوجها الأسترالي وقد حكي لي 'منسي' أنه كان يعرفها ويعرف عائلتها أيام كان طالبا في جامعة الإسكندرية وأنه لم يرها منذ ثلاثين عاما، تذكرا أيامهما في الإسكندرية، والسيدة تضحك بسعادة، وهويسألها عن أفراد عائلتها، ماذا حدث لفلان وأين فلانة الآن، والزوج يبتسم، والزوجة تقول لزوجها:
    'هذا هو مايكل الذي طالما حدثتك عنه كان يحبني ويريد أن يتزوجني أليس كذلك يا مايكل؟'.
    وأقول له باللغة العربية:
    'أنت حترجع مايكل تاني وإلا إيه؟ مش خلاص أسلمت وبقي اسمك أحمد؟'
    يظل يضحك، فقد كانت سيدني جميلة في تلك الأيام، وكان هو في أحسن حالاته، وقد عاد الزمن ثلاثين عاما إلي الوراء وماذا يهم إن كان اسمه 'مايكل' أو 'أحمد'.
    ذلك لم يمنعه من أن يدعو كل أولئك الأصدقاء القدامي الذين اكتشفهم في سيدني، علي حسابي كان يدعوهم للغداء أو العشاء ويوقع الفاتورة علي رقم غرفتي وقد أسعده ذلك سعادة فائقة، وظل يحكي القصة بعد ذلك مرارا وتكرارا ويضحك كل مرة بالطريقة نفسها فلم يكن أحب إليه من أن يبرهن علي أنه 'حدق' وأنني 'مغفل'.
    بتلك الطريقة، أصبح 'منسي' شخصية معروفة في كل منطقة جنوب غربي لندن بل وأبعد من ذلك كان معروفا في 'وست كنزنجتن' و'ايرلز كورت' و 'ساوث كنزنجتن'و 'تشلسي'و 'سلون'
    و'بلجرافيا'و ' ماي فير' يعرف بائعي الخضار والجزارين وأصحاب المطاعم والحانات والمقاهي، والأطباء والممرضات في المستشفيات، ورجال الشرطة والعمال والعاملات في المحلات التجارية وأصحاب محلات البقالة والممثلين والممثلات وأعضاء في البرلمان وأساتذة في الجامعة ورجال دين وأصنافا لا تحصي من البشر ولم تكن معرفة سطحية كانوا جميعا أصدقاءه يزورونه في داره ويزورهم في دورهم طاقة هائلة نادرة المثال، طاقة 'نابوليونية' كما كان يقول، وسيارة مثل فقاعة الصابون وتسمي 'الفقاعة' (Bubble Car) ظهرت لفترة قصيرة تلك الأيام ثم اختفت كانت له 'عجلة' أول مجيئه إلي لندن، وبعد أن تزوج وانتقل إلي 'سيدني ستريت' وتحسنت أحواله نسبيا، اشتري تلك السيارة العجيبة كنت أكون معه أحيانا فننحشر في عز الزحام في بيكاديللي بين حافلتين من باصات لندن الحمر الضخمة ذوات الطابقين. يثير منظر تلك السيارة القميئة المكورة بسقفها الزجاجي ونحن قابعان في جوفها، سخرية الركاب من وراء ومن أمام ويتحول ميدان 'بيكاديللي' إلي سيرك، الناس يهتفون والسيارات تزمر، ونحن حبيسان في تلك الفقاعة، و'منسي' يضحك ويضحك.





    (4)
    كان باب شقتنا في 'ثيرلوبليس' قبالة متحف فكتوريا وألبرت، يفتح علي الممر الذي يؤدي إلي الدار الفاخرة التي تسكنها 'مارقو فونتين' فنانة الباليه الشهيرة مع زوجها سفير بناما. كانت شقة واسعة تحت الأرض Basement تقاسمتها مع صلاح أحمد محمد صالح، ولما عاد إلي السودان تركها لي، فسكن معي محمد إبراهيم الشوش كان صاحب الدار، مستر 'بومبيرغ' وهو أخو الرسام المعروف 'ديفد بومبيرغ' يزورنا أحيانا أو آخر المساء مع زوجته، وتتحدث في الفن والشعر والأدب والمسرح والسياسة، وما شئت من أحاديث يسوقها شرخ الشباب وهدوء البال وانفتاح الشهية للحياة لم أشتر الشقة لسوء الحظ كما نصحني مستر بومبيرغ بذلك الثمن القليل الذي عرضه إكراما لتلك الأمسيات، وكان ذلك واحدا من القرارات الكثيرة الخاطئة والفرص الضائعة والآن وقد أخذ العمر يتقاصر ويستطيل ظل الماضي، أنظر إلي الوراء فأري تلك الأخطاء تشرئب بأعناقها كالجبال عند خط الأفق، يضحك 'منسي' ويقول لي:
    ' إنت حتفضل مغفل إزاي تضيع فرصة زي دي؟ ولعله كان علي حق، فمن غير 'مغفل' مثلي يدفع فواتير الحساب لرجل مليونير مثل 'منسي' كما فعلت في 'سيدني'؟!
    كنت أري 'مارقو فونتين' رائحة أو غادية في سيارتها ال 'رولز رويس' فتحييني وأحييها علي البعد، ولم يخطر علي بالي أن أذهب أكثر ولم أقابلها وجها لوجه وأتحدث إليها، إلا بعد عامين من سكني جوارها وكان ذلك في دمشق، أما 'منسي' فما أن أدرك أنها جارتي حتي سارع بالتعرف عليها وعلي زوجها وصار يزورهما ويزورانه كذلك تعرف علي الممثل الأسترالي المعروف 'بيتر فنش' و الممثل الإيرلندي الشهير 'بيتر أوتول' وكانا يسكنان قريبا منه في 'تشلسي' كان حي 'تشلسي' تلك الأيام محط الرسامين والشعراء والكتاب والممثلين، ثم ارتفعت أسعار السكن في السبعينيات فهاجروا بعيدا إلي شرق وشمال لندن، وبعضهم ذهب إلي الريف لم يكن عسيرا علي 'منسي' أن يتوغل في ذلك المجتمع الجذاب، وهو مجتمع منفتح بطبيعته، أقل نفورا من الإنسان الأجنبي، من المجتمعات الإنكليزية الأخري.
    وهب أنه لم يكن كذلك، فهل كان الأمر يستعصي علي 'منسي'؟ أبدا انه الان علي أي حال مسلح تسليحا غيرعادي فهو، إضافة إلي جرأته ولغته الإنكليزية المطواعة، يسكن في شارع معروف في حي عريق، ووراءه أصهاره الأماجد، ثم زوجته عازفة البيانو المعروفة في الأوساط الموسيقية العجيب أن 'ماري' زوجة 'منسي' لم تكن تكترث، بالوسط الفني ولم يكن يبدو علي سمتها أنها 'فنانة' كانت سيدة بيت عادية، تجدها دائما تكنس أو تغسل أو تطبخ، بينما هو يتصدر المجلس يتدفق في الحديث عن الرسم والشعر والمسرح والموسيقي وماشابه.
    عن طريق هذه الصلات الواسعة، حصل علي أدوار صغيرة في السينما، كان يهول لنا الأمر، كأنه هو البطل، ثم نذهب ونشاهد الفيلم فإذا 'منسي' سائق تاكسي في القاهرة أو 'جرسون' في مقهي في بيروت، وإذا دوره لايتجاوز دقيقة أو دقيقتين ولو كانت عنده أدني موهبة في التمثيل لحملته تلك الصلات بعيدا، ولكنه كان ممثلا موهوبا في الحياة فقط، أما في 'الفن' فكان شيئا آخر ما أن يقف أمام الميكرفون أو الكاميرا، حتي يصبح فاترا أويبالغ في الاداء فيبدو سخيفا. كان جمال الكناني رحمه الله، وقد كان رئيسا لقسم الدراما في الأذاعة تلك الأيام، يحبه ويعطيه دورا في أي تمثيلية يخرجها، ليستمتع بمعابثته وشتمه كانوا كلهم يشتمونه يبدأون حديثهم معه بيا كذا، وياابن كذا يصرخ جمال كناني 'ياواد يا ابن.... أنت طول الوقت عمال تتنطط وتترقص وأول مايولع النور الأحمر ويبدأ التسجيل تتهمد. الله يخرب بيتك ماتحط شوية من الأونطة دي في الشغل'.
    لكن 'منسي' لم يكن يستطيع، فالحياة شيء والفن شيء، والأونطة قد تصلح في الحياة، ولكنها لاتصلح في الفن أبدا في الحياة، يمثل بالسليقة، وكأن قوي غير مرئية تسنده يجازف ويتخطي الحواجز، ويذهب أبعد مما يجب، تماما كما يفعل الشعراء الموهوبون ولو أنه رضي بذلك الدور الذي هيأته الحياة له، لعله كان ينجز أكثر مما أنجز بكثير وأنا لا أشك، أنه كان في متناول يديه لو أراد، أن يصبح من أساطين التجارة والمال لكن 'منسي' كان يريد أن يحيا وأن يكتب وأن يمثل، وفوق كل شيء، أن يضحك، كانت تلك متعته الحقيقية، أن يحول أحداث حياته إلي مادة للضحك ولم تكن تراه أسعد حالا منه وهو يتصدر مجلسا والناس منجذبون إليه وهو يحكي لهم بعض ماحدث له ذلك كان مسرحه الحقيقي ويستحسن أن يوجد شخص، مثلي، يكون شارك في تلك الأحداث، لكي يذكره ويذكي جذوة حماسته:
    'احك لهم ياطيب لما سافرنا لبيروت، حصل إيه في المطار' هذا معناه أنه يريد أن يحكي هو القصة، فأعطيه طرف الخيط، وأضيف شيئا من حين لآخر، وأوجهه الوجهة التي يريدها بالفعل لذلك فإضافة إلي أنني كنت 'أبا روحيا' له، فقد كنت أقوم بدور الممثل المساند في العروض الكوميدية، كما عند 'لوريل وهاردي' و'موركم ووايز' تجد شخصين في هذا النوع من الكوميديا، بينهما تباين واضح جسميا وعقليا فالنحيل إزاء السمين والطويل إزاء القصيرواحد ذكي واسع الحيلة يخرج من المشكلات مثل الشعرة من العجين، والثاني 'أهبل' يتعثر فيقع ولايدري أين الباب فيخبط رأسه في الحائط، وهو الذي تقع علي رأسه المشكلات، عموما. هذا كان دوري، وأعترف أنه دور قمت به ظللت أسايره وأراقبه بحيرة ودهشة وضيق في بعض الأحيان ومتعة بصحبته في أحيان كثيرة لقد كان مثلي في هذا كل أصدقائه الحميمين، ولكن لعلي كنت الوحيد بينهم الذي قبله علي علاته و أخذه مأخذ الجد.
    إنما 'منسي' نفسه لم يأخذ الدور الذي هيأته الحياة له مأخذ الجد وأراد أن يلعب أدوارا لم يكن مهيأ لها وكان حين يخطيء في الحياة يخطيء لأنه يتصرف ك 'فنان' في ذلك الفن الحقيقي الموهوم، فيصبح مثل ممثل علي المسرح ينسي دوره ويتلعثم ويفقد حاسة التوقيت والقدرة علي الاستجابة لذلك اكتفي ببضعة ملايين بدلا من مليارات، وبقصر واحد بدلا من قصور ويخوت وطائرات خاصة وبنوك وشركات والآن، وقد مات فجأة مثل حصان سباق كبا ولما يبلغ نهاية الشوط، أعود فأقول، إنه كان حكيما بل زاهدا بدرجة ما، فماذا يضير الإنسان بعد الموت أنه لم يترك وراءه شيئا؟ وماذا يجديه أنه ترك مليونا أو مليارا؟
    كان يكتب تمثيليات لاقيمة لها نقبل بعضها ونرفض معظمها وأذكر أنه كتب مرة تمثيلية عن رجل صادف رجلا يهم أن ينتحر بإلقاء نفسه في النهر من الجسر، فأخذ يحاوره إلي أن أقنعه بعدم الانتحار ذهب الثاني إلي حال سبيله، وانتحر الأول بأن ألقي بنفسه في النهر، كان 'منسي' سعيدا بها، ولكنني حين قرأتها وجدتها ميتة ليس فيها حياة، وكان متأثرا تأثرا واضحا بالكاتب المسرحي 'سامويل بيكت' دون أي شيء قريب من فكر 'بيكت' وأعماقه الفلسفية، لذلك رفضتها وعجبت حين علمت فيما بعد أن منسي عرضها مترجمة إلي اللغة الإنكليزية، علي 'سامويل بيكت' شخصيا، وأن ذلك الكاتب العملاق الذي أحدث فتحا حقيقيا في المسرح العالمي بمسرحيته 'في انتظار غودو' قد قرأها بإمعان وناقش 'منسي' عنها باهتمام، وأنه أثني عليها وقال له:
    'هذا عمل جميل لافت للنظر'.
    (5)
    لولا 'منسي' رحمه الله وغفر له، لعل الرياح كانت تمضي بي رخاء في عملي في هيئة الإذاعة البريطانية. كنت سعيدا، مرضيا عني، يضرب بي المثل. وقد رفعوني إلي رتبة مساعد رئيس قسم ولما أبلغ الثلاثين، وكان ذلك أمرا عزيزا تلك الأيام. أصبحت أحضر اجتماعات رؤساء الأقسام، ولي مكتب مستقل وسكرتيرة. شاهدت حفل تتويج الملكة من داخل بيعة 'وستمنستر ابي' مع علية القوم الذين دعوا إلي تلك المناسبة من الشرق والغرب، وبعدها جالست رؤساء ووزراء في الحفل الذي أقيم في 'وستمنستر هول'. صحيح أن الزي الذي ارتديته لتلك المناسبة، كان 'عارية' مستأجرا من محلات 'موس برذرز' في 'كوفنت غاردن'. سترة سوداء ذات ذيل تجعلك تبدو مثل طائر البطريق، وقبعة طويلة وياقة منشاة. وصحيح أنني بعد أن انتهي الحفل وانفض السامر، جاءت السيارات الفاخرة تحمل أولئك الرؤساء والوزراء. أما أنا فقد سرت علي قدمي الي محطة القطار الذي يسير تحت الأرض، وكان القطار مزدحما، فظللت واقفا والناس يعجبون مني وأنا في زي الوجهاء ووضع الدهماء. ذلك وضع كان أليق بمنسي. إذا لاستغله أحسن استغلال وحوله إلي قصة أخري تروي. لكنني علي أي حال تمتعت بذلك العالم السحري في ذلك اليوم القصير، وما كنت أعلم أن الحياة كانت تعابثني مثل امرأة لعوب، كما ظلت لأنها كانت تراودني لأمر لم يكن يخطر لي علي البال.
    كذلك كنت أول عربي يرسلونه إلي نيويورك ل'تغطية' اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ذلك الحدث المشهود الذي أمه معظم زعماء العالم، وكنت شاهدا حين خلع نيكيتا خروشوف حذاءه، وضرب به المائدة احتقارا، ورئيس وزراء بريطانيا واقفا يخطب. رأيت أعضاء نيجيريا يدخلون القاعة في ثيابهم الفضفاضة، والدنيا لاتسعهم من الفرح،
    يتقدمهم ذلك الرجل الوقور سير أبوبكر تفاوا بليوه. كانت نيجيريا قد استقلت توها وقبلوها عضوا في منظمة الأمم المتحدة. ذبحوه ذبحا بعد ذلك، كما ذبحوا احمدو بللو السردوانا الجليل في هوجة من هوجات الجند التي يسمونها ثورات. وكنت شاهدا حين أعلن داغ همرشولد الأمين العام للأمم المتحدة أنه لن يستقيل كما طالب الاتحاد السوفياتي. مرت الأعوام ولعبت الولايات المتحدة الدور نفسه إزاء صاحبنا أحمد مختار امبو مدير عام منظمة اليونسكو. يومذاك في نيويورك شن خروشوف حربا شرسة ضد همرشولد واتهمه بأنه ذيل الغرب وأنه مسؤول عن مقتل باتريس لومومبا وكل المآسي التي حدثت في الكونغو. وأذكر جملة قالها همرشولد في خطابه القصير الذي أعلن فيه أنه باق في منصبه. قال موجها حديثه إلي زعماء دول العالم الثالث 'هذه المنظمة لم تقم لخدمة الدول الكبري. إنها أنشئت لخدمتكم أنتم، فأنتم الذين تحتاجون إليها لا الدول الكبري'.
    كان العرب في ذلك الاجتماع مجمعين علي نصرة القضية الفلسطينية وتأييد كفاح الجزائر الذي كان قد أينع وحان قطافه، ومختلفين علي كل ما عداهما. لكنني كنت غض الاهاب جدا، وكذلك العالم العربي، ومصر وسورية متحدتين، ودمشق 'الفيحاء' فيحاء بحق وحقيق، والقاهرة الظافرة تصنع أحلاما وتبدو كلها قريبة المنال. صلاح جاهين يكتب وأم كلثوم تغني، وعبدالوهاب، وصباح تهتف، كأنها تصدق ماتقول 'أنا عارفة السكة لوحدية، من الموسكي لسوق الحميدية. مسكين سوق الحميدية كان تلك الأيام حول الجامع الأموي العتيد، كما كان علي أيام هشام بن عبدالملك. لم يكونوا قد أزالوا بعد، ذلك الماضي السحيق العريق ولم يشقوا طرق الإسفلت. ولبنان كأنه في حلم جميل لن ينتهي. المال يتدفق من كل الجهات، كما قال الشاعر القطري 'البيب فاض ومصب السيل لبنان'، والمصارف لاتدري أين تضع 'البيزات'، والليرة مثل الذهب، والمطاعم والمراقص والملاهي غاصة بالخلق من مغيب الشمس حتي مطلع الفجر، ونساء بيروت علي طول الساحل يستقبلن شمس البحر المتوسط وكأن ذلك الزمان الرغد سوف يدوم إلي الأبد، كان أخونا نزار قباني يكتب شعرا يبكي العذاري في خدورهن ويجعل العجائز يتحسرن علي شبابهن، وقال بيتين سار بهما الركبان:

    أيلول للضم فمد لي زندك
    هل أخبروا أمي أني هنا عندك
    آه ياصفاء. ما أقسي ماعبثت بي وبكم الحياة منذ ذلك العهد!
    أجل كانوا أحفياء بي حقا. أرسلوني لفترات طويلة إلي مكتبهم في بيروت، وكانت تلك ميزة لاينالها إلا أصحاب الحظوة، وحاضرت في معهد التدريب مرات عدة، وكان مستر ووترفيلد رئيسنا الأعلي يقول لي ضاحكا:
    'إنهم دعوني مرة واحدة ثم لم يدعوني بعدها. لماذا أنت دعوك مرة وثانية وثالثة'؟.
    كان نصيبي من السفر في مهمات رسمية أكثر من غيري، وكان كلما يجد أمر يضفي بريقا ويزيد من الحسنات التي تسجل في التقارير السنوية. يقولون 'فلان' في معظم الأحيان.
    لاعجب إذا أنني كنت مغتبطا بوضعي، راضيا عن نفسي. أري الدنيا مثل حسناء مرغوبة تدعوها فتستجيب.
    وبينا أنا كذلك، إذا بمنسي، رحمه الله وغفر له، يعرض لي كما عرض إبليس لآدم عليه السلام في الفردوس.





    (6)
    دخلت مكتب مستر ووترفيلد فإذا هو ومساعده ومعهما مراقب الإدارة للإذاعات الخارجية. كان رجلا مرهوب الجانب، لا يظهر عندنا إلا إذا طرأ أمر جلل، ولم يكن بيني وبينه ود، فقد كان يعتقد أنني مدلل أكثر مما يجب وأنني لا أعبأ كثيرا بالنظم الإدارية. لم يهش مستر ووترفيلد في وجهي كعادته، وأشار إلي بالجلوس. نظر إلي مراقب الإدارة نظرة صارمة من وراء نظارته السميكة. ولم يمهلني طويلا، ولكنه ناولني في صمت رزمة من الأوراق. قلبتها وأنا لا أعلم حقيقة الأمر، فإذا هي جميعا أوامر دفع باسم مستر 'بسطاوروس' نظير اشتراكه في عدد من البرامج، وكلها ممهورة بتوقيعي. لم يلفت انتباهي فيها شيء فأعدتها إليه، أعطاني إياها مرة أخري وقال لي:
    'تفحص الأوراق جيدا'.
    درستها علي مهل، وأنا أعمل فكري محاولا أن أجد تفسيرا لهذه المحاكمة. كان من الواضح أنها محكمة إدارية وأن أمرا خطيرا قد حدث. فإلي جانب وجود ذلك الموظف الكبير، كانت في ركن المكتب سكرتيرة تسجل مايدور. أيضا لم ألاحظ أي شيء غير عادي، ولما فرغت رفعت رأسي ونظرت إليه نظرة لابد أنها نمت عن إحساس تجاهه، فقد سارع مستر ووترفيلفد، وقد كان كريما معي دائما وابتسم لي ابتسامة خفيفة جدا كأنه يقول لي 'طول بالك'. كان مسترووترفيلد كما حدثتكم في مكان آخر، كاتبا، وكان منصب رئيس الإذاعة العربية أقل منه بكثير، وكان في قرارة نفسه يحتقر البيروقراطيين ويضيق بالتزمت الإداري، وقد خاض معارك عدة ضد هذاپالرجل بالذات.
    قال لي مراقب الإدارة بصوت بارد، كما يكون صوت الإنكليزي باردا حين يخلو من الود:
    'هذه التوقيعات هي توقيعاتك، أليس كذلك'؟.
    'نعم'.
    'ألم تلاحظ أي شيء غير عادي'؟.
    'ماذا تقصد أي شي غير عادي'؟
    'الأجور المطلوب دفعها مثلا'.
    'مالها الأجور المطلوب دفعها'؟
    'كم تدفعون لممثل من الدرجة (ألف) علي تمثيلية طولها نصف ساعة؟
    'ندفع كذا'.
    'وإذا كان موظفا في هيئة الإذاعة البريطانية'؟
    'ندفع له ثلث الأجر'.
    'انظر إلي الأجور التي دفعت لمستر بسطاوروس علي مدي...'.
    قال هذا، وناولني الأوراق. نظرت فيها فإذا هي أجور كاملة.
    'هل كنت تعلم أن مستر بسطاوروس­ أو مستر مايكل أو مهما كان اسمه، موظف في هيئة الإذاعة البريطانية ويعمل محررا في قسم الاستماع للإذاعات الأجنبية في كافرشام؟'.
    صمت وقد بدأت أفهم جسامة الخطأ الذي وقعت فيه. ومع أنني لعنت 'منسي' في سري، فإنني لم أفكر طويلا، فقد كنت غرا، وقد أخذتني العزة بالإثم، ولعلني قلت لنفسي 'إن كان هذا (الخواجا) متعجرفا فبوسعي أن أجهل فوق جهل الجاهلينا، وأسوأ ما يمكن أن يحدث في أن أستقيل وأعود أدراجي من حيث أتيت وأرتاح من التناقضات ووجع القلب'. قلت له، وقد استقر عزمي علي الاستبسال، كما يفعل 'أولاد العرب' عندنا حين يخرب الأمر:
    'نعم'.
    التفت إليٌî مستر... مساعد رئيس القسم فجأة، وأعاد علي السؤال بلؤم وبطء:
    'هل كنت تعلم أن مستر بسطاوروس موظف في هيئة الإذاعة البريطانية ويعمل محررا في قسم الاستماع في كفرشام؟'.
    هذا 'الخواجا' أيضا لم يكن بيني وبينه ود أو علي أحسن الفروض كانت علاقة متأرجحة تحسن أحيانا وتسوء في غالب الأحيان. لم يكن من 'العروبيين' كما كانوا يسمون، أمثال مستر ووترفيلد ومستر هوايتهد، أولئك الرجال والنساء الذين عاشوا سنوات شبابهم في العالم العربي، وتعرفوا علي العرب عن قرب وأحبوهم، كان هذا متخصصا في الشئون الألمانية، رجلا متوقد الذهن وراءه تاريخ أكاديمي مشرق. ولكن يبدو أن أشياء قد حدثت له عكرت عليه صفو حياته. وقد عمل معظم وقته في أقسام الاذاعات الموجهة الي شرق اوروبا، وهي اذاعات كنا نعدها اقرب الي وزارة الخارجية منها الي هيئة الإذاعة البريطانية. وقد كان كفاحنا نحن العرب تلك الأيام، يؤيدنا في ذلك مستر ووترفيلد ومستر هوايتهد. منصبا علي إبعاد القسم العربي عن نفوذ وزارة الخارجية وجعله خدمة اذاعية حقيقية.
    كان انسانا متناقضا مستفزا يستدرجك إلي النقاش، فإذا انسقت له وعبرت عن رأيك بصراحة، فجأة يقلب لك ظهر المجن. وكان يزعم أنه مفكر متحرر، ويقول لكل من يقابله من الزوار العرب:
    'أنا رجل راديكالي الفكر، أنتمي إلي اليسار المتطرف من حزب العمال'.
    هذا كان يغيظه، كما قدرت، وقد ناداني مرة إلي مكتبه وقال لي:
    'أنت تحرجني بهذا الكلام'.
    وأقول له، مستندا إلي 'أصول اللعب' الإنكليزي:
    'ولكن يامستر... هذه دعابة. ألا تقبل المزاح؟ ألستم تقولون إنكم تمتازون علي سائر الأمم بروح الدعابة؟'.
    إنني أدرك الآن أنني كنت 'لا مباليا' أكثر مما يجب، ربما لأنني كنت أعي تناقض وضعي، خصوصا في سنوات الغليان القومي تلك في العالم العربي، وكأنما كل نجاح أحرزه في عملي مع الإنكليز، يزيد وضعي تعقيدا، وكأنني كمن يهدم اليوم بيديه ما بناه بالأمس. وذلك سلوك لم يكن يقدره أو يحتمله إلا رجال 'كبار' حقيقة، أمثال، مستر ووترفيلد ومستر هواتيهد.
    قلت له:
    'نعم'.
    نظر بعضهم إلي بعض بطريقة لم أفهم مغزاها إلا فيما بعد.
    سألني مراقب الإدارة وهو يتصنع الرفق، وقد حق له أن يتصنع الرفق، فقد وضعني ، كما خيل له، في مأزق لامخرج منه:
    'هل كان مستر كناني يعلم؟'.
    كان جمال الكناني، رحمه الله، العربي الأول في القسم تلك الأيام، مسنودا سندا كاملاî من مستر هوايتهد ومستر ووترفيلد، يفعل مايشاء ولايبالي، وكانت كراهية مراقب الإدارة هذا له ربما تفوق كراهيته لي، لذلك، من الواضح أنه يريد أن يقتل عصفورين بحجر واحد، قلت له:
    'لا أعلم'.
    'كيف لاتعلم؟ ألست مساعده وتقوم مقامه في غيابه؟ ألم تتحدثا أبدا في هذا الموضوع؟'.
    'لا'.
    نظر بعضهم إلي بعض مرة أخري، وقال لي مساعد رئيس القسم بسماحته المعهودة:
    'مستر بسطاوروس صديقك، أليس كذلك؟'.
    هنا سارع مستر ووترفيلد إلي نجدتي. نظر إلي مساعده نظرة صارمة، وقال له:
    'علي رسلك يافلان'.
    (7)
    ليتني، غفر الله لي، أكون ولو ممسكا بخطام بعير سيدنا عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. ذكروا أن رجلا في الطريق، فلم يرد عليه وظل سائرا والرجل يتبعه ويسبه. فلما وصل سيدنا عبدالله بن عمر إلي داره التفت إلي الرجل وقال له: 'يا هذا. أنا وعاصم أخي لانسب الناس'. وأكثر مايهزني في هذه القصة أنه قال: 'أنا وعاصم أخي' ولك ان تتخيل أنه لم يرد أن ينفرد بالفضل، وأنه ذكر أخاه في ذلك السياق لفرط محبته له، وكأنه معه، يستحضره في جميع أحواله. وعاصم هذا كما نعلم هو جد عمر بن عبدالعزيز. لامه، من تلك الأعرابية التي أبت أن تغش اللبن وقالت لأمها 'إن كان عمر لايرانا فإن الله يرانا'. فرأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بفراسته ماپرأي، فزوجها من ابنه وجاء من ذريتهما أشجع بني مروان، الذي أوسق الدنيا عدلا، زمنا قصيرا ليته طال، إلي أن مات أو قتل. تلك ذرية بعضها من بعض. ذلك لأن من حسناتي القليلة، عفا الله عني، أنني لست شتاما أو صخابا في الأسواق. بيد أن منسي يومئذ، أخرجني عن طوري. لقد قطع علي طريقي، وظهر فجأة مثل الشيطان ليفسد علي ذلك الحلم الجميل. هأنذا الآن متهم بالتقصير الإداري وهو تقصير واضح لا مراء فيه. لكنه محتمل، الذي لا يحتمل هو أنني متهم في أمانتي وقد كنت أظنها فوق الشبهات.
    'مستر بسطاوروس صديقك، أليس كذلك'؟
    هكذا قال مساعد المدير. ومع أن مستر ووترفيلد الكريم هب لنجدتي، فإن الضرر قد وقع والكلام قد قيل إن حقا وإن كذبا.
    بل إن الأمر كان أكثر فداحة، فقد علمت فيما بعد أنهم استجوبوا قبلي، جمال الكناني رئيس القسم، وكان رغم نضجه وتجربته الطويلة قد وقع في الخطأ نفسه. قال إنه لم يكن يعلم أن 'منسي' موظف في قسم آخر في هيئة الإذاعة البريطانية. كل المسئولين في القسم أنكروا أنهم يعلمون، وهذا يعني أنني خرجت علي إجماع المسؤولين في القسم فأغضبهم ذلك، وقبلت تهمة التقصير، ووضعت نفسي في وضع مريب.
    لذلك خرجت عن طوري، وشتمت 'منسي' أقصي ما أعانني عليه طبعي. لكنه لم يأخذ الأمر مأخذ الجد. واعتبره نكتة وشطارة و 'شغل حلبسه' لقد أربك كعادته، جهازا إداريا ضخما منظما تنظيما دقيقا. كانت أوامر الدفع تذهب من عندنا إلي الوحدة الإدارية في القسم للتدقيق والمراجعة، وهي بدورها ترسلها إلي القسم الإداري للإذاعات الخارجية ومن ثم تذهب إلي الجهاز الإداري المركزي، كان 'منسي' رحمه الله، يعمل في قسم الاستماع باسم 'مايكل' ويعمل معنا باسم 'بسطاوروس' وفي الوقت نفسه يعمل مدرسا للغة الانجليزية في مدرسة ثانوية باسم 'جوزيف'. وظل هكذا قرابة ثلاث سنوات، وكل اولئك الإداريين يدققون ويحسبون ويراجعون، ولا أحد يدري، إلي أن اكتشف بالصدفة المحضة. بعد ذلك، حين كان يسترجع هذه القصة كان أكثر ما يطربه فيها أنه كان يعلم الإنجليز لغتهم.
    كيف كان ينجز كل هذه الأعمال في وقت واحد؟ يتحرك بين أماكن متباعدة مستعملا سيارته ال ' فقاعة' تلك، فبينما تراه في 'كفر شام' علي بعد ساعة من لندن، إذا هو في أقصي شمال المدينة، ثم إذا هو عندنا في 'بش هاوس' فكأنك تراه ولا تراه، وكأنك تدري أين هو وكأنك لا تدري، لا عجب أن كل المسئولين في القسم أنكروا أنهم يعلمون. لقد كانوا فعلا لا يعلمون، وكانوا يعلمون في الوقت نفسه. وأنا لا أستطيع ان أوقن هل خالفتهم حماية لمنسي، أم خيل لي أنني أعلم بالفعل.
    أمضيت وقتا وبذلت جهدا بعد ذلك في إصلاح خطئي، ولكن تلك البحبوحة التي غمرتني لم تعد إلي سابق عهدها أبدا، فقد ظلت تلك الحادثة تلاحقني في التقارير السنوية زمنا ليس بالقصير. أما 'منسي' فقد خرج كعادته من القضية كلها كما تخرج الشعرة من العجين. وصل بطريقته إلي مدير الإذاعات الخارجية، وكان يعتبر الرجل الثاني في إدارة ال. B.B.C بأسرها، يأتي بعد المدير العام مباشرة. أقتحم علي مستر 'تانغي لين' مكتبه دون موعد، ولما عرفه بنفسه، قهقه الرجل بالضحك. قال له، كما روي لنا منسي، وهو يغرق في الضحك 'أنت الرجل الذي أدخل القسم العربي في ورطة كبيرة؟'.
    كان 'تانغي لين' هذا من الرجال 'الكبار' من فصيلة مستر ووترفيلد، ولم يكن إداريا بالمعني الضيق، ولكنه كان رجلا مستنيرا قضي فترة من حياته في مصر. وكان كاتبا مرموقا له كتاب مهم اسمه 'النابوليونيون' عن الإنجليز وقد كان علي صلة وثيقة بأوساط الكتاب والفنانين، فأخوه 'ديفيد لين' المخرج السينمائي المعروف الذي أخرج فيلم 'لورانس العرب' ولابد أن شخصية 'منسي' قد استهوته، فقد استماله تماما إلي جانبه ودعاه إلي داره وعرفه بزوجته وعياله، وسرعان ما أعيد 'منسي ' إلي عمله في 'كفر شام' وصدر أمر للقسم العربي بأن يرفعوا الحظر الذي كانوا فرضوه عليه.
    ظل 'منسي' علي صلة وثيقة به حتي مات. وقد رد له الجميل حين زار مستر 'تانغي لين' مصر، وكان 'منسي' يعمل وقتها أستاذا في الجامعة الأمريكية في القاهرة. سخر كل نفوذه وصلاته الواسعة لخدمته، فاستقبل كأنه رئيس وزراء، ورتب له طائرة خاصة حملته وزوجته إلي الأقصر وأسوان، ورافقه في كل تحركاته في مصر.
    إنني لم أكن أقابل مستر 'تانغي لين' إلا مرة واحدة في العام، حين كان يقرأ عليٌ التقرير السنوي. وكان حين يصل إلي الجملة التي ظلت تتردد في التقارير علي مدي سنوات، 'ولكن عليه أن يعتني أكثر بالمسائل الإدارية' يبتسم بلطف كأنه يقول لي:
    'لا عليك فأنا أعلم مصدر هذه التهمة'.
    (8)
    اقتحم 'منسي' بصخبه وضوضائه عالم 'سامويل بيكت' الهاديء المنعزل وكانت وسيلته إلي ذلك 'مسز باربرا براي' هذا الكاتب صاحب المسرحيات والروايات التي أصبحت معالم في مسيرة الأدب العالمي، يعيش في فرنسا منذ سنوات، لا يقابل إلا نفرا قليلا من الحواريين والأصدقاء، ولا يتحدث للصحف ولا يظهر علي شاشات التليفزيون. وحين فاز بجائزة نوبل قال مذعورا، 'الآن حلت اللعنة' وأختفي زمنا إلي أن هدأت الضجة وقد خطر لي منذ أعوام أن أجري معه مقابلة لمجلة 'حوار' التي كان يحررها المرحوم توفيق صايغ وطلبت من مسز باربرا براي أن ترتب لي لقاء معه. قالت لي:
    'سوف أرتب لك اللقاء. ولكن حين تقابل 'سام' سوف تدرك أنه يجب عليك ألا تصر علي إجراء حديث صحافي معه'.
    سألتها عن السبب فقالت:
    'سام رجل قديس، منطو علي نفسه وأفكاره، لا يفهم أمور الدنيا ولا يحفل بها، ويريد أن يترك وشأنه'.
    قدرت رغبته ولم أحاول بعد ذلك مقابلة 'سامويل بيكت'.
    قد يبدو هذا العزوف عن الناس غريبا من كاتب تقوم أعماله علي صعوبة التواصل بين البشر والعزلة الحتمية التي تلازم الكائن البشري مثل اللعنة في رحلته القصيرة في الحياة. هل لأنه نشأ كاثوليكيا في أيرلندا ثم ابتعد عن الحظيرة؟ أم لأنه صاحب عن قرب الكاتب الأيرلندي العملاق 'جيمس جويس' مؤلف 'يوليسيس'، الكاتب الذي ربما أحدث الثورة الوحيدة في دنيا الأدب في القرن العشرين؟ لقد أخذ 'سامويل بيكت' عن 'جويس' عنايته باللغة والذهاب بها كل مذهب، وكذلك نظرته العبثية للحياة، لكنه خرج عن طوق أستاذه وشق لنفسه طريقا طريفا نسيج وحده، وقدم رؤيا أدبية مريعة يبدو فيها الإنسان كأنه في صحراء يباب في ليل كوني حالك السواد، بلا نصير ولا معين. هذا كاتب عنده فترات الصمت بين الجمل أهم من الجمل نفسها، لذلك فهو لا يعطي مسرحياته إلا لمخرجين يثق بهم، وكثيرا ما يصر علي إخراجها بنفسه، وقد ظل في كتاباته يكثف ويحذف ويقلل من الكلمات ويزيد من الصمت حتي نشر مؤخرا عملا أسماه 'رواية' من صفحة واحدة فقط.
    هذا هو العالم الذي اقتحمه 'منسي'بلغطه وجلبته ومرحه، عالم علي النقيض تماما من عالمه. أم تراه كان كذلك حقا؟ وكانت وسيلته 'مسز باربرا براي'.
    هذه السيدة من الناس الأخيار الذين صادفتهم في رحلة الحياة، تعرفت بها عام 1954 أو نحوه بواسطة 'منسي'. كانت تعمل رئيسة لقسم النصوص في الإذاعات الداخلية في هيئة الإذاعة البريطانية، فاكتشف 'منسي ' وجودها فورا، وكانت قد درسته اللغة الإنجليزية في جامعة الإسكندرية. وإذا كنت أنا قد قمت بدور 'الأب الروحي' له فإن هذه السيدة كانت له بمثابة الأم. كانت علاقة مؤثرة حقا، يكون 'منسي' علي سجيته تماما معها، يضحك كالطفل، ويقص عليها كل ترهات حياته، وهي تضحك، ولا تجد غرابة في كل ما يقوله أو يفعله، وكان 'منسي ' علي صلة دائمة بها، يكلمها بالهاتف حيثما كان، ويمر عليها في باريس في كل سفراته ليقضي اليوم واليومين.
    تخرجت باربرا من جامعة كامبردج أواخر الأربعينات حيث درست الأدب الانجليزي، وعملت فترة هي وزوجها، محاضرين في جامعة الاسكندرية. وقد مات زوجها، وكان شاعرا موهوبا في حادث سيارة في اليونان، وترك لها طفلتين عكفت علي تربيتهما، فنشأتا نابغتين، درست الكبري اللغة الصينية وهي الآن من العلماء المعدودين في ميدان الدراسات الصينية، وتخصصت الصغري في اللغة العربية ونبغت فيها. وربما يعود غالب الفضل إلي 'باربرا براي' في اكتشاف الأسماء التي أصبح لها فيما بعد شأن كبير في المسرح الانجليزي، أمثال هارولد بنتر وجون آزٍدن وجون أوزبوزٍن فقد استغلت نفوذها كرئيسة لقسم النصوص في الترويج لأعمالهم وأخرجت بعضها للإذاعة في البرنامج الثالث. وإليها أيضا يعود الفضل في ذيوع شهرة 'سامويل بيكت' في أنجلترا. كان 'بيكت' معروفا في القارة الأوروبية وخصوصا في فرنسا، فهو يكتب اللغة الفرنسية بالجودة نفسها التي يكتب بها بالإنجليزية. لقد أحبه الألمان لأنهم وجدوا في القتامة الموحشة التي تشيع في أعماله شيئا صادف نزوعا في طبعهم، وأحبه الفرنسيون لأنهم أعجبوا بجرأته اللغوية، وأغوتهم موهبته، وهي موهبة يمتاز بها الكاتب الأيرلنديون عموما، في خلط الجد بالهزل ودفع الأشياء إلي ما وراء حدود المعقول. أما الإنجليز الأنكلوسكسون فقد أنتظروا إلي أوائل الخمسينات إلي أن فيض ل 'بيكت' أناس أمثال 'باربرا براي' يفتحون عيونهم علي أبعاد عبقرية هذا الكاتب الفذ.
    (9)
    ذلك الكاتب الكبير، ويا للغرابة، وجد في 'منسي' إنسانا يجذب اهتمامه ويستحق أن يقضي معه الساعة والساعتين، وأصبح 'منسي' بعد ذلك يشير إليه باسم 'سام' كأنه صديقه الحميم وكأنه يعرفه منذ سنوات.
    ماذا وجد 'سامويل بيكت' في منسي؟ إنه يبدو كأنه علي طرف نقيض منه. فهذا رجل مترهب قضي حياته يحدق في أغوار ذاته، ويعاني أوجاعا روحية وعقلية مفرطة. كل ذلك يظهر في وجهه الغريب، الحاد التقاطيع المليء الأخاديد، كأن الزمن حفر عليه بمعول. العينان اللامعتان، نظراتهما مركزة، فيهما خليط من التحدي والذعر، كأنه يحدق في شيء مهول لا يراه أحد غيره، لقد حدق الكتاب والشعراء والرسامون والفلاسفة قبله في تلك الهوة وأصيبوا بالذعر. بعضهم انتحر وبعضهم اصيب بالجنون، وآخرون لجأوا إلي وسائل شتي ليسروا عن أنفسهم. ولكن هذا رجل فعل ما فعله أبو العلاء الضرير، فأخذ نفسه بالشدة، وعاش في عزلة متفرغا تماما لهمومه العقلية والروحية. و 'منسي ' كما خيل لي، عاش علي سطح الحياة يركض من تجربة ليدخل في تجربة، ولا يلبث طويلا حتي يري ما تحت السطح، يثرثر ويضحك، وتحيط به أينما ذهب، جلبة وضوضاء، لكن من المؤكد أن 'بيكت' قضي جزءا من وقته يستمع إلي 'منسي ' ولابد أنه كان مستمعا، فإن 'منسي ' لم يكن يترك لأحد حتي 'بيكت' فرصة للكلام ومن المؤكد أيضا أنه قرأ كتابات 'منسي ' علي علاتها، ولعله وجد فيها شيئا جذابا، كما يجد كبار الرسامين أحيانا أشياء جذابة في رسوم الاطفال . ولعل ذلك الكاتب الذي يزن الكلمات بميزان، أعجب بجرأة إنسان يقول، ولا يبالي بما يقول.
    من حسن حظ 'بيكت' إن 'منسي' كان يلم بباريس كما يهب الإعصار، فيمكث اليوم واليومين ثم يختفي، و 'بيكت' يقضي معظم وقته في الريف فكان 'منسي' يصادفه أو لا يصادفه. ولكنه كان دائما يقابل 'باربرا براي' بل إنه كان يجيء إلي باريس خصيصا لمقابلتها. يكلمها بالهاتف أينما كان من واشنطن أو لندن أو القاهرة أو الرياض، ثم يحل فجأة ودائما يجدها كأنها تنتظره، كما تنتظر الأم أوبة طفلها، حين أكون في باريس كنت أحضر تلك المقابلات. يكون 'منسي ' علي سجيته تماما يضحك ويثرثر، وهي وأنا نستمع، وأنا أؤدي دوري المعتاد كممثل مساعد، أوقظ ذاكرته وأتم له جملة وأعطيه بداية القصة ليستهل هو في روايتها، تستمع باربرا وعلي وجهها حنو عظيم. تقول وهي تضحك ضحكتها الخجولة المهذبة:
    'أنت ومنسي يجب أن تشتركا في تقديم كوميديا علي المسرح'.
    وأقول لها:
    'مثل لوريل وهاردي'.
    ويقول 'منسي ':
    'أو أبوت وكوستيللو'
    كل مرة نكتشف معها مطعما جديدا في ذلك الحي من باريس الذي تعرفه كراحة يدها، مطاعم صغيرة، كل منها يتخصص في نوع معين من الطعام رخيصة الأسعار لا يؤمها السواح. آخر مرة اجتمعنا معا كان في مطعم يتخصص في الأسماك والأصداف، قريب من النهر، في الضفة اليسري. كان 'منسي ' يصطحب زوجته العربية المسلمة، ويحمل طفله عبدالعزيز علي كتفه، أسماه عبدالعزيز علي اسم الشيخ عبدالعزيز التويجري، فقد احتضنه ورعاه طوال مدة إقامته في الرياض، وقد حكي لنا 'منسي ' في تلك الليلة كيف أنه خرج رابحا ماليا من ذلك الزواج، فقد تكفل الشيخ عبدالعزيز بجميع النفقات، وحجز للعروسين جناحا في الهوتيل (الفندق) علي حسابه وأعطاه مبلغا إضافيا نقدا وحين جاء وقت الذهاب إلي الهوتيل (الفندق) لم يجدوا 'منسي ' وبحثوا عنه فوجدوه نائما في غرفة من غرف الدار. وحكي لنا أيضا أنه حين أراد أن يطلب العروس من أهلها ضربوا له موعدا، ووصفوا له كيف يصل إليهم، فذهب إلي دار أخري. وظل ينتظر زمنا طويلا إلي أن جاء أحد أهل البيت فوجده جالسا، سأله من هو وماذا يريد. قال 'منسي':
    'أمال فين الجماعة'؟
    'أي جماعة'؟
    'الله دا مش بيت...؟'
    كل هذا وأصهاره الجدد ينتظرونه في بيت آخر. وأخيرا وصلهم وقد كادوا ييأسون منه وينفضون.
    حين جاء وقت دفع الحساب تصدت له 'باربرا'. دائما إما أن تدفع هي أو أن أدفع أنا و 'منسي' ينظر إلينا وكل منا يلح، وكأن الأمر لا يعنيه ليس لأنه بخيل، فقد كان كريما جدا بعض الأحيان، ولكن لأنه مع أناس معينين كان يضع نفسه في وضع الذي يأخذ ولا يعطي وكأنه يؤكد محبته بهذه الطريقة. لكنني هذه المرة صممت أن يدفع 'منسي' الحساب. قلت لباربرا مستعيرا وصف عبدالرحيم الرفاعي له:
    'هذا البغل رجل ثري ، جاء إلي باريس في سيارة أمريكية طويلة عريضة ونزل في هوتيل (فندق) ذي خمس نجوم. وثمن هذا المعطف من الفراء الذي يلبسه وحده يكفيك شهرا كاملا. لماذا تدفعين أو أدفع أنا؟ أنت وأنا فقيران'.
    قال لي 'منسي ':
    'بس بلاش غلبة. أدفع أو سيب باربرا تدفع'.
    أحرجت زوجته التي يبدو أنها لم تكن عرفت طباعه بعد. قالت له:
    'يا أحمد أدفع الحساب ياأخي'.
    قال لها ضاحكا:
    'طيب ادفع وأمري لله. لو كنت عارف أني 'حاتوكح' بالفاتورة كنا طلبنا حاجات أرخص'. حين مات، لم أشأ أن أتصل ب'باربرا' إلا بعد زمن، فقد خفت ألا تكون قد سمعت النبأ وكنت أعلم وقع ذلك عليها. وجدتها تعلم، وكانت مبتئسة أكثر حتي مما توقعت، قالت لي في نهاية المكالمة:
    'طبعا سوف تكتب عن (منسي)'.
    'كنا قد اتفقنا أن نكتب قصة حياته معا، باللغة الانجليزية ثم باللغة العربية'.
    'كان سيكون كتابا مهما.. ورائجا أيضا.. 'منسي' كان إنسانا مهما ونادرا.. علي طريقته'.
    'الآن، بعد موته، لا أدري.. توجد أحداث لا أعرفها.. وأشياء كان أحسن أن يرويها هو، بطريقته.. سوف أفكر.. لعلي أكتب عنه، ولكن بعد حين'.
    (10)
    في طريقنا الي مقر اتحاد طلبة جامعة لندن، سألني 'منسي' عن قضية فلسطين.
    كانت جرأة كبيرة من اتحاد الطلبة أن يختار ذلك الموضوع، في تلك الأيام العصيبة أوائل الستينيات:
    'هذا المجلس يوافق علي أن تقوم دولة مستقلة للفلسطينيين في فلسطين'.
    ولا أدري من الذي اختار 'منسي' ليكون المدافع الرئيسي عن قضية فلسطين تلك الليلة، في مواجهة خصم قوي شديد المراس. ولكن لأنه كان يحب الجدل، ويحب الظهور والضوء فلابد أنه بذل جهدا ليحصل علي الدور. كان المتحدث الرئيسي المعارض له، هو مستر ريتشارد كروسمان.
    'ريتشارد كروسمان؟ . وإيه يعني'؟
    لكن 'ريتشارد كروسمان' لم يكن رجلا سهلا، في الواقع، ولو كان المعني بالأمر شخصا آخر غير 'منسي' لحسب لمواجهته ألف حساب. كان من مفكري اليسار المعدودين، ومن المنظرين الكبار في حزب العمال. عمل أستاذا في جامعة أوكسفورد قبل أن يصبح نائبا في البرلمان. وقد صار فيما بعد وزيرا ومستشارا أثيرا عند هارولد ولسن رئيس الوزراء. ولما ترك الوزارة أصبح رئيسا لتحرير مجلة ال'نيو ستيتسمان' الواسعة النفوذ. وكان قد اشترك من قبل في لجنة كونتها الحكومة البريطانية لدراسة أوضاع العرب واليهود في فلسطين ورفع تقريرا عن ذلك. وكان منحازا تماما لوجهة النظر الصهيونية.
    قال لي 'منسي' ونحن في سيارته تلك في طريقنا الي مقر الاتحاد. وقد بقي أقل من ساعة علي بدء المناظرة:
    'اسمع. قول لي بسرعة ايه حكاية فلسطين دي'.
    'الله يخيبك. تقصد إنك سوف تواجه ريتشارد كروسمان وأنت لم تستعد؟ ألا تعرف من هو ريتشارد كروسمان؟'.
    'بلاش غلبة. بس إنت قول لي بسرعة إيه حكاية وعد بلفور ومش عارف إيه وشغل الحلبسة دا؟'.
    'يا ابني دا مش لعب. هذه مناظرة مهمة جدا.. فرصة نادرة لن تتكرر. الله يخرب بيتك. إنت مين اختارك لتكون ناطقا باسم العرب؟'.
    'مالكش دعوة. بس اديني شوية معلومات وما تخافش علي. قال ريتشارد كروسمان. ! وايه يعني؟'.
    انتابني قلق حقيقي. امتلأت القاعة بالخلق، والذين لم يجدوا أماكن وقفوا في الطرقات والردهات. سفراء عرب وأجانب، وأعضاء في البرلمان وصحفيون ومصورون. وراديو وتليفزيون.
    كان واضحا أن كلا من الجانبين، عربا ويهودا قد بذل جهدا كبيرا لحشد الناس. لا غرابة فإن المناظرات التي تعقدها اتحادات الطلبة في الجامعات، خصوصا في أكسفورد ولندن، لها تأثير ووزن معنوي كبير، ودائما تحظي باهتمام وسائل الاعلام.
    لحسن الحظ كان مع 'منسي' فريق قوي، كان أحدهم، علي ما أذكر، 'أرسكن شلدرز' الكاتب الصحفي الذي دافع ببسالة عن العرب وقضية فلسطين بالذات، ثم لما ازداد عليه العنت والضغط ألقي السلاح واختفي من الساحة تماما.
    حين خطا 'منسي' الي المنصة بقامته القصيرة، وجسمه الذي كانت نتوءاته قد بدأت تتضح من وراء ومن أمام هبت في وجهه عاصفة قوية من التشجيع والهتاف من الجانب العربي، زادته جرأة علي جرأته. تكلم بجنان ثابت ولغة انجليزية فصيحة. لكنه لم يقل شيئا يجذب الاهتمام وقد حاول أن يغطي جهله بقوله، إنه سوف يترك التفاصيل للفريق المساند له.
    كل واحد من هؤلاء كان علي بينة من أمره فتحدثوا كلهم حديثا مفيدا مليئا بالحقائق الدامغة.
    ثم أعطي الرئيس الكلمة لريتشارد كروسمان، فخطا نحو المنصة بقامته المديدة، وسط زوبعة من التأييد ضمت كثيرين لم يكونوا مع العرب أو اليهود، ولكنهم كانوا يعرفون من هو ريتشار كروسمان.
    تحدث بصوت أجش تميز به، وأسلوب جمع فيه بين وقار أستاذ سابق في جامعة أوكسفورد ودهاء سياسي متمرس تعلم الصنعة في مؤتمرات حزب العمال، وغمار معارك مجلس العموم حيث واجه خصوما ضخاما من وزن ونستون تشرشل وأنتوني ايدن. ماذا يصنع حامي حمي العروبة، فارسنا المسكين 'منسي' في مواجهة هذا 'العلج' الجبار؟ ولما فرغ ريتشارد كروسمان، تأكد لي أن قضية فلسطين قد خذلت تلك الليلة في تلك الساحة.
    بعد ذلك حدث أمر عجيب لا أذكر بوضوح كيف حدث، ولكنني أذكر 'علج' الصهيونية الجبار، وقد تقلص وصغر، يفتح فمه ويغلقه كأنه فقد القدرة علي الكلام، وقد احمر وجهه وسال العرق علي جبينه، وفارسنا 'منسي' قد تحول الي سبع كاسر، يجري غاديا رائحا من آخر القاعة الي المنصة يشير بيديه، ويشب في حلق الرجل ويكاد يضع أصبعه في عينه ويلح في سؤاله:
    'قل لي، هل أنت بريطاني أم إسرائيلي؟'.
    يزداد وجه ريتشارد كروسمان احمرارا، وصاحبنا 'منسي' يرمح كالغزال الي آخر القاعة ثم يمرق كالسهم الي المنصة، يمد كرشه الي أمام ومؤخرته الي وراء ويدير عينيه اللتين زادتا اتساعا في القاعة، وقد حلت عليه طاقة لاأدري من أين جاء بها.
    'نحن نعلم أنك يهودي.. لا اعتراض لنا علي ذلك. من حق كل انسان أن يكون كما يشاء.. نحن لسنا ضد اليهود.. لكن نريد أن نفهم.. ولاؤك لمن؟ مع بريطانيا أم مع اسرائيل؟'.
    لم يكن ريتشارد كروسمان يهوديا بحسب علمي، ولكن كان من الواضح أن 'منسي' أراد أن يزعزع الثقة في مصداقيته ويمزق ثوب الوقار والاحترام الذي يكسوه. وقد نجح في ذلك تماما. حول المناظرة الي مهزلة وحول خصمه الي شيء يثير الضحك.
    ولما عدٌت الأصوات، انتصر، ويا للعجب، الاقتراح الذي دافع عنه فارسنا 'التعبان' وهو لا يعرف عن قضية فلسطين أكثر مما يعرف راعي الابل في بادية كردفان. وكان ذلك النصر دليلا آخر أضافه 'منسي' الي ذخيرته، إن الصدق والمنطق واتباع الأصول، لا تجدي، إنما يجدي في الحياة وفي قضية فلسطين وفي كل شيء، هو 'الأونطة' و'شغل الحلبسة'.
    لفتت تلك الليلة الأنظار اليه، و منها نظر الرئيس عبدالناصر الذي أرسلت اليه السفارة المصرية بحسب رواية منسي تقريرا مدعما بالصور كيف أن شابا مصريا 'مسح الأرض' بأحد جهابذة السياسة في بريطانيا. ولعل ذلك كان صحيحا فقد تلقي 'منسي' دعوة لحضور مؤتمر للمغتربين المصريين وبذلك بدأت مرحلة جديدة في حياته. ولكنه قبل ذلك قام بعمل ربما يكون أجرأ عمل أقدم عليه وكاد بسببه أن يطرد من بريطانيا.






    (11)
    عند باب 'بوش هاوس' وأنا في طريقي الي محطة 'بادنغتن'، لأخذ القطار الي اكسفورد، عرض لي 'منسي'.
    'طيب. رايح فين؟'.
    'اكسفورد'.
    'عندك ايه في اكسفورد؟'.
    'بروفيسور توينبي'، يلقي محاضرة، عن قضية فلسطين'.
    'برضه فلسطين، يا أخي خليك في لندن. الويك اند قربت'.
    'هذه محاضرة مهمة'.
    'خلاص أجي معاك'.
    كانت تلك عادة 'منسي'. ضحكت لأنه كان يجدني ذاهبا الي أي مكان فيقول لي 'أجي معاك' وقد رافقني بالطريقة نفسها الي الهند والي استراليا.
    'يا أخي أنت صايع ما عندك أهل؟ ما تروح لزوجتك وعيالك'.
    'بلا زوجة بلا عيال بلا غم. يا لك بينا'.
    كان محظوظا في 'ماري' تلك السيدة الطيبة. تزوج وأنجب، وعاش كما يحلو له، كأنه أعزب. يسافر ويعود ويظهر ويختفي، وهي في حالها، كأنه ضيف.
    أحيانا كنت انتبه فجأة انني لم أره منذ اسبوعين أو ثلاثة، فاتصل بداره، فترد علي 'ماري'.
    'منسي ليس موجودا'.
    'أين هو؟'.
    'لا أعلم'.
    'منذ متي؟!'.
    'منذ اسبوعين'.
    'أنت تعرف 'منسي'. هكذا هو، لكنه يعود دائما'.
    ظل يذكرها كثيرا بعد أن توفيت في حادث حريق في دارهم في واشنطن. وكان يقول انها قديسة. وأشهد انها كانت شيئا من ذلك.
    'قطار بتاع إيه يا شيخ. نروح بسيارتي'.
    'لا يا عم. لا يمكن أروح لحد اكسفورد 'بالقملة' بتاعتك دي. تسمي دي سيارة؟'.
    'أنت لسه في زمن ال 'ببل؟'. يا ابني احنا دلوقت في مرحلة جديدة. اشتريت سيارة محترمة.. حاجة أبهة'.
    اتضح أنها سيارة 'نصف عمر'، لا أذكر نوعها اشتراها بطريقته الملتوية، صاحبه الجزار، يعرف واحدا، يعرف صاحب كاراج، يعرف واحدا يتاجر في السيارات المستعملة.
    'لكنني أحب السفر بالقطار'.
    لو كان لي من الأمر شيء، لربطت العالم العربي كله، من طنجة الي مسقط، ومن اللاذقية الي نيالا، بشبكة من السكك الحديد مثل قطارات الT.G.V. السريعة في فرنسا، وقطارات الBullit في اليابان. الانسان الذي كان يسير الشهر والشهرين بالبعير، من صنعاء الي مكة، لماذا قفز فجأة الي هذه الوسيلة الجنونية؟ المطارات مهما بلغت، تبدو شيئا مؤقتا. محطات السكك الحديد لهما طعم آخر وسحر خاص. المحطات الخلوية والمناظر المتنوعة. تعرف أنك قد قمت من مكان ووصلت الي مكان. تنام وتقرأ وتصادف أصنافا من خلق الله. ليس مثل الطائرة. تغمض وتفتح فإذا أنت قد انتقلت من حال الي حال.
    'يا للا بلاش كلام فارغ. يا للا يا أخي سيب البطء بتاعك، أحسن تضيع مننا المحاضرة'.
    عكس الآية كعادته، وتصدر المجلس، وأصبح كأنه هو الذاهب الي اكسفورد، وانني مجرد تابع له.
    في منتصف الطريق، قال لي:
    'في واحد صاحبي هنا، نمر عليه خمس دقائق'.
    'مين؟'.
    'واحد من المسئولين الكبار في شركة آرثر رانك'.
    'يا أخي خلينا نواصل. المحاضرة في السابعة مساء'.
    'أصلهم ناويين ينتجوا فيلم عن 'لورانس'. تعرف مين حيمثل دور لورانس؟ ألك غنس. في دور لعربي شاب، أما دور بعد 'لورانس' بيفكروا في عمر الشريف. أنا ناوي ألطش الدور. المخرج حيكون 'ديفيد لين' أخو 'تانغي' تانغي وعدني يكلم أخوه'.
    ضحكت ولم أقل شيئا.
    'بتضحك ليه؟ هو يعني عمر الشريف أحسن مني؟'.
    'أبدا. مين قال عمر الشريف أحسن منك؟'.
    'إذا كانت الحكاية أنه بيتكلم انجليزي كويس، أنا أجدع منه ألف مرة في الانجليزي'.
    'مؤكد'.
    'وإذا كانت حكاية تمثيل، دا حتي سير لورانس أوليفييه أعجب بتمثيلي'.
    'عجيب'.
    إنت مش مصدق؟ إنت عارف مين علم لورانس أوليفييه إزاي يمثل شخصية المهدي في فيلم 'الخرطوم؟'.
    'أنت؟'.
    'أيوه يا سيدي أنا. الراجل كان حيجنن لما قرأت له من الذاكرة كل المونولوجات بتاع هاملت.. بنفس الطريقة اللي هو أداها بيها في الفيلم'.
    'يا ابني سيب الهزار. الحكاية مش لعب. الأونطة تنفع في كل شيء إلا في الفن.. أنت تعرف انجليزي كويس وتحفظ مونولوجات هاملت وريتشارد الثالث. لكنك ممثل فاشل: عمر الشريف ممثل عالمي.. وأنت مين؟ مين سمع بمنسي بسطاوروس. حتي اسمك لا يصلح للسينما.. وبعدين.. عمر الشريف رجل وسيم وأنت ما شاء الله'.
    'أنا مش وسيم؟ البنات بتقول لي أني أشبه علي خان. في الاحتفال في قصر بكنجهام الأميرة مارجريت أخذت بي'.
    'أنت قابلت الأميرة مارجريت؟'.
    'ألا قابلت الأميرة مارجريت! يا أخي ما أنت عارف القصة من طقطق للسلام عليكم'.
    مجرد تذكر تلك الحادثة أسعده جدا فضحك بطريقته. وأنا أيضا ضحكت، فقد كنت أعلم أنهم كادوا يطردونه من انجلترا.
    وجدنا دارا كبيرة تطل علي واد جميل، ورجلا إنجليزيا كأنه جاء من عصر آخر. ومع أننا حللنا عليه علي غير موعد فقد فرح حقيقة للقاء 'منسي'.
    'مايكل! يا لها من مفاجأة سارة. عجيب أنك جئت فقد كنت أفكر فيك'.
    'قلت أمر عليك. أنا في طريقي إلي اكسفورد للاستماع إلي محاضرة هامة يلقيها بروفيسور توينبي.. آه... نسيت أن أقدم لك مستر صالح.. صديقي يعمل معي في ال'بي. بي. سي.' (B.B.C) التفت الرجل إلي:
    'آه. أنت إذا تعمل مع مايكل؟'.
    'نعم. مستر... مايكل من كبار المسئولين في ال B.B.C.كما تعلم. وهو رئيسي المباشر'.
    لم يخف 'منسي' سروره إنني أؤدي الدور كما يجب، وكأنه أراد أن يرد لي التحية، فقال للرجل:
    'مستر صالح من المعاونين الأكفاء الذين يعملون معي'.
    انصرف الرجل كليا إلي 'منسي' واتضح لي من الحديث لماذا كان يفكر في 'منسي' ولماذا فرح لمقدمه.
    (12)
    كان 'منسي' يضحك كعادته في غالب الأحيان، وقد وقف الرجل من شركة 'ارثر رانك' عند باب داره، يلوح لنا بيده.
    أخلدت السيارة إلي الطريق، واعتدلت في سيرها.
    سيارة 'نصف عمر'، أي نعم، وحصل عليها 'منسي' الله أعلم كيف، أي نعم. ولكنها سيارة لها نوافذ وأبواب، تصل سرعتها إلي مئتي كيلو متر في الساعة.
    حياة 'منسي' يمكن أن تقاس، بوجه من الوجوه بأنواع السيارات التي اشتراها، أو هبطت عليه من السماء. في آخر حياته، حين أصبح 'سيد ثاتشبري' أو 'لورد ثاتشبري'، كما كان يقول، ويسكن في القصر الذي زعم أنه كان استراحة صيد للملك جون، كان يخرج كل صباح في زي الفرسان، ممتطيا صهوة حصانه 'سام'. يمر علي قطعان البقر والضأن، ويتفقد أشجار البلوط والصنوبر والتفاح والتوت والفراولة. جاره من ناحية الشرق لورد 'مونتباتن' عم الدوق زوج الملكة، أو خاله، وجارته من ناحية الغرب ليدي هذه أو تلك، ثم يصل إلي الاصطبل. يربت علي رقاب الخيل ويحادثها ويستنشق تلك الرائحة الفريدة التي تنبعث من الخيل في.. مراحها. يختم جولته بالكراجات. يفتح الأبواب فإذا السيارات مصطفة كما الخيل في الاصطبل. يتفحصها واحدة واحدة. يرفع الغطاء ويفتح الباب ويدخل. يجلس ويمسك بعجلة القيادة، وينطلق بها وهي ساكنة، في آفاق رحبة ولابد. سيارة الفورد وسيارة الروفر وسيارة البيوك وسيارة الجاكوîار وسيارة المرسيدس. ثم أخيرا يصل إلي نهاية المطاف، إلي سيارة. الرولز، يرفع عنها الغطاء كما يرفع النقاب عن وجه العروس الجميلة المشتهاة، يدخل ويملأ رئتيه بذلك العطر العجيب. يمسك بعجلة القيادة، ويدير المحرك ثم يوقف. يخرج ويقف علي حافة حوض السباحة وينظر إلي خياله يتفرق ويتجمع ويطول ويقصر علي صفحة الماء. قليلون جدٌîا هم الناس الذين يمشي الواحد منهم حافيا أو يركب حمارا أو بعيرا وتراه عند الأفق، شامخاî كأنه أميرى من أمراء الحياة. كان 'منسي' قد وصل بالفعل إلي نهاية المطاف، وكأنه فيما يبدو، لم يجد بعد ذلك سببا للبقاء.
    لكنني أستبق الأحداث نحن الآن في بداية الرحلة، في طريقنا إلي اكسفورد، في سيارة لها نوافذ وأبواب ، تمد رجليك، وتفتح النافذة إذا شئت، وتستنشق هواء الريف الإنجليزي المنعش إذا شئت. تتفلٌîت الحقول علي الجانبين، حقول ناعمة بتلالها المنخفضة مثل طيٌîات الثوب، والقري الانجلوسكسونية بأبنيتها الحجريٌîة وسقوفها الأردïوازية في قيعان الأودية وعلي سفوح التلال. تركنا الرجل الإنكليزي من شركة 'آرثر رانك' واقفا أمام باب داره، يلوح لنا بيده، وفي عينيه حلم لن يتحقق، كما أن حلم 'منسي' في الحصول علي دور عمر الشريف في فيلم 'لورنس العرب' لن يتحقق.
    كنت قد ألممت بطرف من القصة من الحديث بين 'منسي' وصاحبه الإنجليزي، وقد آثرت ألاٌî أسأله الآن ونحن في طريقنا إلي أكسفورد، وأن أتركها تتفخم وتتغيٌîر وتتبدٌîل في خياله.
    كنت أشهد الواقعة معه، ثم يرويها فإذا هي مختلفة تماما عمٌîا رأيتï وسمعت.
    وجدنا كرٌîار أحمد كرٌîار وحسن بشير في استقبالنا.
    قال لي كرٌîار وهو ينظر إلي 'منسي':
    'مين الحلبي دîا الٍ جبٍتïه معاك؟'.
    نسمي أشقاءنا المصريين 'حîلبٍ' و 'أوٍلاد ريف' بدافع المحبة، وهم يسموننا أشياء بدافع المحبة.
    قال 'منسي' وكأنه يعرف الرجل من زمن:
    إيه يا خوي حîلîبي دي؟ أنت فاكرني من المصريين بتîوعٍ وجٍه بحري؟ دا أنا صعيدي من قرايبكم'.
    كان كرٌîار، رحمه الله، سودانيا قïحٌîا، فيه كل فضائل السودانيين الأقحاح، وبعض مساوئهم، كان رجلا 'شيخ عرب' كما نقول، حتي في بذلته الإفرنجية، وفي اكسفورد، كأنٌîه يتلفٌîع ثوبا ويمسك عصا، ويجلس في ظل شجرة كبيرة وسط قبيلة. عمل في الإدارة منذ عهد الانجليز. فكان مأمورا ومفتٌîش مركز، ووصل في العهد الوطني إلي رتبة محافظ. وقد عمل مساعدا للأمين العام لمجلس الوزراء في حكومة الصادق المهدي الأولي، وصار وزيرا لشؤون مجلس الوزراء في عهد النميري، وكان خبيرا بشئون جنوب السودان، ذلك لأن 'منسي' دخل معه بعد ذلك في جدل حاد عن الجنوب وهو لا يعرف عنه إلاٌî كما يعرف في قضية فلسطين.
    أما حسن بشير، فهو زميلي وصديقي منذ عهد الدراسة، عمل في وزارة المالية، وأصبح مساعدا لمحافظ البنك المركزي، وكان بوسعه أن يذهب أبعد، ولكنه إنسان واضح، لا يحب اللٌîف ولا الدوران، فلم يرق ذلك لأصحاب الشأن.
    (13)
    جلسنا في الصف الأول، وكانت القاعة ممتلئة . لا عجب، فقد كان المحاضر بروفود ارنولد تïويٍنبي أعظم مؤرخي عصره. ثم إن الحدث كان الأول من نوعه. كانت مناسبة تاريخية إذا صح القول. ذلك لأن كلا من اتحاد الطلبة العرب في جامعة أكسفورد واتحاد الطلبة اليهود وجه الدعوة إلي البروفيسور توينبي لإلقاء محاضرة عن قضية فلسطين، فأجابهم بأنه رجل تقدمت به السن ولا يقوي علي إلقاء محاضرتين، ولكن يسرٌïه أن يلقي محاضرة واحدة علي العرب واليهود مجتمعين. قبل الطلبة اليهود بلا تردد، فقد كانوا كعادة اليهود عموما، لا يجدون فرصة للتحدث إلي العرب إلا انتهزوها. أما العرب فمنهم من رفض ومنهم من تردد. تغير الحال الآن.
    في تلك الأيام كان الاتصال باليهود وحتي مجرد التحدث إليهم أمرا يكاد يكون محرٌîما علي العربي. كان أمرا عجيبا تلك الأيام، أن تري عربيا ويهوديا دعيا مع آخرين في تليفزيون من تليفزيونات أوروبا. يرفض العربي أن يجلس في غرفة واحدة مع اليهودي، فيجلسونه في غرفة منفصلة. ويقضون الوقت كله يضيقون الخناق علي العربي، لماذا لا يريد أن يجلس في صعيد واحد مع اليهودي. ويخرج اليهودي منتصرا دون أن يفعل شيئا. قليلون جدا من كانت عندهم الشجاعة للتمرٌïد علي هذا الحظر. أما نحن فقد كنا أغوارا ولم نكن نبالي.
    نقول:
    أليس لنا عقول مثل عقولهم، وحجج أقوي من حججهم؟
    ­ كانت تزاملنا في الدراسة في جامعة لندن فتاة إنجليزية من أصل يهودي، أذكر اسمها جيدا رغم طول العهد، كان اسمها 'شيرلي'، وكانت وسيمة الوجه، ضاحكة العينين، لها غمازتان علي خديها، تفعلان الأعاجيب إذا ضحكت. وكنا خمسة. من مصر والعراق وفلسطين والمغرب والسودان. دائما تجد شيرلي معنا. تؤثرنا علي غيرنا وتأوي إلينا دون سوانا تقول لنا لماذا لا يعيش العرب واليهود في سلام؟ ونقول لها نعم والله، لماذا لا يعيشون في سلام!
    تقول لنا نحن أبناء عمومة وأقرب الناس بعضنا إلي بعض. ونقول لها صدقت. العرب أبناء إسماعيل بن إبراهيم، وأنتم أبناء اسحق بن إبراهيم.
    اللغة العربية واللغة العبرية متقاربتان إلي حد بعيد.
    إذا لماذا الحروب وإراقة الدماء؟ لماذا إهدار الطاقات وتبديد المال؟ لماذا لا يرفرف السلام بأجنحته علي تلك الربوع؟ ونقول لها ياليت السلام يرفرف علي تلك الربوع! وأصدقكم القول، إن كل واحد منها، كان مستعدا، لو ترك له الأمر، أن يعقد صلحا منفردا مع 'شيرلي'. وذات صباح جاءتنا تسعي، كما سعت اليابانية إلي صاحبها المصري في قصيدة شاعر النيل الشهيرة. قالت لنا، إنه الوداع.
    'فيم الوداع وإلي أين تذهبين يا شيرلي؟'.
    نظرت إلينا متعجبة برهة، ثم أجابتنا كما أجابت اليابانية صاحبة المصري:
    'فأجابتني بصوت راعني
    وأرتني الظبي ليثا أغلبا
    نبأوني برحيل عاجلً
    لا أري لي بعده منقلبا'.
    قلنا لها:
    'ولكن لماذا؟'
    نظرت إلينا كرة أخري، بعينين غير ضاحكتين، وخدين بلاغمازتين. قالت:
    'ألا تعرفون أن الحرب قد قامت بين مصر وإسرائيل؟'.
    قلنا لها، كما قال المصري لصاحبته اليابانية في القصيدة:
    'قلتï والآلام تغري مهجتي ويك ما تفعل في الحرب الظباء؟'
    قلنا لها:
    'وأنت ما شأنك بالحرب؟'.
    قالت:
    'أنا جندية في جيش الاحتياط الإسرائيلي، وقد دعيت للخدمة العسكرية'..
    نظر بعضنا إلي بعض، ودار بين كل واحد منا وبين نفسه، وبين كل واحد منا والآخرين حديث طويل في صمت. هل يعقل أن هذه الفتاة الجميلة اللطيفة تذهب إلي الحرب، وتحمل السلاح، وتحارب مع الأعداء، وتقتل العرب؟
    ثم تحولت الحيرة إلي غضب عظيم. علي أنفسنا، وعلي شيرلي، وعلي اسرائيل.
    كنا في مقتبل العمر، عندنا، كما عند الشباب، قدرة عظيمة علي التسامح. وأيضا، كما عند الشباب، استعداد كبير للتضحية والفداء. إلا أن أحدا لم يطلب منا فعل أي شيء.
    نحن وغيرنا. كثيرون من الشباب العرب ذهبوا إلي السفارة المصرية يعرضون التطوع. قالوا بارك الله فيكم. حين تدعو الحاجة إليكم سوف نتصل بكم. ولكن الجيش المصري مسيطر تماما علي الموقف.
    ثم نظرنا إلي شاشات التليفزيون، فإذا الجنود الإسرائيليون يستحمون في قناة السويس.
    صحيح أن الإنجليز والفرنسيين أعانوا اسرائيل في تلك الحرب، عام .1956 ولكن الأمر نفسه حدث بعد ذلك في حرب .1967
    أما 'شيرلي' فإنها لم تعد. وربما كانت قîتلت أو قïتلت. ولعلها آثرت البقاء نهائيا في إسرائيل.
    ما أعجب ما كانت تلك الأيام. ويا هلٍ تري، يا رعاك الله، انتهت بعد الأعاجيب!
    (14)
    لا عجب أن القاعة امتلأت. فقد كان المحاضر هو بروفسور ارنولد توينبي أعظم مؤرخي عصره، وأبعدهم نظرا، وأعمقهم إدراكا. ذلك مؤرخ نظر إلي تاريخ الإنسانية كبحر متلاطم الأمواج، موجة تصعد وتبلغ الذروة، ثم تهبط وتنحسر، لتعلو موجة أخري. حضارات تولد وتنمو وتزدهر وتذبل فتولد بدلا منها حضارات جديدة.
    جلسنا في الصف الأمامي، وكان 'منسي' لا يكاد يستقر في مقعده، يتلفت يمنة ويسرة ويبتسم لكل من تقع عليه عينه، لقد أنعشه هواء أكسفورد. واستجابت روحه لمغناطيس ذلك المكان السحري. هذه المدينة الصغيرة التي تكتسب سمتها وروحها من وجود الجامعة فيها، هي عبارة عن رمز لأفضل، وربما أيضا لأسوأ، ما في 'الحضارة' البريطانية. يخرج البريطاني من هنا وهو يحمل صك الانتماء إلي صفوة مميزة. رؤساء اتحاد الطلبة في اكسفورد، غالبا ما يدخلون البرلمان، وغالبا ما يصيرون وزراء. وقد ذهب من هذا المكان الصغير، أيام سطوة الأمبراطورية البريطانية شبان في العشرينات من أعمارهم، لا يميزهم شيء إلا أنهم ينتمون إلي تلك النخبة الحاكمة، سيطروا علي مصائر شعوب في الهند والسودان ونيجيريا وكينيا وفلسطين. وكان الواحد منهم يحكم رقعة أكبر من الجزر البريطانية.
    كانت جامعة اكسفورد حلما دفينا عند 'منسي' حصنا. من حصون الانجليز لم يستطع اقتحامه. لذلك أشرق وجهه وتواترت لفتاته أول ما ظهرت لنا أبراج الكليات، ثم لما اجتزنا المباني التي تجمع في مضمارها بين هيئة الكنائس وقلاع القرون الوسطي.. الحيطان السميكة والأبواب الضخمة والنوافذ المستطيلة والباحات الداخلية التي اقتبسوها ولابد من المعمار العربي الأندلسي.. وكان 'منسي' يردد أسماء الكليات كأنه ينشد نشيدا أسطوريا قديما.. باليول.. ميرتن.. مودلن.. ومادهام.. وكيبل.. يبتسم ذات اليمين وذات الشمال وخصوصا للطالبات، وهن يهرولن من قاعات المحاضرات أو يمتطين الدراجات.. ومن حين لآخر نمر بأستاذ يسرع الخطي وقد نفخ الهواء عباءته السوداء.
    نظر بروفسور توينبي إلي القاعة الممتلئة، وأدار عينيه المشعتين في وجوه الحضور، عربا ويهودا، وابتسم ابتسامة تحمل معاني كثيرة.
    اجتمع العرب واليهود لأول مرة في جامعة اكسفورد، ولعل المرحوم كرار كان أحد الذين أقنعوا الطلبة العرب بالقبول، فقد كان أحد زعمائهم. كان هو وحسن بشير يحضران لدراسات عليا في كلية 'سانت أنتوني'.
    تحدث 'توينبي' حديثا مليئا بالعلم والحكمة وأذكر من بعض ما قاله في تلك الليلة أن قصة العرب واليهود في فلسطين، تشبه المآسي الملحمية الإغريقية، شر يقود إلي شر يقود إلي شر في سلسلة لا نهاية لها. تحدث طويلا عن الشر الذي حاق باليهود في أوروبا، روسيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا وانجلترا. ذكر مستمعوه أن اليهود كانوا يصلبون في الميادين العامة في انجلترا حتي القرن الثامن عشر. تحدث عن معاناة اليهود علي أيدي النازيين في ألمانيا، وقال إن تلك البشاعة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسانية، يمكن أن تفسر بأنها عمل شخص واحد مختل العقل هو أدولف هتلر، ولكنها إثم تحمل وزره حضارة أوروبا الغربية بأسرها.
    في مقابل ذلك أفاض 'توينبي' في الحديث عن التسامح الذي وجده اليهود من العرب والمسلمين وخصوصا في الأندلس، حيث أطلقت الحضارة العربية الإسلامية العنان لطاقات اليهود، فكان منهم وزراء وسفراء وعلماء وفلاسفة. وتعجب كيف أن شعبا عاني ما عاناه .
    اليهود من عنت واضطهاد، علي أيدي الأوروبيين، يلحق الاضطهاد نفسه بقوم لا ذنب لهم فيما حدث. واختتم محاضرته بقوله إن علي الفريقين أن يعملا علي كسر هذه الحلقة الشريرة والخروج من ذلك المأزق التاريخي، وإلا فإن الأمر سوف ينتهي حتما بكارثة تحيق بالبشرية بأسرها، كما يحدث في المآسي الإغريقية. وناشد اليهود خصوصا أن يعملوا الفكر بشجاعة وجرأة لإيجاد وسيلة أخري غير العنف للخروج من ذلك المأزق التاريخي.
    صفق أكثر الناس مجاملة، لا تأييدا، فقد كان حديث 'توينبي' أكثر حكمة ورصانة مما كان يطلبه العرب واليهود تلك الأيام. أما العرب فقد كانوا في تلك الأيام العصيبة المريرة يريدون انحيازا واضحا إلي جانبهم. وأما اليهود، فقد كانوا وما زالوا مزهوين بباطلهم، ولكن هذا رجل فكر طويلا في مصائر الشعوب والأمم، ورأي أكثر من أي مؤرخ آخر في عصره، مسيرة الإنسان منذ فجر التاريخ، كشيء واحد متكامل مترابط الأجزاء، وكان قد بلغ الثمانين أو قاربها، فلم يكن يهمه أن يرضي العرب أو اليهود..
    ثم حل علي القاعة صمت عميق، كما يحدث للناس حين يلقي عليهم قول طريف، يعرفون بعضا ويجهلون البعض الآخر.
    من قلب ذلك الصمت، انبثق 'منسي' فجأة، تماما كما ترمي حجرا في بحيرة ساكنة.






    (15)
    أدار 'منسي' ظهره ل 'بروفيسور توينبي' وجال بعينيه الواسعتين في الحضور الذين أخرجهم وقوفه عن صمتهم فشخصت إليه أبصارهم. وضع يده اليسري في جيبه، ونفخ صدره، ورفع رأسه إلي أعلي، ثم دار نحو 'بروفيسور توينبي' ببطء، ونصف وجهه الأيسر لا يزال يميل نحو الجمهور.
    اتخذ وقفة دراماتيكية، ولعل صورة لورانس أوليفييه، وهو يحث جنوده علي القتال في دور المالك هنري الخامس في معركة 'اجنكورت' ضد الفرنسيين، كانت ماثلة في مخيلته. كان يحفظ عن ظهر قلب معظم خطب الملك هنري في مسرحية شكسبير تلك، ويؤديها بصوت قريب من صوت لورانس اوليفييه. أو لعله تمثل نابليون في معركة 'أوسترلتز'! كانت أحلام العظمة تخطر أحيانا علي بال 'منسي'. ولكن كما تمر سحابة الصيف في السماء، سرعان ما تتبدد دون أن تترك أثرا، إن قامته علي الأقل، تقرب من قامة نابليون، وهو في وقفته هذه يذكر المرء من بعيد، من بعيد جدا، بوقفة نابليون في تلك اللوحة الشهيرة التي رسمها الفنان 'دافيد'. هذا المكان العريق، اكسفورد مفعم بالتاريخ والأوهام، والأحلام التي تبددت كسحائب الصيف، والأحلام التي بلغت غاياتها. ولابد أن شيئا ما قد حدث ل 'منسي' فأخرجه عن طوره.

    قال بلهجة أكثر تقعرا من المعتاد، وهو يضغط علي 'بروفيسور' و'توينبي' التي كان ينطقها 'تاانبي'، بطريقة الانجليز الأرستقراط.
    'بروفففسر تاانبي.. انني استمعت إلي محاضرتك القيمة باهتمام بالغ، ووجدت فيها..
    وجدت فيها أشياء كثيرة تدعو للتفكير. وأود باديء ذي بدء.. أن أشكرك أجزل الشكر.. بالأصالة عن نفسي، وبالإنابة عن الحاضرين.. وأظن أنني أعبر عنهم جميعا حين أقول.. إنها كانت محاضرة قيمة و... مفيدة جدا.. ولكن اسمح لي أن أقول.. إنني دهشت حقا.. أن أسمع مؤرخا مثلك.. مؤرخا عظيما مثلك، ليس معروفا عنه أنه معاد للعرب.. بل لعلنا نحن العرب نعتبرك واحدا من أصدقائنا.. نعم، أدهشني حقا قولك.. إن العرب، طوال تاريخهم، أساءوا معاملة اليهود.. واضطهدوهم.. وعذبوهم....'.
    كنت أجلس إلي يمينه، وحسن بشير وكرار إلي يساره. نظرنا ثلاثتنا إليه مذعورين في وقت واحد. وسرت همهمة بين الحاضرين وسمعت بعض الضحكات المكتومة. وأخذت أجذبه من ذيل 'جاكتته' لأجلسه. ولكنه كان قد تقمص دورا وأبحر بعيدا وأصبح من الصعب إيقاظه من حلمه...
    'وتقول.. إن علي العرب الآن.. أن يساعدوا اليهود علي الخروج من المأزق التاريخي الذي وضعوهم فيه.. يا سيدي البروفيسور.. من الذي وضع اليهود في مأزق تاريخي؟ ألستم أنتم الأوروبيين؟ أنتم الذين اضطهدتم اليهود.. وعلقتموهم علي المشانق في الميادين العامة..
    قلت إن العرب مازالوا يشنقون من بقي عندهم من اليهود في الميادين العامة.. مجرد
    قلت إن العرب مازالوا يشنقون من بقي عندهم من اليهود في الميادين العامة.. مجرد افتراء ودعايات صهيونية كاذبة.. أنتم الذين فعلتم ذلك.. وضعتموهم في معسكرات الاعتقال.. وفي أفران الغاز.. والآن تريدون منا نحن العرب.. نحن الأبرياء الذين لا ذنب لنا فيما حدث لليهود.. أن نكفر عن خطيئتكم.. أن نكسر كما قلت يا سيدي البروفيسور.. الحلقة الجهنمية.. التي صنعتموها أنتم الاوروبيون.. لا يا سيدي إن فلسطين أرض عربية. وقد ظلت عربية منذ.. منذ... ثلاثة آلاف عام... وسوف تظل عربية إلي الأبد.. سوف نستردها بالقوة إن عاجلا وإن......'
    تحولت الهمهمة إلي ضوضاء، وارتفعت أصوات من أطراف القاعة تطلب منه باللغتين العربي والإنجليزية أن يجلس. ولما نجحت أخيرا إلي جره جرا إلي الجلوس. قال لي:
    'إيه الحكاية؟ هو أنا قلت حاجة غلط؟'
    'الله يخيبك. اسكت. أفهمك بعدين'.
    علت وجه العالم الجليل 'بروفيسور توينبي' حيرة عظيمة. وظل بقية المساء، وهو يرد علي الأسئلة، ينظر إلي 'منسي' من وقت إلي آخر، كأنه يحاول أن يحل معضلة. لابد أنه ببساطة العلماء من طرازه، ظن أنه لابد من أن يكون قد أساء التعبير عن أفكاره، وإلا فكيف يساء فهمه إلي ذلك الحد. أما 'منسي' فقد جلس هادئا مطمئنا وكأنه لم يفعل شيئا.
    ولما خرجنا، قال له كرار، وكان، كما يحدث ل 'منسي' عادة، قد ألفه كأنه يعرفه من زمن: 'يا صعيدي يا مغفل. يظهر أن المصريين بتوع القاهرة علي حق. يظهر أن الصعايدة فعلا اشتروا الترامواي.. إنت بليد ما بتفهم الكلام ولا كنت سرحان؟'
    ضحك 'منسي' ضحكته الطفولية الجذابة، وقال بلهجة صعيدية مزيفة كما في الأفلام.
    'بصراحة كدي يا رجاله.. أصلو الأستاذ بتاعكم دا طول حبتين.. وأنا كنت تعبان.. لأني مع عدم المؤاخذة.. كنت امبارح سهران سهرة حلوة في لندرة.. وبعدين سايق العربية لحد أكسفورد.. رحت في سابع نومه..'
    ثم أضاف:
    'وبعدين يا أخي الواحد تعب من حكاية فلسطين دي'.
    قال له حسن بشير:
    'ولما أنت تعبان ونايم ومش فاهم الكلام.. ما كنت تتلهي وتسكت. رحت عامل خطبة طنانة ولا كأنك جمال عبدالناصر. أنا افتكرتك حتقول 'إن ما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة'.
    قال 'منسي' ضاحكا:
    'د أنت بتقول فيها؟ طب والنبي الجملة كانت علي لساني لولا أن الأخ دا عمال يشدني، وأنا مش فاهم هو بيعمل كده ليه.. دا أنا حتي استغربت الناس ما سقفتش ليه...'
    قلت له معابثا، وكنت أعلم أنه اختار الرقم اعتباطا:
    'مين قال لك إن فلسطين عربية من ثلاثة آلاف سنة بس؟'.
    'أمال هي عربية من أمتي؟'
    'من سبعة آلاف سنة علي الأقل'.
    'لا يا شيخ! أنا افتكرتهم ثلاث آلاف. أصلو اليهود بيقولوا أنها كانت بتاعتهم من ثلاثة آلاف سنة. قلت يا واد خليهم ثلاثة آلاف.. أهو برضه كويسين.. هي ثلاثة آلاف سنة شوية يا رجاله؟'.
    (16)
    حين وقف 'منسي' ذلك الموقف 'التاريخي' في ذلك المكان الذي لايدخله الناس ضربة لازب لعله أحس بأنه جاء بمقتضي منطق عادل، وأنه هو أيضا يرمز إلي شيء ما. كان لا يزال في المرحلة الثانية من مراحل حياته، مرحلة ال 'بيل' التي أعقبت مرحلة ال 'عجلة'.
    حدث ذلك أواخر الخمسينيات أو أوائل الستينيات، لا أذكر علي وجه التحديد. لكنه كان حدثا كبيرا. استضاف مجلس العموم البريطاني في لندن المؤتمر الدوري لبرلمانات العالم جاءت الوفود من كل الأنحاء وصادف أن 'منسي' رحمه الله كان علي صلة حميمة برئيس الوفد المصري، منذ كان طالبا في جامعة الأسكندرية لذلك كان سهلا عليه أن يلتئم مع الوفد المصري، كان يرافقهم في مجيئهم وذهابهم، يساعدهم علي شراء لوازمهم من الأسواق، ويرتب لهم مقابلاتهم، ويصطحب من يرغب منهم إلي عيادات الأطباء، ويسهل لهم أمورهم.
    وقد وظف لذلك، كما يمكن أن يتخيل الإنسان، طاقته الهائلة ومعرفته الواسعة بمدينة لندن.
    أصبح شخصا ضروريا لاغني عنه بالنسبة إليهم وقليلا قليلا أصبح كأنه واحد منهم.. كأنه عضو في الوفد وقد روي 'منسي' أنه تحايل علي سكرتارية المؤتمر، فوضعوا اسمه في قائمة أعضاء الوفود، وصاروا يرسلون إليه كل أوراق المؤتمر بما في ذلك بطاقات الدعوات التي كانت تقام تكريما لهم. أصبح 'منسي' يحضر اجتماعات المؤتمر في النهار، ويحضر حفلات الاستقبال في المساء. ولم يجد أعضاء الوفد المصري غرابة في ذلك، فقد كانوا يظنونه أيضا مندوبا عن هيئة الإذاعة البريطانية.
    وجد 'منسي' دورا محترما يليق به، فانهمك فيه بكل طاقته وكعادته حين يتقمص دورا فإنه لم يكن يقف عند حد. لذلك كادت هذه الحادثة أن تنتهي بطرده من بريطانيا.
    مر كل شيء بسلام، إلي أن حل ذلك المساء، حين أقامت الملكة حفل الختام للوفود في قصر بكنجهام لبس 'منسي' بدلة السهرة التي لابد أنه استأجرها أو استعارها. ثم مضي إلي موعده المضروب في القصر، مكان أكثر سحرا وألقا وهيبة من كل الأمكنة التي دخلها من قبل إنني أستطيع أن أتخيل كيف دخل 'منسي' قصر بكنجهام ذلك المعقل الأمبريالي، المحاط بالبروتوكولات والرموز والطقوس لقد صحبني مرة إلي حفل استقبال أقامته سفارة من السفارات لم يكن مدعوا بالطبع، ولكنه جاء هكذا، وكأنه يظن أنه مدعو أصلا وبالفعل لكل الاحتفالات التي تقام لأي سبب وفي أي مكان علي وجه الأرض كأنه ضيف مستديم علي مائدة الحياة! كان علي الباب رجل في بذلة حمراء كأنه جنرال في الجيش، يعلن بصوت جهير أسماء المدعوين وهم يدخلون قاعة الاستقبال، واحدا بعد الآخر، لم يعجبني ذلك، وقلت لنفسي لم الجلبة والضوضاء، فدخلت دون أن أعطيه اسمي. وماهو إلا قليل، حتي سمعت الحاجب ينادي بصوته الجهير:
    'الدكتور مايكل بسطاوروس، رئيس القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية'
    كان رئيس القسم العربي الحقيقي موجودا في الحفل فالتفت متعجبا.
    نعم. إنني أستطيع أن أتخيل، كيف اقتحم 'منسي' ذلك الحصن الحصين الذي لايدخله كل من هب ودب، لايدخله كل من شاء، هكذا، ضربة لازب. تجاوز السور الحديدي الخارجي الذي يتشبث به السواح، ينظرون من بعيد إلي مراسم تغيير الحرس، يراودهم الأمل أن يروا وجها يطل عليهم من نافذة أو ردهة دخل إلي الفناء الداخلي، ولعله صعد درجا، ثم فتحت له الأبواب، وسار به الحرس الملكي في دهاليز واسعة طويلة كل خطوة محسوبة منذ عهد سحيق غابر. أخيرا وصل إلي.... نهاية المطاف. إلي شيء مبهم كأنه سيارة ال 'رولز' بين السيارات.
    وصل دون استئذان، ودون وجه حق، في ثوب مستعار وصفة منتحلة.
    فتح الباب الأخير، ونادي حاجب الملكة الذي لابد أنه لم يكن كسائر الحجاب.
    'الدكتور منسي يوسف بسطاوروس، رئيس الوفد المصري'
    هل تذكره وهو يقارع سير انتوني ايدن في اجتماع شباب المحافظين؟
    هل تذكره وهو يصرع تنينا ضخما من 'تنينات' الأنكليز؟
    هل تذكره في اكسفورد وهو يحارب في غير محترب، ويعارك في غير معترك؟
    انه الآن في هذا المكان، يقوم بدور أعظم من أي دور قام به من قبل، أو سيقوم به من بعد.
    مثل 'منسي' بثوبه المستعار وصفته المنتحلة، أمام الرمز الأكبر للأمبراطورية البريطانية.. ملكة إنكلترا واسكتلندا وإيرلندا وويلز وجزر الهبرديز وجزيرة مان وما وراء البحار، وريثة تاج الملوك جيمس وُورُ وإدوارد، سليلة آل وندسور وهانوفر، راعية الكنيسة، رئيسة الكومنولث!
    وماذا فعل منسي هل حيا وانصرف؟ هي اكتفي بذلك القدر؟ أبدا كانت تلك لحظة لابد أنه ظل يستعد لها علي غير علم منه منذ ولد، وكأنما الأقدار قد هيأته لذلك اللقاء 'التاريخي' ولعله أيقن أنه هو أيضا يرمز لشيء ما، وأنه لم يأت متسولا، ولكنه يقف ذلك الموقف بمقتضي منطق، وان بدا عجيبا، فإنه عادل علي وجه من الوجوه.
    (17)
    كان يعلم أن رئيس الوفد الحقيقي كان مريضا تلك الليلة، وأنه ما من أحد سوف ينوب عنه.
    ولعل ذلك كان حتما، فقد كان المنطق العجيب الذي أعطي 'منسي' شرعيته ومبررات سلوكه عن علم أو عن غير علم، يقتضي أن يلعب هو ذلك الدور، أن يكون هو الرئيس ولم لا؟
    ألم يتنزع نابليون وهو 'حتة تلياني من كورسيكا' التاج ويضعه بيده علي رأسه ويفرض نفسه 'امبراطورا' علي فرنسا؟
    ألا تغدق الحياة علي أناس لايبدو أنهم يمتازون علي بقية خلق الله؟
    ألا يشغل بعض الناس مساحات من الأفق أكبر مما يستحقون؟
    بمقتضي هذا المنطق العجيب، وقف 'منسي' في الصف الذي يؤدي إلي الملكة، بين رؤساء الوفود.. الرمز الأمبريالي، الذي يعزف من أجله السلام الملكي، وتتحرك باسمه الجيوش، وتخفق الأعلام علي صواري سفن الحرب في عرض البحار.
    وكان وراءه في الصف، محمد أحمد محجوب، رئيس وفد السودان، ذلك أيضا كان عدلا علي وجه من الوجوه، أن يقف محمد أحمد محجوب بقامته المديدة، وسمته المهيب، وبيانه الناصع، وعقله الراجح، وخبرته في معترك السياسة وراء 'منسي' في ثوبه المستعار وصفته بعد ذلك بزمن، حكينا القصة لمحمد أحمد محجوب رحمه الله.. غضب أول الامر، بوصفه زعيما، ثم نظر إليها بوصفه شاعرا، فضحك، ولعله كان يومئذ أقدر علي فهم 'المغزي' واستبطان 'الرمز' فقد كان منفيا في لندن، بعد أن انتزعت منه 'ثورة مايو المظفرة' رئاسة الوزارة. لقد جاء واحد، لا يختلف كثيرا عن 'منسي'. في نهاية الأمر، (دون إذن ودون وجه حق في ثوب مستعار وصفة منتحلة) فأزاحه عن مقعده وجلس هو مكانه.
    كان الرؤساء يسلمون علي الملكة فتقول لكل منهم بضع كلمات علي سبيل المجاملة، ثم ينصرفون، ولا يأخذ اللقاء أكثر من دقيقة أو دقيقتين.
    لكن 'منسي' كان مختلفا لم يفوضه أحد جاء بمحض إرادته، لا كمتسول، ولكن بمقتضي منطق عادل في نظره وباسم من؟
    باسم كل الذين وقفوا وراء الأسوار ينظرون من بعيد لعل وجها يطل عليهم من النافذة.
    باسم أولئك الذين لم يجدوا مكانا علي المائدة لأن آخرين احتلوا مساحات أكبر مما يحق لهم.
    يروي 'منسي' رحمه الله، أن الملكة بعد أن حيته حسب ماتقتضي المراسم والأصول، فجأة قال لها، دون تفكير، ودون أن يناديها بلقب 'صاحبة الجلالة' كما تقتضي الأصول:
    'اسمعي لابد أنك تجدين هذه المناسبات مملة جدا. كيف تحتملين القيام بهذا الدور الممل يوما بعد يوم؟'
    يقول 'منسي' إن الملكة ضحكت ، ولكن غالب الظن أنها ابتسمت ابتسامة خفيفة، لتخفي دهشتها من تلك الجرأة،. فهي مدربة لمثل هذه المواقف.
    بعد ذلك دخل معها في حديث طويل عن مهامها كملكة، وعن حياتها العائلية وبلغت به الجرأة أنه سألها عن تربية الأمير تشارلز ولي العهد وعن تعليمه. ليس ذلك فحسب ولكنه أخذ يعطيها نصائح عن أفضل السبل لتربيته وتعليمه.
    استغرقت المقابلة وقتا طويلا بحساب ذلك المكان. وقف الصف، وبدأ رؤساء الوفود يتعجبون من هذا الذي أعطته الملكة كل هذا الوقت وكان محمد أحمد محجوب وراء 'منسي ' ينتظر دوره، بقامته المديدة، وخبرته الطويلة وبذلته الأنيقة التي لم يستعرها، ولكن اشتراها من حر ماله.
    تحرك دوق أدنبره، زوج الملكة الذي كان يقف إلي جانبها، وأمسك 'منسي' برفق من ذراعه وخرج به من الصف قال له: ' أنت صغير السن جدا. كيف أصبحت رئيس وفد دولة كبيرة كمصر؟'
    قضي 'منسي ' ذلك المساء كما يمكن أن يتخيل المرء، أكل وشرب وحاور وجادل وضحك، وتعرف بلورد هذا وليدي تلك، وتحدث اللغة الإنكليزية علي أصولها في مكمن أسرارها وأمنع حصونها وفي غمرة تلك السعادة أغفل أمرا مهما، وهو أن ذلك القصر ليس مكانا 'هملا' وأن الإنسان لايدخل ذلك الحصن دون دعوة ودون وجه حق، مهما بدا له أنه رمز لشيء ما، أو أنه صاحب حق ما. كانت ثمة عيون تراقب وتحرس، وتري وتسمع.
    ثاني يوم، مع أول الصباح، وهو يكد يستيقظ من نومه، حل عليه رجال أشداء من طراز لم يعرفه من قبل رجال الأمن كانوا يعرفون عنه كل شيء منذ أن وطئت قدماه أرض جزيرتهم.
    كل صغيرة وكبيرة أحصوها في سجلاتهم وعلي مدي شهر أو نحوه ضيقوا عليه الخناق، واتهموه بأنه عميل للمخابرات المصرية ­ قالوا له إنهم لايجدون تفسيرا آخر لسلوكه المريب. العجيب أن المصريين أيضا اتهموه بأنه عميل للمخابرات البريطانية فهم أيضا لم يجدوا سببا منطقيا لسلوكه.
    دخل 'منسي' في مأزق حقيقي، فجند كل طاقته واتصالاته ومعارفه وأخيرا انتهي الانكليز إلي الرأي بأنه شخص إما أحمق أو مجنون لايدري ماذا يفعل.
    إنما 'منسي' رحمه الله لم يكن أحمق ولا مجنونا، كان كما وصفته أستاذته باربرا براي
    'إنسانا نادرا علي طريقته'.
                  

العنوان الكاتب Date
ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. احمد حماد ادريس04-30-07, 10:25 PM
  Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. احمد حماد ادريس05-01-07, 00:27 AM
  Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. abubakr05-01-07, 06:11 AM
    Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. الطيب شيقوق05-01-07, 06:16 AM
    Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. الواثق الصادق05-01-07, 06:21 AM
      Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. الطيب شيقوق05-01-07, 08:31 AM
      Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. احمد حماد ادريس05-01-07, 09:45 AM
        Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. الطيب شيقوق05-01-07, 12:59 PM
        Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. احمد حماد ادريس05-01-07, 01:09 PM
          Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. الطيب شيقوق05-01-07, 04:06 PM
            Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. احمد حماد ادريس05-01-07, 08:18 PM
              Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. الطيب شيقوق05-01-07, 08:43 PM
              Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. احمد حماد ادريس05-01-07, 08:44 PM
                Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. الطيب شيقوق05-02-07, 06:15 AM
  Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. abubakr05-02-07, 07:04 AM
    Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. الطيب شيقوق05-02-07, 07:08 AM
      Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. الطيب شيقوق05-02-07, 10:43 AM
        Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. الطيب شيقوق05-02-07, 10:08 PM
          Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. الطيب شيقوق05-03-07, 10:06 AM
  Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. abubakr05-03-07, 05:34 PM
  Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. abubakr05-04-07, 05:32 AM
    Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. الطيب شيقوق05-04-07, 08:26 AM
    Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. فيصل محمد خليل05-04-07, 08:29 AM
  Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. abubakr05-04-07, 08:33 AM
    Re: ابو بكر سيد احمد -عثرنا على مصطفى سعيد-باعترافه الشخصى.. فيصل محمد خليل05-04-07, 08:48 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de