عام أول على الغياب...

Quote: نم هانئا مصطفى سند أمام وحشة الموت ولذع الفراق هل تراني بحاجة لتدبيج مرثية مادحة للشاعرمصطفي سند ام يكفيني ان الوح له بمنديل الوداع؟ وأي وداع هذا الذي يكون بين تفاحتين في غصن واحد نخرت دودة الموت احداهما وأبقت على الأخرى ولكن الى حين يحين. كنت انوي زيارة اخرى الى بلادنا هذه العام وكنت أنوي ان لا اكرر حماقات الزيارة الأخيرة فأتسلل زائرا صديقي الدكتور حسن أبشر الطيب الجدير بأن يزار في داره و"ان تزجى اليه القلوص النواجيا" وأن اذهب الى الناقد الضخم الصديق عبد القدوس الخاتم مثال الشباب والجرأة في زماننا اعوده واستمع اليه. كما كنت أنوي أن أذهب الى الشاعر مصطفى سند في داره أطمئن على أحواله الصحية وأجدد له محبتي واعجابي. ولو حدث ذلك لكانت تلك أول زيارة اقوم بها الى دار الشاعر الكبير فقد قضت ظروفنا أن لا نلتقي "الا كما المرضى بدار طبيب" وأن نتبادل ما بيننا من الود بعيدا عن إلفة البيت والسكن والعائلات. وواقع الحال انني والفقيد العزيز زميلان في صناعة الشعر بدأناها في أزمان متقاربة في مطالع الستينات وفي حين انقطعت عنها ردحا من الزمان ظل مصطفي مثابرا عليها مضيفا اليها فنونا من الكتابة الصحفية والنقد والشعر الغنائي الذي برع فيه واستطاع ان يرفع مستواه الى آفاق عليا لا اقل من "عشان خاطرنا" التي طالما أسكرت روحي بصوت محمد ميرغني الرجولي وهو يتوسل الى حبيبة نائية ان تترك عينيها النجلاوين تعتصران عنب الروح. سيظل دائما شاعرا مجددا واديبا كبيرا وفي ليلة فقده الظلماء سيفتقد الناس بدره المنير ولكن اكثر ما استهواني فيه هو تهذيبه العظيم فلحكمة ما او قل لنعمة من ربك ذو الجلال تميز مصطفي بين الادباء بكونه اسم على مسمى فهو الاديب المؤدب المهذب المتحلي بمكارم الاخلاق من تواضع وحسن مجاملة وسماحة روح وبعد عن الغل والمنافسة وروح الانتقام .يلقاك بشوشا عطوفا ويحدثك بألطف الكلام وينقل اليك احسن الانباء ويقص عليك اجمل النوادر والأقاصيص ويتواضع حتى يجعلك تظن بنفسك الظنون وتحسب نفسك شيئا ومن حسن ادبه وعظيم تهذيبه انه لايفتح ابواب الجدل وذلك باب من ابواب حصافته التي لا تعرف الحدود. تزاملنا في المجلس الانتقالي الاول على مدى عامين فلم أسمعه يتحدث الا في امور الثقافة وشئون المجتمع ولا ينزلق الى امور السياسة مؤيدا او معارضا تاركا ذلك لمن شاء الخوض فيه من الخائضين دون ان يستنكر رأيا او قولا لاحد من الناس.وقد خصني شخصيا بما اعتبره عطفا اخويا اذ كنت تحدثت مرة عن وقوف الدبابات على مداخل المدينة وجسورها فقال لي بتهذيبه المعهود:"يا محمد دع الحديد وشأنه وخليك في شعرك وثقافتك"ولم يتبادر قط الى ذهني انه اراد بذلك شيئا سوى النصيحة او دفعه الى ذلك شيئ سوى العطف الأخوي وثقته بأنه أعرف مني بما يدور في البلاد. وذلك امر اقر به فقد سافرت كثيرا في هذه الدنيا وترك الغياب فجوة في ثقافتي السياسية ومتابعتي للشأن العام. كاذب من يقول انه كان مغرما بتصدر المجالس او حريصا على فرض شعره الجميل على اسماع الجالسين الا ان يكون ذلك بطلب منهم وبعد الحاح وذلك على جمال شعره وطلاوة حديثه وتنوعه فليس مثله من جاب ربوع البلاد او اقتنى ما اقتنى من التجارب وملأ روحه مثل مصطفى سند بالذكريات الحسان. ولا يذكر الناس عن مصطفى عصاميته الثقافية ويظنون انهم يحسنون الى ذكراه بجرد الشهادات والالقاب العلمية التي حصل عليها فواقع الحال انه التحق بخدمة البريد والبرق في ريعان الصبا زاهدا في المدرسة النظامية مقبلا على تعليم نفسه وتأهيلها بجهده الخاص ومستفيدا في النهاية من موهبته الفنية التي سرعان ما حلقت به فوق من اختاروا إبلاء سروايلهم على مقاعد الدرس كما يردد عبد القدوس الخاتم . ارى في مصطفى أمثولة الأدب الذي يؤدب صاحبه ويملأ روحه بالتهذيب وكنا في زماننا نعتقد ان تلك غاية الادب ونهاية الارب وخلاصة إسهامنا النهائي في صناعة الانسان الجديد باعتبار ذلك شيئا مختلفا عن الهجائيات والاقذاع الصريح. وذلك ما يؤلم الروح في رحيل مصطفى فسوف يظل معنا تراثه الثقافي من شعر ورأي وذكريات ولكن من يعوضنا عن ادبه الشخصي في المعاملة ولطفه ورقته في التحدث بفضائل الآخرين. سلاما مصطفى سند. نم هانئا على مجدك الشعري المستحق وعلى مجدك الانساني في حب الناس وأنتم ايها الذين اكرمكم الله بمعاشرته والتعرف عليه تقدموا وحرروا شهاداتكم عن رجل عظيم ومثقف كبيروشاعر لم يتوقف يوما عن التجديد.