|
|
 Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك (Re: فيصل محمد خليل)
|
أحمد بشير العبادي:
حديث عن الأنهار و المعالم و المدن ...
بقلم :علي المك
شهدت حفل التأبين إلا قليلا...
كنت أود حين وصلتني الدعوة للشهادة أن اكون قد أعددت شيئاً للمناسبة، فهنالك في ظروف الكاتبين والكتابة تراكم أشغال، وأعمال سآمة دنيوية، وغياب إلهام، مما يصيب العقول بالجمود و الصمم. فاتني أن أقول كلمة، مثلما قد فاتني قبل ذلك شرف الجلوس إلي حلقات دروس أحمد بشير العبادي. آنا كانت تمر عليها الأجيال، تأخذ من علمه ومن معرفته زاداً ووقوداً لحياةٍ طويلة النصب، شديدة العناء، بما يزيد عن حدود الصبر وآفاقه علي سعتها. لولا تلك الأسس الرصينة من أمثاله وأضرابه لانفجر الصبر نفسه ضجراً و إملالاً ... العلم النافع درع، و المعلم المفيد درع ... و هذان خير أسلحة في الحياة.
رأيت الذين درسوا علي يده قبل.. بعض أولئك.. فالكل مستحيل قدومه لمثل ذلك الوداع، منهم من غيبه الموت، وفيهم من قعد لا يستطيع حراكاً، ومنهم من تنازحت بهم الأوطان.. رأيت قسما من طلابه وعارفي علمه، ألوفاً هطلت عمائمهم البيضاء وجلاليبهم بلون الفجيعة، كانت علي مدافن البكري. ولعل الذين كانوا في الأجداث قد ثووا، قد تنبهوا لهولها ، فعرفوا جلال الموت مرتين...
ما رأيت حشداً كمثل ذلك الحشد منذ عهد بعيد... جمعا غفيراً كان... حركة أقدام تتقافز علي كوم التراب والحجارة، و تتقافز.. لا تريد أن تدوس علي المقابر القديمة. يضيق بالقوم المكان.. كان حزنهم فريداً..و نابغاً . ذلك الحزن كان من مواطن الحزن فينا... رأيته في رجل مخلص لكل ما ينبغي الإخلاص له.. ليس ذلك و حسب، بل كان نهاية عهد، كلما اتسم به العهد.. كان الاتزان والإخلاص لقضايا المجتمع، ومدن العلم المشرئبات الي العلي، و للعلم نفسه.. اكتملت صورة العهد الفريد فيه، وما بقي فينا للنسمي، مخلصين مثل أهلها، مثابرين للمعالي شأن أهلها، مناضلين لمثلها العليات. إن البكاء العاجز عليها، والأسي لي الساعة أرثي للمدينة، وآسي وأنا أبهر بأركانها تهتز، تنهد و نحن دون علم بنا.
ربما في غفلة وفي تفريط نودع أناساً، رجالا كانوا عمد هذا الوطن. ولفرط ما منح أولئك حياتنا من ظل وريف وراحة فكر، ونعيم علم، نظن أن ظلالهم التي منعت شمس الجهالة أن تهطل علينا، باقية لن تزول، وكنا واهمين. أولئك قوم أدوا رسالتهم وعلمونا أن نقوى، وأن نشتد فكراً وساعداً وثبات قلب.. بصورة أدق، خلفوا علينا عبئاً، ظنوا أننا خليقين بحمله والسير به وتسليمه للأجيال في سباق مبادلة مع زمان أسحم، وعدد مبين جم الترصيد؛ ولكننا كنا دائماً نطلب عونهم و نبكي.. علمونا، فأخفقنا كثير أحيان.. عادوا يصلحون من شأننا فسقط جلنا دون أن يبلغ المراد.. صارعوا الاستعمار والظلم، فصارعنا أنفسنا.. ونسينا هذا الوطن.. آه ما أجل الأسي.
آخر مرة رايته فيها كان يتأهب لدخول جامع خضر النحاس يوم الجمعة، صلاة الجمعة.. كان يبدو وقد فرع المصلين المتوافدين الي الحسنات والمكارم طولاً.. وكما ألفته سنين طويلات، كان مهيبا جليل الخطي. هو رصانة ووقار.
منذ أن كنا نحضر إلي البيت في ذلك الحي القريب من دارنا، حي قديم، ودار قديم.. زقاق يفضي إلي حلة المغاربة.. وهي، رغما ً عن أن الناس قد اصطنعوا لها اسما، قنعت به، وأعجبها لونه، زقاق واحدلا يزيد، يمتد متعرجاً خيرانه أخاديد، وحصاه لهب.. يرفد من الشمال إلي الجنوب، ثم ينفذ ضلع من أضلاعه يباغ نوعا من الشرق يقود الأعمي والبصير والمريض والسليم إلي جامع خضر النحاس، وإلي طاحونة كولوبس .
ورغماً عن قول اللافتة السوداء، وبعض المتعلمين طاحونة (فيلبس سيدهم)، إلا أن ذلك لم يزل اسم كولوبس عن عقولنا، لأنه استقر بهاو صار من ارادة الشعب. أما هذه الطاحونة، فدرست وصار شأنها أشغال اخري. وأما المسجد، فبقي وحفظ الله له طول مئذنته قامة وشأن وصلاح يؤمه كل الأوقات، وتستبد مئذنته بالجهات الأربع نظراً، وهو من بعد غض النظر، وأذان تنثره علي آذان الحي، وتلتمع الأعين به نورا- وإن أعشت. و الشارع مكان الزفة.. إلي مطالع رمضان يهفو، وإلي مولد النبي صلي الله عليه وسلم، و طريق الناس إلي المعالي. وأم درمان كلمتني أنها تفاخر به البلدان و الأمم.
كنا نأتي دار العبادي أيام الإجازات من وادي سيدنا ومن الجامعة.. سعد عبادي أسن منا، وأنه يفوقنا حجماً، بشير دفعتنا، وكان شاطراً في الرياضيات وطلاسمها وألغازها، وفي سائر معارف عصره. وكنا دون إعلانٍ أو معالنة نعده لصراع المجد و التفوق.. وعرفنا مصطفي، ثم اتصلت سبل المعرفة جيلاً يحمل مشعلاً إلي جيل، فأضاءت مشاعلنا لحين أن بصرنا ( كرار) و ( كمال) و ( السر)؛ و مخبزالأفراح وكهربة عامر.. رجال ما فيهم إلا شهم و إلا نبيل.
في هؤلاء الهل سمة مدينتي أراها كما عهدتها، تهب لنجدة الضعيف، (تقنع الكاشفات)، ولا تدوس الحاجة عفاف أبناءها، في الملمات و الأفراح.. يلتفون حولك يؤازرون مؤازرين، حتي قبل أن تلتمس منهم عون.. ومن تربي علي الخير وعلي المروءة صار هما.
حزن فريد .. أكاد أعرف الحصي ولون الأسفلت في الشارع و شروخه، و أعرف كذالك وفاءه، ينقل المظاهرات الملتهبة علي الجمعية التشريعية.. و بأعين الطفولة قبلها، وأين جنودنا العائدين من حرب الفاشية في الصحراء الغربية وغيرها؟ ولم تتبدل به الحركة ولا وفاءه للناس.. يحملهم من أبوروف إلي السوق، ومن السوق الي الهجره والنهر وكشة العصاصير هنالك، وصانعو الحلوي و السروجي والحلاقون، وسبيل نايل.. والترام يسرع مخادعا، يهدئ روع نفسه ومن ثم أنفاسه المبهورات يلتقطها.. بأعين الترام أري (سبيل نايل)، لا هو محطة ولا هو سندة .وما للترام به شأن، لأنه أقيم للسابلة و للظمأ اللاغب والعطش الحراق.
أتحدث عن المعلمين الذين جاءوا بعده ودرسنا عليهم ما درسوا عليه.. بذل لهم بسيط العلم، وما بذلوه لنا يتجدد فيهم ويشيخ ..حينما أتحدث عن المعلم أحمد بشير العبادي فأن الكلام كثير والكلام يجدي ولا يجدي أحيانا.. فأي حديث يفي حين نواجه الأنهار والمعالم والمدن؟
******
|
|
 
|
|
|
|
|
| العنوان |
الكاتب |
Date |
| ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-26-09, 09:40 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-26-09, 10:09 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-26-09, 10:15 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-26-09, 10:22 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | كمال عباس | 04-26-09, 10:28 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | كمال عباس | 04-26-09, 10:35 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-26-09, 10:41 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-26-09, 10:46 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-26-09, 10:50 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-26-09, 10:54 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | سفيان بشير نابرى | 04-27-09, 00:59 AM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-27-09, 05:22 AM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-27-09, 05:32 AM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-27-09, 06:10 AM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | حسن طه محمد | 04-27-09, 06:27 AM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-27-09, 06:28 AM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-27-09, 06:48 AM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | معتصم مكاوي | 04-27-09, 06:32 AM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-27-09, 07:16 AM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-27-09, 07:38 AM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-27-09, 07:43 AM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-27-09, 07:49 AM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-27-09, 08:09 AM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-27-09, 08:15 AM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-27-09, 08:22 AM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | د.أحمد الحسين | 04-27-09, 12:33 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | سلمى الشيخ سلامة | 04-27-09, 12:57 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | Mohamed Abdelgaleel | 04-27-09, 01:14 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | Osama Mohammed | 04-28-09, 12:02 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | باسط المكي | 04-28-09, 12:45 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | فيصل محمد خليل | 04-28-09, 03:16 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-28-09, 05:40 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | Abdul Monim Khaleefa | 04-28-09, 10:35 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد القادر الرفاعي | 04-28-09, 10:47 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | nada ali | 04-28-09, 10:47 PM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | elsharief | 04-29-09, 06:21 AM |
| Re: ملف الأديب الراحل البروفيسور علي المك | عبد الباقي الجيلي | 04-29-09, 03:27 PM |
|
| |
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست