كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبداعية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-19-2025, 04:26 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2009م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-13-2008, 06:44 PM

محمد جميل أحمد
<aمحمد جميل أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1022

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا (Re: محمد جميل أحمد)

    الفصل الأول:

    أبـــواب الطفـولــة


    ابن الرافدين/ الشعر و الذاكرة:

    * الشاعر عبد الكريم كاصد، أود أن نبتدئ من البداية. و بداية كل شيء طفولته. و ما الشعر في جوهره سوى طفولة مستعادة. ماذا لو حاولنا معا استجلاء طبيعة العلاقة بين عبد الكريم الطفل والشاعر؟ كيف عاش طفولته و ما هي أهم الروافد التي صاغت ذاته المرهفة و أثرت في حساسيته الشعرية؟

    ** قبل فترة كتبت قصيدة ذات فكرة تبدو غريبة نوعاً ما عن حياة هي ليست غير حلم أو ذكرى رجلٍ ميت تتداخل فيها الأزمنة فلا ماضٍ هناك ولا حاضر ولا مستقبل، بل أزمنة تتداخل. غير أن القصيدة لا تتعامل مع هذه الفكرة في تجردها بل في تجسدها الواقعي الملموس وفي التفاصيل التي تقربها من الواقع لا الحلم الذي تتحدث عنه، من الإنسان الحيّ لا الميت الذي يتذكّر. القصيدة هي:

    فكرة بغيضة

    أحياناً
    تراودني فكرة
    كم أحاول أخفاءها
    فكرة بغيضة
    ماكرة
    هي أنني رجلٌ ميْت
    يتذكر أيامه الغابرة
    دون أن يعرف إن كانت هذه
    ماضيةً
    أم حاضرةً
    أم آتيةً
    وقد تداخلت الأيام
    فهو الطفل في كهولته
    والكهل في طفولته
    والشيخ في حاضره
    ولايدري
    إن كان الناس يظنونهُ
    طفلاً
    أم شيخاً
    أم كهلاً
    يسأل مرآته أحياناً :
    كيف يرتّب أيامَهُ
    بل كيف يرتّب وجهَهُ
    في فوضى هذي الأيام
    ذات الأبواب الألف

    المشرعة على أبوابٍ ألف
    المشرعة على ..
    أبوابٍ
    أدخلها
    أولها أم آخرها
    هذا البابُ المخلوعُ المائل؟

    أبوابٌ
    يدخلها رجلٌ ميْت

    * هل في هذه القصيدة إجابة ما؟ لا أدري ولكنني أستطيع أن أقول أن ما يتراءى لي طفولة هناك لم يزل حاضراً هنا، وما أراه شيخوخة الآن لم تكن طفولتي بمنأىً عنه. لم تكن الطفولة وهماً أو سعادةً محضاً بل كثيراً ما أطلت بملامح أخرى.. ملامح لم يدركها الطفل آنذاك.

    ** حقّاً إنني ما زلت حتى الآن لا أعرف كيف أرتب أيامي أو كيف أرتب وجهي، مثلما لا أعرف كيف يظنني الناس: طفلاً أم شيخاً أم كهلاً؟ و لعلّ الشيء الوحيد الذي أعرفه أنني أمام أبوابٍ شتّى وأنني ما أزال مشروعاً للمغامرة خلف الأبواب.. وأنني ما زلت الطفل الذي يطلّ بين فترة وأخرى، وأن الكهولة ليست مؤجلة، أو تالية، وأن الشعر حاضر في هذه التحولات يقبس منها ناره أبداً، ولعلّ في هذه النار ما يقيني برد العالم الذي يحوطني، والزمن الذي يخترقني . لذا أعتقد أنني ما زلت بعيداً عن أية صياغةٍ ناجزة، وأن روافدي لم تنضب أو تنقطع بعد، وأن بعضها لم يزل يحفر عميقاً في شعري. هل يمكن أن أقول أن ألف ليلة وليلة التي رواها لي خالي موزان كاملة أكملت فعلها فيّ أو في شعري؟ هل أستطيع أن أغادر طفولتي وكأنها مدينة مررت بها في قطار عابر؟ هل انتهى رافد الشعراء الذين أثّروا فيّ: طاغور، المتنبي، لوركا، نيرودا، ناظم حكمت، إليوت، عزرا باوند، فروست، السياب.. وغيرهم؟ أم أنني ما زلت أرى في هؤلاء رافدي الذي لا ينضب؟

    نعم .. ثمة بشر عاشرتهم وأحداث أثّرت فيّ وكتبتُ عنها وما زلت أستعيد بعضها وأكتب عنها وكأن الشعر والطفولة توأمان يلتقيان مهما ابتعدا. سيظل الشعر مهما نأيتُ به طائفاً يراوح عند حدود الطفولة ليدخلها في لحظة ما.. لحظة سعيدة قد تختلط بالحزن ولكنها لحظة فرحٍ بلا شكّ.

    *الطفل أب الإنسان، يقول الشاعر وودزوورث. على ضوء هذه المقولة، إلى أي حد تمثل الطفولة خزينا لتجارب و أحاسيس ملهمة للإبداع الشعري عموما؟

    **نعم قد يكون الطفل أب الإنسان وقد يكون الرجل أو الإنسان ابناً للطفل. أقول في قصيدة لي بعنوان الشاهدة مخاطباً أبي:

    وكنتَ لي الصغير تعاشر الجيران

    كما أقول في قصيدة أخرى:

    قلت لأبي وقد جاءني زاحفاً من قبره
    "آه .. يا طفلي العزيز !".

    وفي الحالتين يحضر الشعر. الطفولة كما قلت ليست مرحلة حسب، بل هي علامة الإنسان وجوهر الشعر في أية مرحلة كانت. وحين تغادر الطفولة الإنسان يغادره الشعر أيضاً. وحين نتحدّث عن الطفولة بصفتها مرحلة ما، فهي بالفعل خزين من التجارب والأحاسيس والدليل على ذلك هو استمرارها نسغاً لا في الشعر وحده وإنما في الحياة أيضاً حتى يمكنني أن أقول: إنني طفولتي .

    أشعر أحياناً أن طفولتي كالوجود لدى هيغل الذي يحتوي على تفتحه القادم الكامن فيه. ألم تنطو طفولتنا على الكثير من قسماتنا القادمة؟ ألا تحتوي قسماتنا الحالية طفولة ما.. حتّى لو كانت مندثرة لدى البعض؟ هل الشعر وسيلة لإحياء ما اندثر لدى الشاعر أو القارئ.. أو في طريقه إلى الاندثار؟ هل الكتابة، والشعر خصوصاً، وجود ينطوي على حياته القادمة كما لدى هيغل الذي اكتشف في الخلو (مقولة الوجود الفارغ) كامل الامتلاء؟


    * قلت في مقام آخر: "ما زال في داخلي ذلك الطفل يرافقني و يقودني إلى ممالك أبعد". ماذا منحتك طفولتك من صور شعرية و رؤية بدائية للعالم من خلال صلاتك بشخوص المرحلة وأمكنتها والنماذج الأولى واللغة الأم؟

    ** في طفولتنا كنا ما إن نغادر البيت حتى نجد أنفسنا منزلقين على خشبة مسرح مهيئين لجميع الأدوار. لم يكن أحدنا ينتظر دوره. كانت الأدوار حاضرة تنتظرنا فرساناً و مغامرين. كلّ الشوارع يمكن أن تكون مسرحاً.. الصغيرة منها والكبيرة، الظاهرة والخفية، وفي الخفية كنا نقوم بأدوار الحرّاس لتحذير أخوةٍ لنا كبار، يلعبون الورق، عند مداهمة الآباء.
    ذات يومٍ - أذكر- اجتمع اللاعبون في مكان يعلوه وكر زنابير. لا أدري كيف اهتاج هذا الوكر لتخرج منه الزنابير جيوشاً تتعقبنا وقد تطايرت أوراق اللعب ومعها بعض أوراق نقدية لاتستحق كلّ هذه المغامرة التي أورثتنا انتفاخات مضحكة في وجوهنا في اليوم التالي. لم يك ثمة إطار للطفولة، أو قواعد صارمة أو مراتب بل حياة مسفوحة.. مفتوحة الأبواب على خارج أليف وغرائبي في آن واحد. لم تكن طفولتي تبحث عن مغامراتها وإنما تجدها في ما هو مألوف في الواقع. كان شعري فيما بعد وجهاً آخر لطفولتي. هل الطفولة والشعر صنوان؟

    أتساءل أحياناً لماذا الطفل هناك حتى في الأحداث الضخمة كالحرب .. لماذا الطفل ، مثلاً، في ملحمة الماهابهاراتا التي اطلعتُ على ترجمتك الجميلة لها؟ ماذا يفعل الطفل هناك وسط كلّ هذه الأحداث التي وجد نفسه في خضمها فجأةً؟ كيف يصبح الواقع مخيلة عند الطفل والمخيلة واقعاً عند الشاعر فيما بعد؟
    وحين أتذكر طفل الملحمة أتذكر أيضاً طفل الحياة الآخر الجميل الباسم التي تروي عنه الملحمة إنه كان واقفاً تحت شجرة حين قدم إليه الشيخ الناجي الوحيد بعد أن استحال العالم مستنقعاً هائلاً، فناداه وطلب منه أن يدخل جسده ليستريح ، فهاله أن يرى العالم من جديد حيّاً بأنهاره ومدنه وناسه وسمائه التي لا تنتهي.

    لعل أغرب ما اكتشفه الطفل فيما بعد هو أن الشرّ لم يكن بعيداً عنه، ولم يكن بتلك القسمات الشريرة التي كان يظنها؛ فهو يبتسم له أحياناً. كان يعرف شريرين وادعين وطيبين أشراراً، وكان يرى الرقة في من يتوهمهم الآخرون أفظاظاً. كانت عيناه تتسعان على المشهد بل إنه كان، ويا للغرابة!، يرى الفضيلة حتّى في ما هو رذيلة. أتذكر العاهرات وهنّ يهبطن في جولةٍ (تذكرني بمواكب المومسات التي تحدث عنهنّ أندريه جيد في كتابه "حين تموت البذرة") أيام الأعياد في مدينة بسكرة الجزائرية الشبيهة بالبصرة بنخيلها وبيوتها ووداعتها.

    كنت أتطلع إليهنّ فأراهن أليفات يشبهن نساءنا إلاّ بضعة أصباغ أفتقدها في وجوه بعضهنّ أحياناً، وحتّى عندما يتشاجرن مع الباعة وتعلو أصواتهن، أسمعهنّ يتحدّثن عن شرفهنّ الباقي أو المفقود... لا أدري فتصيبني الدهشة، بل أن لبعضهنّ أطفالاً يجلبنهم معهنّ إلى السوق ولاتنتهي جولتهنّ إلاّ عند حدود سوق البزّازين الذي انتقل إليه محلّ والدي بعد أن كان في بداية السوق فيصلن إليه كغزالات نافرات من سربٍ عائد. لن أنسى دموعهنّ بعد إغلاق المبغى، وهنّ يودّعن الآتين ويعرضن أثاثهنّ للبيع، ويرحلن بلا أثرٍ سوى البصمات التي خلّفتها أيدي السكارى والمتعبين على أجسادهنّ.

    كانت هذه الأضداد تتزاحم كلّما تقدّم الطفل خطوةً لتصبح أضداداً جديّة لم يكن يتوهم يوماً أنه سيجد تركيبها ، في مادّة أو مثال، ولكنه كان يجد إنسانيته حين يلتقي بالبشر ولا يرى اجتماعهم شرّاً، وهذا لا يعني أن تجمعهم خير بالضرورة فما أكثر الشرور التي ارتكبتها الجماعات. لم يكن الشرّ هناك بل هنا أيضاً متألقاً مثيراً في ابطالٍ يبعثون على المتعة في مغامراتهم التي لا يُنقص منها حتى الشرّ.

    مرّةً فوجئ الطفل بواحدٍ من "الأشرار" تتعقبه الشرطة بتهمة قتل مفوّضٍ شرير فاضطر إلى الالتجاء إلى بيتنا وقد أثخنته الطعنات ، فآويناه أياماً خرج بعدها وقد شفي من جراحه الفاغرة. كلّما تذكرت هذا الرجل المذبوح استغرب كيف عاد إلى الحياة بقماشات نظيفة فقط وماء حار ومراهم عاديّة. و يا للغرابة حين التقيت هذا الرجل فيما بعد وكأنني لم أعرفه من قبل أو لم نعش حدثاً ما.. رجل قاتل وعائلة طيبة هكذا يلتقي الشر بالخير ويختلطان في لعبة شريرة أو طيبة.. لا أدري.

    حتّى الموت كان لدينا لعبة نحن الأطفال. نتطلع إليه من شقوق الحيطان القصب المعدّة لغسل الموتى ونصحبه حتى الجادّة العالية حيث ترتفع البيارق وتنطلق أصوات البنادق ويتقدم الميت في تابوته غامضاً في رحلته الأبدية إلى البعيد، على سقف سيّارة بينما يردح البعض بالهوسات التي يردّدها الآخرون. احتفالات وطقوسٌ تتكرر وسط دهشتنا الدائمة وحركتنا الدؤوبة حين تشب المواقد وتعلّق الخرفان وتُهدى لنا بعض أجزائها اللذيذة، نحملها إلى أمهاتنا ليشوينها على الجمر وقد أقعينا جوارهن.

    عالم طفوليّ.. يمتزج فيه كلّ شئ.. البشر والآلهة، السماء و الأرض، الأموات والأحياء، الحجر والماء، وتهبط النجوم في سلةٍ إلى الطفل:

    النقوش الجميلة في الخصر،
    (ترفع أثوابهنّ الصبيّات)
    إغماضة الشمس فوق الحظيرة،
    (تعبق رائحةٌ)


    صيحة الغاق،
    (ترحل بعض الحضائن في النهر)
    إطلالة الليل فوق السطوح الخفيضة،
    (تهبط في سلّةٍ نجمة)
    وتنام.
    (صيف) من ديوان (النقر على أبواب الطفولة)


    النقر على أبواب الطفولة:

    * يمتح ديوانك الموسوم "النقر على أبواب الطفولة" مادته الشعرية من تجارب الطفولة. و هو يضم قصائد يتراوح تاريخ كتابتها بين سنة 1968 و 1976، وهي بذلك تتقاطع مع القصائد المنشورة في المجموعة الأولى "الحقائب" الموقعة بتاريخ 1975. يفهم من هذا أن قصائد "النقر" كتبت على مدى ثماني سنوات، و هي فترة تخللتها، بلا شك، أحداث و أسفار و رهانات و اختيارات فكرية و جمالية متعددة. ما البواعث الذاتية و الموضوعية التي حفزت على نشر ديوان عن الطفولة بشكل خاص؟ و ما هي اللحظة التي بدا فيها "نداء الطفولة" ضاغطا و ملحا مما حدا بك إلى انتقاء و تصور نصوص هذه المرحلة وفق منظور موحد، أي في شكل ديوان متكامل؟

    ** أغلب قصائد المجموعة كتبت في سنتي 75-76 باستثناء قصيدتين هما (حكاية متعبة للأطفال) و(مرثية) اللتين كتبتا سنة 1968، لذا فهي لاحقة لمجموعة (الحقائب)، كتبتها بعد عودتي من غربةٍ دامت ثلاث سنوات متواصلة في الجزائر. باعثها هو ما استشهدتَ به من إضاءة كانت إذا صحّ التعبير تطهيراً، ونجاةً، وابتعاداً عن واقع، لأعود إليه وقد انفتح على ماضٍ أردته مستقبلاً أيضاً لطفولة أراها أمامي تختنق بشعارات ودعاوى كأنّ الحياة ليس لها سوى بعدٍ واحد هو البعد السياسيّ في أدنى أشكاله: ضجيج إعلامٍ، ومسيرات كبرى، وتظاهر بتحالفات كاذبة، وتعداد مآثر لسلطة بعيدةٍ عن الناس حتى في توفير أبسط احتياجاتهم. يقابل ذلك دعوات نقاد وكتاب وصحف لتكريس أدبٍ لا همّ له سوى مديح هذا الواقع الفظ وانجازاته الباعثة على السخرية في صغرها المضخم في الإعلام.

    كان ديوان "النقر" إنقاذا لي .. تطهيراً وملاذاً لجأت إليه لأصغي إلى أعمق ما في داخلي من حنين لأمكنة وأناس غابرين عادوا ظلالاً، فأردتهم أحياء، كأنّني أريد أن أقيم عالمي الذي هو نقيض العالم القائم/ حيوات وأمكنة وأصداء و بشر قادمون بملامح غائمة تتضح شيئاً فشيئاً: كامل الطفل الذي اخضرت لحيته، أفعى البيت الخارجة من ظلام الحائط المشقوق لتهزّ الطفل، الحمال الذي يتقدّم ملكاً خشبيّ الجنحين وقد كنسنا نحن الأطفال، أمامه الطريق، لئلاّ تنغرس قدماه بالحصى، لشدّة ما يحمله من ثقل، حمزية الراقصة الغجرية بثوبها الموسلين.. النيران المشبوبة لرقص العميان، المرأة الهاربة التي يتأبطها ذئب، النساء اللواتي يجمعن الملح فتلاحقهن الشرطة، لأن هناك من يحتكر الملح، البغايا الباكيات وقد أغلق المبغى، وسط سباب القوّادين وضحكات العابرين، عمال الجراديغ (مكابس التمور) وهم يقلبون الصناديق طبولاً للسهر في الليل، النوتيّ الذي بلغ السبعين ولم ير المدينة..عالم ينفتح على ظلمة في السراديب أو ضياء شمس، وبين الظلمة والضوء يتراءون بشراً وأشباحاً في آنٍ واحد، أشراراً وطيبين بشرورٍ صغيرة، هامشيين وأبطالاً، وبين الهامش والبطولة ينتقلون مثلما ينتقل البشر بين الظلمة والضوء...

    كان هذا الحشد يجتاز كلّ صباح الطريق إلى المدينة موكباً تخترقه العربات التي تجرها الخيول وروثها الذي يملأ الطريق. كنا أطفالاً نندسّ بينهم في طريقنا إلى المدرسة.. حمالين وعمالا وبائعات ملح يفضلون السير على الأقدام على ركوب العربات.. سمّهِ كرنفالاً صباحياً تتخلله المسيرات الصامتة والضاجة لأناس يعرفون بعضهم بعضاً، وحين يصلون إلى المدينة نراهم يتخذون أماكنهم هناك وكأنهم نبتوا فيها أو كأنهم شخوص في مسرح واسع، ولعلّ أطرف ما في هذا المشهد هو جلوسهم الواثق في المقهى الرئيسيّ الذي يطلّ على قلب المدينة الضاج بالناس وحركة سير السيارات، وهم يدخنون النارجيلات باطمئنان الكائن الأبديّ الذي لا تشغله دنياه وهو الخائض فيها حتى الرقبة.

    حين نراهم نحن الأطفال يتملكنا شعور واحد: المدينة بيت. تدهشنا رقتهم في المدينة وحنوهم وسخاؤهم وحين كنت أقرأ لأبي "ألف ليلة وليلة" جالسين أمام محله الكائن في سوق البزّازين ، يترك هؤلاء محلاتهم ليتحلقوا حولي مبهورين متثاقلين حين يلمحون قدوم الزبائن.

    لقد أسرّني بعض القراء وبعض الأصدقاء من الشعراء إنهم حين هربوا من العراق لم يحملوا معهم غير هذا الديوان وكتابين عزيزين أو ثلاثة من بينها أيضا كتاب "المملكة السوداء" لصديقي العزيز وابن مدينتي محمد خضير. وحين ذهبت إلى العراق هذه السنة والسنة الماضية لحضور مهرجان المربد فاجأني الكثيرون بحبهم الكبير لهذا الديوان الصغير البسيط في أشكاله التي تكاد تكون مفتوحة حتى أمام عيون الأطفال.


    * في ديوان "النقر على أبواب الطفولة" اشتغال على صور الذاكرة بطريقة تستحضر الأحداث كما لو أنها ما زالت تحتفظ بطراوتها و عنفوانها و حسيتها الأولى، كيف استطعت الحفاظ على هذه المسافة الجمالية الحميمة رغم توالي السنين و اطراد الوعي.

    ** القصائد في هذه المجموعة هي وقائع حياتية حدثت بالفعل لطفل، ولكن ما يثير تساؤلي وتساؤلك ربّما هو كيف فاضت هذه الوقائع بالخيال حتى غدت وكأنها أحداث من صنع الشعر.

    في الطفولة كان الخارج يمتد إلى بيت الطفل، وحين كبر الطفل ألفى بيته وهو يمتد إلى الخارج ، ثم فقد الاثنين معا فيما بعد ليستعيدهما بين فترة وأخرى في لقاء عابر أو حادثة أو وهم أو حب أو حنان أبٍ صار أمّاً أيضاً.. أو صداقة ممجّداً الحياة مدركاً أن بهجتها هي التي تغري الوحوش بالافتراس أيّاً كانت هذه الوحوش سلطةً أو احتلالاً أو منفىً. لا يزال الخارج بالنسبة إليّ متعة وحين أبتهج لا أغلق أبوابي أبداً على الطفل بل أفتحها واسعةً رحبةً.. بلا انتهاء . أليس في هذا الفعل جوهر الشعر وحضوره الدائم وقدرته على استحضار ما يبدو أنه اختفى إلى الأبد. لا أحبّ النفس راكدة حزينة في الشعر، وأحبها مفتوحة على العالم حتى وهي في أوج مأساتها. لانّ في حضور العالم والتماع أشيائه يصبح حتى الحزن فرحاً مضيئاً بالشعر.

    أتذكر أنني في طفولتي كنت أضيق بالوحدة وأكره وقت القيلولة في الظهيرة حين ينام الأهل، وما زلت أشعر أن الوحدة، إن لم يحضر الآخر في كتابٍ أو ذاكرةٍ، ليست أقلّ وحشة من وحدة الطفل في الظهيرة.


    *في رثائك للأب، رسمت صورة شجية حيث قلت: "رأيت فيه طفولتي التي مضت و التي فقدت أعز شهودها". هلا حدثتنا عن علاقتك بالأب علنا نقتبس منها ملامح الشاعر المبكرة من جهة، وفضائل الإنسان العراقي البسيط من جهة ثانية؟

    ** كتبت عن أبي قصائد عديدة: الشاهدة، حكايات عن أبي، وقصائد أخرى، وإشارات في قصائد هنا وهناك، احتوت على الكثير من المشاهد واللقطات والتفاصيل عن سيرته الحافلة بالأحداث، والتي تتسم بغرائبية هي غرائبية الرجل البسيط في عالم لم يعد بسيطا. قلت عنه مرّة إنه أرحب من ثقافتي، وأكثر صدقاً من حماستي، وأعمق دراية ومعرفة بالناس وأهمّ من ذلك أكثر تسامحاً وإحساساً بالعدل. في طفولتي رأني مرّة وأنا أرقب الميزان بحرص فهمس في أذني أن أتساهل مع الناس، ولا أكون شديداً حتى في الميزان.

    كان بيتنا مكاناً للوافدين: أرامل، ويتامى، وفلاحون فقراء يأتون بسلال الرطب في أوقات معينة من السنة ليقيموا عندنا ليلة أو ليلتين فيهبهم والدي أضعافاً مضاعفة، لا لأنهم فلاحون فقراء يأتون من القرى النائية القريبة من البحر وإنما لأنهم أصدقاؤه يأنس لهم ويأنسون إليه، من طوائف شتّى ولعلّ آثر أصدقائه ليس من طائفته، ولعمق هذه الآصرة توارثنا هذه الصداقة القديمة النادرة، مثلما نتوارث شيئاً عزيزاً.

    أتذكر مرّة أنه أنزل قارئاً من على المنبر أمام الناس لأنه أشار إلى بعض الصحابة بما يسئ إليهم، وبنبرة طائفية مقيتة. ومرّةً ذهب ليجلب رفات خالي موزان من مدينته البحرية في أقصى البصرة: الفاو، وحين عاد بجنازته وكنّا في انتظاره وقد أقمنا السرادق لمجلس العزاء فوجئنا بسيّارة قادمة وهي تحمل جنازتين، فظننا الجنازة الأخرى أبي، غير أننا حين رأيناه يتقدم منّا سألناه عن الجنازة الأخرى، فقال إنه صادفها في الطريق ولم يكن في وسع عائلة الميت الفقيرة إيصال الجنازة إلى النجف فتعهد والدي بإيصالها مع جنازة خالي.

    ولعلّ الغرابة رافقته منذ نشأته إذ يروي لي أحد أفراد عائلتي.. من؟ هل هو أبي نفسه؟ أن جدّي حين اكتشف عروسه شديدة السمرة عافتها نفسه وطلب منها ومن أمها التي رافقتها إليه أن يغادرا في الفجر إلى أهلهما، وحين التقاها بعد فترة طويلة هي وأمها أيضاً في سوقٍ للأغنام ولم تزل في ذمته استعادها من أمها و بنى عليها مثلما يُقال فكان أبي.. كم يبدو هؤلاء البسطاء غريبين أحياناً!

    ولعل مجلس العزاء الذي أقمناه له إثر وفاته هو الخاتمة التي كانت المشهد الأخير لما مرّّ من مشاهد غائبة اجتمعت عبر شهود حضروا: رجال يقفون وسط المعزين ينتحبون ، سجناء سياسيون كفلهم أبي وقد تبرأت منهم حتى عوائلهم.. وجوه لم نرها من قبل وهي تجيء صامتة وتذهب صامتة وقد علاها الحزن.

    من أين لمثل هذا الرجل البسيط كلّ هذا التأثير؟ ومن أين له كلّ هذه المعرفة بالحياة والناس؟ لا أزال أتذكر ذلك القارب الصغير المزيّن بالوسائد المنقوشة وهو يحملنا، أنا وأبي، من دكّة على نهر أبي الخصيب إلى فضاء شطّ العرب الشاسع حيث يلوح عند التقائهما مخفرٌ و بضعة خيول ترعى، وماء يمتدّ حتى السماء. لم أكن أعرف ونحن نسير باتجاه الجزيرة، جزيرة البلجانية، أننا كنّا نسير بمحاذاة جيكور إلا بعد ما يقرب من نصف قرن حين زرتها وتبين لي أنها تبعد بضع خطى عن الشطّ.


    وحين وصلنا الجزيرة استقبلنا الصيّادون، كانوا حشداً، وهم يخوضون في الطين، ويقيمون أسيجة القصب العالية التي سيغمرها الماء حين يعلو المدّ، وآن ينحسر ستتكوم فيها أطنان من السمك اللامع الذي يتقافز في الهواء. في الليل كانت النيران تُشبّ، والمواقد مهيأة لإطعام أضعاف العدد الحاشد من الصيّادين. قلتُ قبل العشاء لأحدهم : لِمَ كلّ هذا الطعام؟ فأجابني ضاحكاً: سترى.. سيجهزون عليه ولن يخلّفوا منه شيئاً، وهذا ما تحقّق بالفعل.

    كان طقساً رهيباً حقّاً: صيّادون، ومواقد تشب، ونخل يستحيل أشباحاً في الليل، وهسيس أرواحٍ غامضةٍ في جزيرة نائيةٍ، وفضاء شاسع كالنهر، وثمة قارب صغير مربوط هناك إلى الأبد، وطفل يقلّب عينيه بين أرضٍ وسماء لا نهاية لهما، وجزيرة يحملها النهر على ظهره وينأى بها بعيداً حتى آخر العالم.


    * وماذا عن الأم. لا يرد ذكرها إلا في ثلاثة مقاطع محدودة في قصائد "ليدي ستيك" و "طفل جائع في عاشوراء" و"الملح". يبدو حضورها ضامرا حتى لا نكاد نشكل عنها صورة أوضح. هل هو اختيار مقصود؟ أم ماذا؟

    ** قد يبدو حضور الأم ضامراً في هذه المجموعة الصغيرة و لكنها، مع ذلك، تحضر بشكل مباشر في قصائد أخرى كقصيدة (حكاية متعبة إلى الأطفال) وقصيدة (العمياء):

    أيتها العمياء
    لقد كنت رضيعك
    عندما كان ثديك قبضة الباب للطفل
    ويداك أرجوحتي

    مثلما هي تحضر بشكل غير مباشر في هذا المقطع الذي يتحدث عن حمّام فارسيّ قادتني إليه أمي في خراسان (كان عمري آنذاك ست سنوات)، وحين دخلناه فزعت النساء المستحمات فزع الجنيات العاريات ، في ألف ليلة وليلة ، في حكاية الحسن البصريّ ، وطالبن بمغادرتنا الحمام. لا يزال المشهد ماثلاً أمام عينيّ حتّى الآن:

    كيف ألقت بنا الريح صوبك ..؟
    كيف استفقتُ على صخرةٍ ،
    بابها البحر ..؟
    والنسوة العاريات بحمّامك الفارسيّ
    كيف فرقتهنّ على الصحن كالطير ،
    مختفياً تحت جنح العباءة ..؟
    كيف تشابكتُ كالنور فوق زجاجك ..؟
    أيهٍ خراسان!
    مالت بنا الريح عن ضفتيك
    وغاب على صخرة بابك الحجريّ




    مثلما هي حاضرة، بشكل غير مباشر، في المقطع الآخر في القصيدة ذاتها:

    أطبقت زهرة جفن طفل
    أيقظته الأحاديث بين النساء
    في خراسان
    في الخان
    خمسُ نساء

    ولكن حضورها، مع ذلك، يبقى، مثلما قلتَ، أقرب إلى الضمور ، ولعل في قصيدة (حكاية متعبة إلى الأطفال) ما يفسر جانباً من العلاقة مع الأمّ.


    * على عكس ذلك، نلاحظ في الديوان حضورا قويا و كاشفا للنساء، بصيغة الجمع، في شكل نماذج إنسانية متنوعة من قبيل :الراقصة الغجرية"، العمياء"، سكينة الأهوازية"، و"صبرية". لكأن الديوان برمته هو عبارة عن احتفاء بهن. من تكون هؤلاء النسوة؟ و أي أثر تركنه في تشكيل وجدان و خيال الشاعر؟

    ** قد يكون الديوان احتفاءً بهذه النماذج. ولكنني حين تعاملت معها لم يكن في ذهني غير استعادة ماضٍ لم يزل حاضراً بهذه الصورة أو تلك . لم يوجه اختياري لهذه النماذج وعي ما ، بل تجربة ومحبة تتجاوز ما يدركه الطفل إلى واقعٍ لم تكن علاقتي به علاقة المشاهد الواقف عند حافته ، بل علاقة الطفل الذي يتحرك بين الأشياء فاعلاً ومشاهداً. ولم يأت الوعي فيما بعد إلاّ ليؤكد هذه الاختبارات التي أسهمت فيها دوافع شعورية ولا شعورية ، لا للتعبير عن طفولةٍ مفترضة أو مفقودة بل عن عالمها الحقيقيّ الذي لم يكن براءة فحسب بل براءة وتجربة على حدّ تعبير الشاعر الإنجليزي وليم بليك ، أي أن وعي الشاعر لم يكن نقيض إحساس الطفل وتجربته بل امتداداً لهما.

    تربطني بهؤلاء النسوة أواصر لم يزدها الوعي و السنوات إلاّ عمقاً: الخالة العمياء التي هي أمي الثانية، إن لم تكن الأولى، صبرية المومس التي رأيتها تبكي وهي تغادر المبغى، إثر اغلاقه، إلى جهة مجهولة، حمزية الغجرية التي كنا نتدافع إليها أطفالاً وكباراً مسحورين بغنائها ورقتها وجمالها وثوبها الموسلين.. كم كانت دهشتي كبيرة حين رأيتها مرة وهي تسكن خيمة بائسة في بقعة معزولة، شبيهة بالصحراء، في أطراف محلتنا. سمّهم ما شئت ضحايا، هامشيين، سَقَط مجتمعٍ ولكنهم كانوا بالنسبة إليّ، طفلاً وشاعراً فيما بعد، بشراً قادرين أن يهبوا الفرح للناس وأن يجمّلوا الحياة رغم مأساتهم وأحزان من حولهم.

    أتذكر أن أمي قادتني يوماً إلى سكينة الأهوازية الخياطة الجميلة البيضاء الجالسة خلف مكينتها اليدوية وهي تحدّث أمي.. لم أر مثل أناقتها وجمالها قط . لم ألتق بها فيما بعد، غير أنني كنت ألتقي زوجها صدفةً في الباص حيث يعمل قاطع تذاكر.

    تدهشني رقة الناس البسطاء. شاركت مرة في الإحصاء حين كنت مدرساً فالتقيت، في القطاع الذي كنت مكلفاً بإحصاء سكانه، بعوائل تسكن أكواخاً ما إن تدخلها حتى تفاجؤك نضارة وجوّ من الإلفة لا نظير لهما: زوجان في غاية الرهافة واللطف، يدخلانك عشهما فتشعر كأنك تدخل كوخــاً قصبيــاً فـي طـرف الجنـة، ربّ عائلـة وأبنـاؤه الثلاثـة (ولدان وبنت)، يستقبلونك بـودّ غامـر كأنك تعرفهم منذ زمنٍ طويل، أنيقين.. هادئين. الثلاثة جميعهم طلاب في كلية الطب.. إنه شعبنا البسيط الطموح المحب للحياة، ولكن المعرض دوماً للقتل.. لقد سرقوا حتى فضائله ليهبوه رذائلهم.. هؤلاء الأوغاد.. أعداء الحياة. لم أر شعباً كشعبي متسامحاً إزاء أبطاله الهامشيين. لقد سمعتُ في الغربة أن بعضهم أغتيل لأنه يرقص في الأعراس ، وآخر لأنه غجريّ، وثالث لأنه.. مثلما حدث مؤخراً حين اجتاحت إحدى المليشيات بيوت الغجر في أحدى محافظات العراق.


    * هل تشكل النماذج النسائية المذكورة حالات متفرقة تؤثث فضاء المدينة، أم هن مؤشرات على وضع اجتماعي يعكس رؤية و بنية نفسية ذكورية مهيمنة؟

    ** نعم إنها حالات تؤثث فضاء المدينة رغم عدم ارتياحي للفظة ( حالات ) هنا، ومؤشرات على وضع اجتماعي معين، ولكنهنّ كما قلت، بالنسبة إليّ، حضوراً حياتيّاً وواقعاً عشته، لا كما حدث فعلاً، بل كما تصورته طفلاً وشاعراً في آن واحد. لكنني أرى أن الجذر الواقعيّ ذو أهمية لا تقل عن دور المخيلة لأنه يقي القصيدة من ترهلٍ وإنشاء يسودان شعرنا الآن مبرّرين بحداثة لا علاقة لها بالحداثة والشعر كما نعرفهما من خلال ما نقرأه لشعراء الحداثة في العالم. و هذا، ربّما، سرّ ولعي في التفاصيل التي تمنح القصيدة أرضيتها مهما ابتعدت.


    * في موضوع ذي صلة بمسألة الحضور الأنثوي في ديوان "النقر"، هناك كلمة لها وقع خاص هي كلمة "عباءة". فهي تتكرر في إحدى عشرة قصيدة الى حد صارت معه بمثابة استعارة مهيمنة تسبغ لونها السحري على مشاهد الطفولة. ما هي الدلالة أو الدلالات التي تحملها هذه الكلمة في ضوء سياقاتها المتعددة داخل المجموعة؟

    ** إذا صارت كلمة (عباءة) بمثابة استعارة مهمة تسبغ لونها السحريّ على مشاهد الطفولة، فهذا قد يرضيني وبالتالي يغنيني عن التفسير. لكن لا بأس من إضافةٍ ما، توضيحاً لذلك، مشيراً لا مفسّراً. خذ ما تقوله مثلاً قصيدة (عباءة):

    بين كلّ العباءات المنحنية على الصناديق
    تنهض عباءة في الليل
    بعيداً عن النيران الموشكة على النباح
    والقناطر المهتزة تحت الأقدام
    يتبعها جسدٌ
    تنطبق عليه في الظلمة..
    ويغوصان معاً في قاع النهر اليابس
    بين الحلفاء

    ما يشغلني في هذه القصيدة هو ما تضمنه سؤالك أنت من استعارة ولون سحريّ. أما دلالاتها الأخرى فليست هي شاغل الشاعر المعنيّ بتجربته وليس بالموقف منها. فإذا كان البعض يرى فيها دلالة اجتماعية، فهذا صحيح غير أنها دلالة من بين دلالات أخرى. في القصيدة ثمة عباءة تمثل امرأة حقّا ولكنها ليست هي العباءة ذاتها في الواقع . إنها عباءة أخرى لها واقعها الآخر المتحرك الفاعل الذي ينطبق على الجسد ويتوحد فيه ممتزجاً مع الطبيعـة الأرحـب المتمثلـة في الحلفـاء وقـاع النهر وسط كرنفال صامت هو النيران الموشكة على النباح والقناطر المهتزة تحت الأقدام. إنني في القصيدة لا أتعامل مع الرمز وحده.. أو المفهوم وحده، أو الدلالة وحدها، وإنما مع عالم القصيدة الذي يتجاوز كل ذلك. حين أقول عباءة فإنما أعني عباءة فعلاً. للتشكيل أهميته في القصيدة وهذا ما يعنيني بالدرجة الأولى باعتبار التشكيل تنظيماً لتجربة حية هي أقرب إلى المخيلة منها إلى الواقع رغم واقعيتها الشديدة.


    *هل تشبه هذه العباءة العباءات الأخرى في الديوان؟

    ** لا أظن ذلك. قد تلتقي مع غيرها في الدلالة العامة جدّاً ولكن لكل عباءة خصوصيتها في القصيدة الواحدة. أن هذه العباءة لن تشبه العباءة التي أقول عنها في قصيدة أخرى: "وتنزوي عباءة في الظلّ".


    * ألا يزعجك أن يتم اختزال معاني هذه الاستعارة في بعد واحد كما هو الشأن في الدراسة القيمة التي أنجزها الناقد الجاد محمد الأسعد، و المضمومة في كتابه "مقالة في اللغة الشعرية" (1980)، حيث اعتبر أن توظيف "العباءة" يعكس حالة تشيؤ اجتماعي للمرأة التي هي على حد قوله: "لا تصبح مجرد عباءة إلا في وضع أفقدها وجودها كإنسانة، فأصبح أكثر ظواهر وجودها بروزا هذه العباءة"؟

    ** ليس ثمة بعد واحد، كما أشرت من قبل. وما يراه الناقد تشيؤاً اجتماعياً أراه تشيؤاً فنيّاً أو جمالياً أيضاً دون أن ينقض أحدنا الآخر. و تفسيره هذا لا يلغي أبداً المتعة التي أشعر بها شاعراً وقارئاً في تعاملي مع العباءة لا كرمزٍ بل كواقع يتحرك ويفعل ويدخل في علاقةٍ ما، مثلما تجسّد ذلك في قصيدة (عباءة) التي ذكرتها. ليس هناك معنىً محدّد وإنما هناك دلالات وقراءات شتى لا يمكن حصرها في دلالة واحدة أو قراءة واحدة مهما اغتنت هذه الدلالة أو هذه القراءة بالتفاصيل.


    *في الديوان هناك احتفاء متوهج بشخصية موزان-الراوي، الذي تحدثت عنه في فصل "انخطافات ألف ليلة و ليلة". لقد ارتبط موزان لديك بالحكي و الخيال الواسع لدرجة أنك وصفته ب"ذلك الإنسان الذي أشعل الحرائق في ذاكرتي". من هو موزان هذا؟ و كيف أثر فيك إلى هذا الحد؟

    ** كتبت عنه مرّةً: "موزان الذي لم يحمل يوماً هديّة لطفل كنّا نحبه نحن الأطفال.. ننتظره ملهوفين.. ننتظر هداياه التي لا تكلّف شيئاً.. فتح فمه فحسب، لينفتح بحر، وتعلو صارية، وتخفق ريح، وتدنو جزر.. وموزان لا يأتي إلاّ مريضاً لرعاية أخت هي أمي، أو عابراً قادماً من مدينته النائية المطلة على البحر إلى الأحياء الضيقة المكتظة بالنساء العاريات، أو إلى دار المسرّات.

    رآه أحدهم في ماخور، ورأيته أنا مراراً أمام احدى دور السينما بعقاله المهيب وعباءته السوداء .. نلتقي قريبين ونفترق غريبين. لم يدعني يوماً، ولم أنتظر دعوته، فأنا لا أنتظر من خالي الشحيح المحبوب (موزان والي) سوى هداياه التي لا تكلّف شيئاً سوى فتح فمه الذهبيّ.

    كان مرضه صحّتنا .. نتحلّق حوله مشدوهين.. نتطلع في فمه وكأننا نتطلع في بابٍ سحريّ مفتوح على عالمٍ خفيّ .. نتأمل ملامحه التي لا تتغيّر أبداً رغم الأحداث الجسام التي اهتزّت لها أبداننا أو تسمّرت. لا نلمح فيها غير ابتسامة خفيّة تلوح ولا تبدو ، وقد تختفي عند مشهد لتطلّ ثانية على مشهد آخر، وهي بين اختفائها وظهورها لا تبين أبداً.

    كنّا نحبه ولا نكره فيه سوى نهوضه المفاجئ من سريره إلى بيت الراحة .. آنذاك نهبّ معه وإليه ، نتسابق أنا وأخوتي على حمل إبريقه إلى أعلى السلّم، حيث بيت الراحة الذي لا يصله الماء، مصغين، بانتباه، في أسفل السلّم، إلى ضراطه المتواصل وقد خنقنا ضحكاتنا الطفولية، متظاهرين بالجدّ وعدم سماع أيّ صوت من أصواته السريّة المعلنة، حافين به، وقد تقدّمنا كالملاك ثانيةً إلى سريره الطائر بين العصور والبلدان كبساط الريح.

    لم نكن ندري أنه سيلازم سريره هذا طويلاً ، ولكن ليس في البيت بل في مستشفى قريب تؤمه أمّي يوميّاً للإطمئنان على صحة الخال الذي أخفوا عنّا مرضه .. كنا نتندّر ونقول لأمّي: " لن تنفعك كلّ زياراتك هذه فلن يورثك شيئاً " ، فتردّ الأمّ باستياء وكأنها تحدس الحقيقة في قولنا: "إنه أخي". وبالفعل فإن خالي حين مات أورث أبناءه الكثير من ماله العريض وأملاكه من العقارات والدكاكين ولم يوص بشئ لأمّي التي تقبّلت هذه الواقعة على مضض ، مردّدة بلا مبالاة: "إنهم أولاده، وهم أحقّ". لم ينس خالي حتى وهو على فراش الموت تقريع أخته (أمّي) له على زيجاته العديدة وزوجاته الممتعات.

    كان خالي لا يكتفي بدور الراوي بل يعتبر نفسه بطلاً أو شبيهاً بالبطل. فهو حامل العلم أو الراية عند ظهور المهديّ المنتظر ليملأ الأرض عدلاً وسلاماً . كيف لا ؟ وهو الذي زاره المهديّ مرّات عديدة في بيته ، ليبحثا في فساد العالم. ولا يجد خالي أي تناقض بين دوره البطوليّ هذا وحمله صورة الفنّانة سميرة توفيق في جيبه ، فكلّ بطلٍ ، بطبيعة الحال ، بحاجةٍ إلى بطلة، ولا بأس إذا ما كانت البطلة فنّانة مشهورة كسميرة توفيق السمراء. ولعلّ في اختياره سميرة توفيق بطلةً تعبيراً عن مللٍ من بياض محظياته الأعجميّات اللواتي كان يتزوجهنّ بالمتعة ليزوجهنّ فيما بعد بالحلال. كما أنه لا يجد أيّ تناقض بين دوره هذا وبحثه ، كشارلي شابلن، عن الذهب. لذلك تراه مهووساً بالحديث عن الكنوز المخفية تحت الحيطان. وقد كانت ليلة مثيرة حقّاً عندما أشار على أبي أن يحفر أحد أركان بيتنا القديم الذي هدمناه لنبنيه من جديد. لقد حفرا، على ضوء الفوانيس، حفرةً عميقة فلم يبدُ لهما الكنز المخبوء وما بدا لهما لم يكن سوى طين وماء لم يعكسا حتّى وجهيهما اللذين ارتسمت عليهما الخيبة واضحة.

    مرّةً جاء مسرعاً إلى أبي يعرض عليه الذهاب إلى الإثل خارج البصرة للبحث عن كنزٍ مخبوء هناك. لم يكذبه أبي بل استدعيا جارنا الذي حملهما في سيّارته إلى مكان ناءٍ ومعهم عدّة الحفر. بعد ساعات رجعوا بالكنز المخبوء . كان عبارة عن صندوق حديديّ قديم مغلق علاه الصدأ. لم يفتحوه إلاّ بشقّ الأنفس بعد أن كسرا قفله بمعول . لم يجدوا في الصندوق سوى ملابس جنديّ بريطانيّ وأغراضه الشخصيّة، عندئذٍ طلب والدي من خالي موزان أن يقول الحقيقة. كانت الحقيقة المرّة هي أن خالي موزان بعد أن قتل الجنديّ البريطاني أخفى صندوقه بين أشجار الإثل منتظراً كنزه كلّ هذه السنوات انتظاره المهديّ الذي لم يأت.

    في قصيدتي (انخطافات ألف ليلة وليلة) لم يعد موزان راوية حسب وإنما موزان البطل بين أبطال عديدين في ألف ليلة وليلة.


    * ما مدى حضور القصص الشعبي في مرحلة طفولتك؟ هل كانت هناك فضاءات خاصة في المدينة للاستماع للحكايا؟

    ** لم تكن ثمة فضاءات للحكايا في مدينتي، وحتى لو كان هناك فضاءات فإنني لم أذهب إليها .. وما حدث لي هو أن الفضاءات هي التي قدمت إليّ ممثلة بشخصين لا يشبه أحدهما الآخر. الأول هو: خالي موزان الخرافيّ الذي حدّثتك عنه، والآخر نقيضه الواقعيّ المتحدث لا عن أحداثٍ غابرةٍ بل عن أحداث راهنة: يوميات الحرب العالمية الثانية..هذا الشخص هو (عبدالرزاق الديوان) صديق أبي الذي لم أره يضحك مرة بل يكتفي بابتسامة ودود تشتعل فجأة لتضئ وجهه الناحل المستطيل. كنت أنتظر هذين الراويين الحبيبين مثلما أنتظر كتابين مغلقين ليبتدئا الحديث، كأنهما في تناقضهما الواقع والحلم وقد افترقا ليلتقيا هناك في نقطة بعيدة التمعت فيما بعد هي: الشعر.


    * و ماذا عن "ألف ليلة و ليلة" بشكل خاص؟ ما سر هذا السحر الذي ألهب ذاكرتك؟ و ما هو في تقديرك، العنصر التخييلي و الحكائي الذي يتفرد به هذا النص الذي ألهب خيال شعراء وكتاب عالميين أمثال بورخيس وغارثيا ماركيز، وجعلوا منه كتابا أساسيا في المكتبة الكونية؟ و ما تجليات تأثرك بألف ليلة و ليلة في أشعارك؟

    ** لن أبالغ إذا قلت لك أن "ألف ليلة وليلة" حاضر في أغلب قصائدي بشكل مباشر أو غير مباشر وهذا ما لم ينتبه له إلا القليلون …

    لعلّ من المفيد الحديث عن تجليات تأثير ألف ليلة وليلة لا عن سرّه الذي ينفتح على أسرارٍ أخرى قد لا تنتهي أبداً . ولعل أهمّ تجليات هذا التأثير،على الأقلّ في الأسماء التي أوردتها: بورخيس وماركيز، هو في هذا الالتقاء الحميم بين المعرفة والحلم اللذين افترقا لدى راويي طفولتي (الديوان وخالي موزان) . لم يكن ألف ليلة وليلة سرداُ ماضياً بل نبوءة أيضاً واستشرافاً .. واقعاً وحلماً في آن واحد ، وهذا ما يفتقده الكثير من الشعر وما يعوزه الكثير من الكتاب ولعلّ واحداً من أسباب شعبية هذين الكاتبين هو جمعهما هذين النقيضين لا باعتبارهما حدّين منفصلين بل لأن كلا منهما يتضمن الآخر، في أحداث قاسية تبعث المتعة حتى في أحلك أحداثها مثلما تبعث التفكير حتى في أخف أحداثها وأبهجها.

    أليس التأثير نفسه سرّاً؟ في علم النفس التحليلي يتحدث المريض ليشفى من مرضه، وفي الاعترافات المسيحية يتحدث المذنب ليتخلص من خطيئته، أما في ألف ليلة وليلة فإن المحلل النفسي (شهرزاد) هو المتحدث ليشفي المريض الذي هو شهريار.. عبر الحكمة المبثوثة، في مرح، في وقائع وسرد نادرين رغم اعتياديتهما وميلهما إلى الجانب المحكيّ .

    إن لحكايات "ألف ليلة وليلة" وهجها الخاص وتحولاتها المبهجة التي لا تعرف قتامة العالم الآخر ..عالم الحروب. كانت هي الأقرب إلى طفولتي ونداءاتها البعيدة وقدرتها على اختراق مراحل حياتي الأخرى ومن يدري لعلّي أجدها منبثقة مرةً أخرى في أثرٍ ما: قصيدة، خاطرة، كتاباً…ولا يزال لحكاياتها عموماً تأثير في شعري تجده حاضراً في الكثير من القصائد والمقاطع حتى أشدّها تعقيداً.

    * في صلة بموضوع الحكي، في ديوان "النقر على أبواب الطفولة" ثمة قصيدة بعنوان "حكاية متعبة للأطفال" تستثمر فيها النفس الحكائي السردي. ألا يقدم الشاعر أي تنازل عن خصوصية الشعر حين تتخذ قصائده لبوس حكايات سردية؟

    ** للطفل دهاليزه التي اكتشفها علم النفس ومسالكه الوعرة وغرائبه وحكاياته التي لا تقل غرابة عن حكايات الكبار.

    سألتني ولك الحق في ذلك عن قصيدة (حكاية متعبة إلى الأطفال) وأبديت خشيتك من تنازل الشاعر عن خصوصية الشعر حين تتخذ لبوس حكاية سردية. هذه القصيدة بالذات لم يتناولها أحد من الدارسين حتى الذين كتبوا عن المجموعة بحبّ. تتحدث القصيدة عمّا يسميه فرويد عقدة الفطام، وما وجد تطبيقاته في إشارات لمّاحة إلى التراث الفرعوني بما فيه من صور تظهر الفرعون، وهو يمص إصبعه طفلاً .

    كنت مدرساً لعلم النفس وكنت أدرس فرويد ومدرسة علم النفس التحليلي، وكنت مغموراً بهذا العالم ، لكن لا يعني هذا أن القصيدة هي وليدة هذا العالم التعليميّ المجرّد وإنما هي كقصائدي الأخرى لا رافد لها غير الواقع الحسيّ الملموس.

    لم ترضعني أمّي وأنما عهدت بي إلى امرأة أخرى لترضعني، ولا بدّ لهذا انعكاساته على شخصي فيما بعد، غير أني لا أود الخوض في تفصيلات ما انعكس فيّ وفي شعري لأن هذا يقودنا إلى أدب الاعترافات ، فما يشغلني هنا هو ملاحظتك أي الحديث عن الفن وليس دوافعه.

    * هلا قدمت لي مزيد إضاءة لهذه القصيدة بالذات؟

    **تقول القصيدة:

    معذرةً يا أطفال
    أجفاني مثقلة
    أروي لكم الليلة
    عن طفلٍ أثقله الترحال
    لكن لم يتجاوز موطئ قدميهْ
    لم يعرف حتى موضع شفتيه
    كان جميلاً أيّ جمال
    حضنته الأمّ وهبّت نسَمَهْ
    مدّ فمهْ
    صار الصدرْ
    صخرْ
    هربتْ (لم تتلفّت)
    كان الصدر العاري يتفتّت
    في الصحراء
    فبكى يا أطفال
    ثمّ أفاق على حضنٍ حجريّ ذات مساء
    مفزوعاً موجع
    ملفوفاً بالأسمال
    لكنْ حين تأمّل قدميهْ
    معذرةً يا أطفال
    أبصرمدهوشاً ..
    إصبع

    الحكاية في القصيدة ليست عادية أو سردية ولا توجد في واقع وإنما هي خيال محض. أمّ تحضن طفلها وقد هبّت نسمة لتهرب به عبر الصحراء غير أن صدرها أصبح صخراً يتفتت. ثمة في القصيدة إشارة إلى امرأة لوط التي تحجرت حين التفتت، غير أن الأم لم يتفتت صدرها الذي استحال صخراً جرّاء خطيئة بل لعنة ربما. القصيدة لم تشر إلى ذلك وليست معنية بهذه الإشارة. عندئذٍ يبكي الطفل وقد أفاق مذعوراً وهو ملفوف بالأسمال، لكن سرعان ما ينسى ذعره وهو يتأمل قدميه حين يرى إصبعه. هل سيكون الإصبع بديلاً لصدر الأمّ . هذا ما تقوله القصيدة وما لم تقلهُ أيضاً ؟ إنها مفتوحة على الاحتمالات والدلالات لا المعنى الواحد.


    *إلى جانب المحكي و الشفاهي، ما هي الكتب الأساسية التي وصمت طفولتك؟

    ** الكتب الأساسية هي شفاهية في جوهرها: قصص المغامرات، القصص البوليسية، ولاسيما قصص ملتون توب وهي سلسلة كتب بوليسية طويلة كنت أستعيرها من صديق يهوديّ كنت أتبادل وإياه الكتب. ما زلت أذكر اسمه: فيكتور منشي. كانت له أخت لا تخرج من دارهم إلا نادراً.. كانت في غاية الجمال.. أتذكرها الآن وكأنها وجه تخيلته في الأساطير. غير أن الدهشة الكبرى هي "ألف ليلة وليلة" التي قرأتها فيما بعد لوالدي، هي و "سيرة عنترة" الصادرة آنذاك عن دار الهلال بمصر.


    * و ماذا عن الشعر؟ كيف كان حضوره في تلك المرحلة؟ و أي من الشعراء كان لهم تأثير أكثر في بدايتك. ثم كيف ابتليت بانخطافات الشعر؟

    ** لا أدري كيف استيقظ الشاعر في الطفل ، وكلّ ما أتذكره هو أنني كنت مشغوفاً بالشعر في طفولتي، أردّده مسحوراً :

    بيض صنائعنا خضر مرابعنا سود وقائعنا حمر مواضينا

    أما حين أصل إلى : " دون نيل منىً " فإنني أشعر كأن هناك تعويذة في هذه الكلمات أو بالأحرى في هذه الكلمة الواحدة. ففي تكرار النون سحر ما بعده سحر(وهذا ما يسمّى بالجناس اللفظيّ في البلاغة). ولأن هذه القصيدة أو غيرها كانت تجري على لساني كما تجري التعاويذ كان يُنادى على اسمي في الساحة (كنت في الصف الثالث على ما أظن) لأنشدها طرباً، لكنني لا أتذكر أنني كنت أقرأها بخشونة الأطفال المدربين لنيل الإعجاب، وإنما لشغف في نفسي، بترنيم وحب وبساطة ربما كان يعيشها الطفل ولا يعقلها. هل كان هذا الشغف المبكر بالشعر هو طريقى إلى القراءة.. القراءة لا كمعرفة بل حياة في سير وملاحم تتزاحم فيها الأضداد وتفترق بحكمة أو بدون حكمة فلا موضع لتقييم هنا وقد تركته للكبار. لهذا كانت صلتي بالشعر مفتوحة على كل التجارب والشعراء صغارهم وكبارهم ولم تكن لذتي أقل في ما ترجم من شعر كان يسحرني فيـه مـا أجـده مـن أجواء أفتقدها في شعرنا العربيّ وانسانية نادرة.

    أتذكر انفعالي الشديد حين قرأت قصيدة ناظم حكمت عن منصور صباغ الأحذية الذي يشبه نواة البلح وهو يردد في القصيدة، حاملاً صندوقه الخشبيّ الملوّن: "يا عيني .. يا حبيبي".. منصور الطفل يموت في نهاية القصيدة تحت القصف، فتنشر جريدة صورته. هذا الشاعر يسخر منه بعض الكتاب العرب ويعتبرونه شاعراً ملتزماً صعدته حركة سياسية، متجاهلين أنه المجدد الأكبر في الشعر التركي، وأنه الأكثر إثارة الآن في بلدان عديدة ومنها الولايات المتحدة. ما أكثر الأوهام والتقييمات الغبية في ثقافتنا!


    * عودا إلى فكرة الانخطافات. يبدو أن توظيفك لهذه العبارة لم يكن عفويا، و إنما توجد من ورائه خلفية تؤطر تعريفا ضمنيا للحظة الشعرية بوصفها تلك "اللحظة الخاطفة" التي تضيء القصيدة. هلا قدمت لنا إضافة حول معنى "الانخطاف" و فعاليته في انبثاق الشعر؟

    ** الانخطاف هو تلك اللحظة الصوفية إذا صحّ التعبير ..اللحظة المنفصلة عن اللحظات الأخرى أو بالأحرى اللحظة المضيئة التي تضئ ما قبلها من لحظات وما بعدها . كلّ شئ يبدو مظلماً وفجأةً ينبثق شيء .. شيء مضيء ..شيء يتوهج شبيه بذلك الاندفاع الذي يهتف بك: "وجدتها".

    في قصيدة (الغرف) في مجموعتي (الحقائب) لم أعرف من أين أبدأ. ولأن هناك مداخل عديدة إلى القصيدة ولا مدخل واحد فقد أهملتها زمناً ثمّ فجأة تصطفّ الغرف فإذا هي قصيدة ناجزة، كيف؟..ثمة لحظة تضئ فجأةً فيحضرالمكان بأحداثه وزمنه وحيواته ، غير أن الانخطاف وإن كان لحظةً فهو ليس بالضرورة زمناً قصيراً. قد يمتدّ إلى لحظات أخرى سابقة أوتالية في قصيدة تقصر أو تطول. إنه تلك اللحظة التي يتكلم عنها ييتس في أحدى قصائده حين يخطفه فجأة ضوء الشمس المنعكس في كأس البيرة المتوهج في المقهى فكأنه يراه لأول مرة. كما يذكر ذلك كولن ولسن في كتابه عن (الشعر والصوفية) الذي قرأته منذ زمن بعيد. قد يكون الانخطاف شبيهاً بتلك الإشراقة التي تضمنها هذان البيتان:

    فجأة .. فإذا الأرض كوكب
    وأنا في الفضاء الأمير الصغير.

    وقد يكون الانخطاف أرضيّا .. إشراقةً ممجّدةً للحياة في لحظتها الراهنة وهي تختزن الفرح فلا تبرح مكانها في الذاكرة أبداً.


    * هل يستطيع الشعر بكثافة لغته و استعاراته و تشذر صوره التي تستعصي أحيانا على الإدراك العادي أن يلملم صور الطفولة الهاربة و المتشظية ثم يسكبها كتجربة شاملة في نظيمة أو متوالية شعرية تكون قادرة على نقلها بنفس الواقعية المحتملة التي تعبر بها جماليات الرواية مثلا أو السينما ؟

    ** لمَ لا؟ مادام الواقع ذاته ينطوي على جانب كبير من الخيال في أحيان كثيرة، وما دامت الأجناس الأدبية لم تعد بذلك التحديد الذي يجعلها قارات منفصلة .


    *على ذكر السينما، يبدو لي ديوان "النقر على أبواب الطفولة" كأنه قصيدة طويلة مكتوبة ومصممة بلغة السينما. لعل في قراءتي هاته بعضا من مجازفة تأويلية. لكن لم لا نقوم سويا بامتحان مدى نجاعة هذه القراءة. فالقصائد تستثمر لغة حسية بصرية مركزة تنسجم مع رهان الشاعر في إعادة الحياة لصور الطفولة، على طريقة الفلاش باك. ثم ان الديوان مقسم الى فصول، كل فصل عبارة عن متوالية (Sequence) من المشاهد البسيطة و المركبة التي تتكون بدورها من لقطات. هذا علما أنك وظفت تقنية "اللقطة" في قصيدة تحمل نفس العنوان: "لقطات" و هي تقنية ستعود إليها لاحقا في ديوان "وردة البيكاجي" (1983). هذا ناهيك عن توظيف ذكي و شاعري لتوزيع الحركة و السكون، الصوت و الصمت و الضوء و الظلمة، و كذا المشاهد الفردية والجماعية و المواقف الساخرة و المأساوية، كعناصر بنائية لشريط الطفولة هذا.

    ** يسرني سماع ذلك منك وهذه أجمل مكافأة لي على مجموعتي الصغيرة هذه.

    * لنمر إلى مكون أساسي من مكونات الشعر ألا و هو الإيقاع. ما هي الإيقاعات التي رسختها مرحلة الطفولة في وجدان الشاعر عبد الكريم كاصد: أناشيد الطفولة و الأغاني الشعبية وأهازيج الأعراس؟ هل أفدت في ديوان "النقر على أبواب الطفولة" من ذخيرة الصبا الإيقاعية؟ و هل ما تزال تلك الإيقاعات التي حركت روحك و وصمت طفولتك تغذي و تلهم شعرك الحديث، علما بأن كلمة "النقر" في حد ذاتها تثير جرس إيقاع ما؟

    ** نعم الإيقاع مكوّن أساسيّ في الشعر، وقد يكون طاغياً لدى شعراء كبار حتى يبدو وكأنه العلامة الفارقة لشعرهم : هوبكنز، ما ياكوفسكي، تنسون، البحتريّ، وآخرون كثيرون، حتّى أن إيقاعهم يلازمك أحياناً زمناً طويلاً تردّده وتتعشقه ولا تعرف سرّه إطلاقاً، غير معنيّ حتى بما يحتويه من معانٍ ودلالات هي الأخرى ذات قيمة كبيرة في شعرهم، وليست مجانية من أجل الإيقاع ذاته، وهذا ما يوضحه ما ياكوفسكي في دراسته الطويلة القيمة المترجمة إلى الإنجليزية في كتاب صغير عن قصيدته في رثاء الشاعر الروسي يسنين. ولأن الإيقاع ليس تجريباً أو مهارة مجردين وإنما هو مرتبط بماد%
                  

العنوان الكاتب Date
كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبداعية محمد جميل أحمد12-06-08, 11:17 AM
  Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا Aymen Tabir12-06-08, 01:57 PM
    Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا Mohamed E. Seliaman12-06-08, 02:42 PM
      Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد12-06-08, 04:28 PM
    Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد12-06-08, 04:22 PM
  Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا AMNA MUKHTAR12-06-08, 04:11 PM
    Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا Tragie Mustafa12-06-08, 04:20 PM
      Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد12-06-08, 04:37 PM
    Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد12-06-08, 04:31 PM
      Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد12-07-08, 12:53 PM
        Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد12-08-08, 11:04 PM
          Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا حسين عوضاى12-08-08, 11:09 PM
            Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد12-10-08, 11:36 AM
              Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا Aymen Tabir12-11-08, 02:38 AM
                Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا Mohamed E. Seliaman12-11-08, 10:59 AM
                  Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد على طه الملك12-11-08, 12:04 PM
                Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد12-13-08, 11:16 AM
                  Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد12-13-08, 11:24 AM
                    Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد12-13-08, 11:28 AM
                      Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد12-13-08, 06:40 PM
                      Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد12-13-08, 06:44 PM
                      Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد12-13-08, 06:46 PM
                        Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد12-15-08, 05:59 PM
                          Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد12-17-08, 09:13 AM
                            Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد12-19-08, 10:59 AM
                              Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد12-29-08, 09:53 AM
                                Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد01-05-09, 11:48 AM
                                  Re: كتاب خارج النص للشاعر العراقي عبد الكريم كاصد : حوار المعنى والجماليات في الكتابة الإبدا محمد جميل أحمد04-03-09, 02:40 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de