رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-08-2024, 06:43 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-21-2003, 06:55 AM

Alsawi

تاريخ التسجيل: 08-06-2002
مجموع المشاركات: 845

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات (Re: Alsawi)



    وهذا هو الجزء الاخير


    عند الصباح كان محمد قد أصطحب شنطته متجهاً نحو موقف دار الريح وقلبه قد سبقه إلي الحلة هناك. لقد قرر السفر بلا نقاش، لا مع نفسه ولا مع الآخرين، فمال الدنيا كله أو أي شئ فيها لا يساوى عنده والدته وإخوانه. دفع محمد ثلثي ما عنده ثمناً للتذكرة واعتلي ظهر اللوري المتجه شمالاً صوب دار الريح. بعد نصف ساعة كانت العربة ماركة نيسان تنهب الأرض نهباً في طريق الشمال، الهواء دافئ يضرب علي وجنتي محمد ويشتد علي انفه وأذنيه، تلثم محمد بملفحته الصغيرة اتقاءً لهواء الصيف الحار. العربة تسير بسرعة مخلفةً ورائها الغبار الكثيف. مر محمد وسط شجيرات الهشاب علي جانبي الطريق وقد بدا أنها قاست ضربات الجفاف فبدا عليها الشحوب. كانت الواحدة منها في الزمان السابق غضه خضراء منيلة حتى تصير كبيرة وتمتد فروعها في الهواء بعيداً عنها، غزيرة متماسكة لا يبدو عليها الكبر إلا بعد زمن طويل، لكنها الآن في طور البكر وهي عجوز قصيرة كثيرة الأعواد خلاء من الفروع الغضه، خلاء من فتوة الشباب ونضارته، لا يستطيع الناظر إليها أن يميز ما إذا كانت جافة أو لينة، ميتة أم بها بقايا حياة، إلا بعد إزالة لحائها ذي القشور السوداء الخشنة والذي كان قبلاً غصناً اخضر.
    الكثير من هذه الشجيرات قد ذبل ومات، بعض الشجيرات الصحراوية عديمة الفائدة بدأت في الظهور، ليس بها ثمار ولا أعواد يستفاد منها في البناء ولا ظل يقي البهائم و المسافر حر الشمس، فقط بعض الثمار السامة التي لا يأكلها بشر أو حيوان أو طير. في بعض المناطق كانت العربة تجاهد وهدير الماكينة يرتفع وهى تشق الطريق الرملي المتعرج، فقد زحفت الرمال علي الشارع وغطته تماماً في بعض المناطق، فكانت العربة تجد صعوبة في عبوره. لقد كانت هذه المنطقة سابقاً يحفها الزرع الأخضر والنباتات الغزيرة المرتفعة، فتستتر تحتها الفئران والأرانب وحشرات الأرض، و تنتشر البهائم علي جانبي الطريق قطعاناً ووحداناً ترعي وتمرح، يأتيك صوت راعيها من علي البعد مترنماً أو عازفاً علي مزماره أو منادياً لرفيق له قد فقده وسط الفلاة الواسعة. الشجر اخضر، وبعض البرك المنتشرة وقد امتلأت ماء يظهر سطحهاً لامعاً مع بريق الشمس، وبها قطعان تشرب وطيور تحط وتقلع. لكن هيهات الآن: رمال زاحفة وأشجار قصيرة والغبار الأُبيّض يتصاعد خلف العربة والهواء الساخن يلفح الوجوه. بعض الجبال الصغيرة تظهر علي جانبي الطريق فتسمع فرقعة الحصى والحجارة تحت اسفل العربة، آثار السيول تظهر من علي الجبل وتنتهي إلي بعض المستنقعات المنخفضة متشققة السطح من العطش وكأنها تستجدى الماء، تظهر علي جانبيها آثار الروث والغثاء الذي لفظه الماء بعيداً في وقت الخريف السابق. لم تعد تتجمع حول هذه المستنقعات قطعان البقر والضان كما هو في السابق، لم تعد ممتلئه تفوح منها رائحة الماء البارد وهواءه المنعش، لم تعد الضفادع تنق فيها. كل المنطقة تكاد تكون خالية من أسباب الحياة، ليست بها حركة أو نبض، مجموعة من القرى التي يظهر عليها البؤس تنتشر علي جانبي الطريق، المنازل مخلعة وبعضها مائل وبعضها قد هوى إلي الأرض. كلها سوداء داكنة لا تجديد فيها، كلها فقدت حيشانها وأسوارها. القرى التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً تحولت إلي أشباح باردة لا اثر للحياة فيها، لم يعد الدجاج يصيح ويهرول كعادته بين ( التندل) والمنزل، لم تعد الماعز تتجمع في وقت الأصيل حول زرائبها، لم يعد الأطفال يلعبون ويتصايحون ويتسابقون حول القرية. فكل شيء يذكر بالموت البارد، حتى الشمس وهي تسير في هدوء نحو مرقدها وقد بدأ الاحمرار الجنائزي يظهر علي الجهة الغربية السفلي من السماء.
    محمد حسن ساري الليل يمر بكل ذلك وهو ساهٍ يفكر في بلدته المنسية في أقاصي الريف الشمالي من مديرية شمال كردوفان. هل يا ترى انتهت أشجارها وذبلت كما هو مشاهد هنا؟ هل يا ترى ماتت بهائمها أم لا زالت حيه تكابد القحط والجفاف ؟ هل يا ترى نزح كل أهل القرية؟ كيف يكون الحال هناك إذن؟ يصدر محمد زفرة وتنهيدة عميقة ويدير وجهه ناحية الغرب. الشمس وقد تغير لونها إلي الأصفر الغاني تسير نحو مثواها الأخير وقد فقدت حيويتها وبياضها ونشاطها وضياءها، لم تعد تؤذى العيون حتى وأن حدقت بها. لقد تحولت إلي كتلة باردة مصفرة ومنتفخة تحكي الأفول العظيم. ظِل بعض الشجيرات الكئيبة يبدو كالأشباح التي تنتظر موت شيء ما لتفترسه. بدأ الظلام يدب بارداً إلي الوجوه قاهراً الشمس التي تراجعت نحو مرقدها. فغمغم محمد في سره: ( كل شئ له نهاية ) ها هي الشمس التي كانت تسيطر علي الكون بنورها ووهجها تموت والأشباح تنتظر في موكب جنائزي بارد. خفق قلب محمد بشدة. شيء ما يشبه الخوف بدأ يدب إلي أوصاله، بدأت أطرافه باردة واهنة، فقد تذكر أهله هناك ومصيرهم، وبدأت ضربات قلبه تزيد من معدلها.
    بعض الركاب متقابلين بوجوههم يحكون عما شاهدوه من علامات الجوع والنزوح في الأُبيّض، وعن سير الحياة المتعثرة في معسكر الغابة، عن أناس يعرفونهم وقد مات أطفالهم من الجوع هناك، عن الحياة البأيسة للنازحين في معسكر الجو عي. بعضهم كان ينقل المستمعين إلي مسرح المأساة الأصلي حيث قرية أولاد مرجي وكثير من رفيقاتها من القرى التي تشكو النسيان هناك، فيحكي كيف أن بعضهم وزعت لهم تقاوي (للتيراب) توقعاً لنزول أمطار هناك، حكي بعضهم كيف أن أهل قرية عيَّنها بالاسم، عندما أشتد بهم الجوع لم يجدوا شيئاً يقتاتون به سوى هذه التقاوي فأكلوا منها جميعهم فأنتشر تسمم رهيب في القرية مات علي أثره تسعة أشخاص من أعمار مختلفة، ذلك لان التقاوي كانت تحتوى علي مواد كيماوية سامه تحفظ التقاوي وتقتل الفئران والآفات الأرضية عند زراعتها. ويحكي آخر بشيء من الطرافة، كيف أن (العدس الذي وزعته المنظمة العالمية بتاعت الخوجات) ومعه زيت النبات والقمح قد تسبب للناس هناك في إسهال رهيب واستفراغ.
    ويجاوبه آخر :
    - هذه هينة فقد اعتادت مصارينهم علي عصيدة الدخن واللبن وهذه ( الخلطة ) لم يعتادوا عليها من قبل فهي غريبة علي بطونهم فهي تستنكرها لأول مرة، ولكنهم سيتأقلمون عليها، ليتها كثيرة ومتوفرة.
    كان اثنان من الركاب يبدو أنهما علي درجة من الثقافة يتحاوران بلهجة المدينة علي يسار محمد. قال أحدهم للآخر:
    - في سنة المجاعة السابقة 1985 م كان عيش الإغاثة يملأ الأرض وكان يسمونه عيش بوش. لا أدرى لماذا لم يظهر هذه السنة.
    - إلي متي تعتمدون علي الإغاثات من الخارج ؟ هذه الأشياء لها ثمنها وعلي حساب سمعة البلد، وتصحبها شروط قاسية تتمثل في التخلي عن هوية البلد وسيادتها.
    - صحيح أنه من الصعب علي الحكومة أن تعلن عن وجود مجاعة إلي جانب إعلانها عن تمزيق فاتورة الغذاء، لكن النفس البشرية عند الله اغلي من سمعة الحكومات. كما أن ما هو حادث الآن هو عبارة عن ظروف طبيعية وإلهية ليس للحكومة يد فيها ولا تلام علي ذلك. إذ أنه من المعروف أن هذه المناطق تعتمد علي الزراعة والرعي الذان يعتمدان علي الأمطار، ونسبة لعدم نزول الأمطار هذا العام تعرضت المنطقة لنقص الغذاء والمجاعة، وبالتالي فالحكومة لا تسأل عن لماذا لم تنزل الأمطار لهذا العام، ولكنها تسأل عن إنكارها لوجود مجاعة.
    - هب أن الحكومة أعلنت عن وجود مجاعة، فهل تتوقع أن تهب منظمات الإغاثة لخدمتكم وبدون مقابل؟ هذه الأشياء لها ثمنها كما قلت لك.
    - فالتعترف الحكومة أولاً بالحقيقة المجردة كما هي، بعد ذلك نستطيع أن نقيس مدى صدق هذه الدول وهذه المنظمات التي تدعي الإنسانية وبعد ذلك للحكومة أن تعلن أنها لا تقبل أي شروط ولن ترضخ لأي قيود، من أراد أن يساعد في إنقاذ الجو عي وضحايا الكارثة الطبيعية فله أن يقدم ما عنده. ثم ثانياً يا أخي نحن نعتبر أمريكا هذه ( وهيلمانتها ) لا تساوى عند الله جناح بعوضه، وأن الإغاثة التي تصلنا منها هي ليست إغاثة أمريكية، بل هي خير ساقه لنا الله، وأمريكا بما تملك في يد الله، يسخرها متي وكيف شاء. لكن مسألة أن ( الحكومة لا ترحم ولا تخلي رحمة الله تنزل ) فهذا مرفوض.
    قاطعتهم امرأة كبيرة في السن كانت متربعة عند منتصف صندوق العربة:
    - الحكام العساكر ديل ما كويسين. فيهم كويس إلا سوار الدهب قالوا هو ذاته كان (دياشي) مع نميرى، وبعدين نميرى أبي ما يتضاير ليه. أهه قام أنقلب عليه. وأنحن وقتها قلنا خلاص سوار الدهب ولد كويس وبلدنا ستتصلح علي أيده، لكن ما خلّوه. بعد مده قصيرة قالوا حكومته غيروها بواحدة ثانيه نوابها كتار، وأهلنا بقولوا ( برمة الكتيره ما بتفور........ )
    استأنف الشخص الأول الكلام متناسياً تعليق المرأة العجوز التي لم تكن قد سمعت بأن تلك الحكومة قد تغيرت، أو لعله قصد مقاطعتها خشية أن تقول شيئاً عن الحكومة الحالية، وقال:
    - لقد ذار الحاكم هذه المنطقة، وتجول فيها كثيراً فوجد الجوع وموجات النزوح، وجدهم يجتمعون في المواقف انتظارا للعربة التي يمكن أن تحملهم للأبيض أو أم درمان، ثم رجع إلي مقره ليصرح بأنه قد وجد أن تلك المناطق تعاني من نقص الوعي السياسي!!
    لقد تمكن محمد من الاطلاع علي كل شيء في ليلة الأنس الطويلة تلك. فقد علم بخبر الوفد الذي تشكل من شيخ الحلة والناظر وبعض أعيان القرية وذهب لمقابلة المسئولين بالأُبيّض بعد أن طلبوا من المواطنين عدم مغادرة المنطقة لأنهم بصدد رفع قضيتهم للمسئولين. لقد قضي الوفد الليالي الطوال ليحظى أخيرا بمقابلة الحاكم. وكان الاجتماع المشهور والذي أنضم إليه اثنان من أبناء المنطقة من ممثلي الحكومة. استهل رئيس الوفد الحديث قائلاً:
    - يا حضرة الحاكم الناس هناك باتوا الليلة الفائتة بدون أي أكل وأعداد كبيرة وصلت منهم الآن إلي أطراف المدينة لا مأوى لهم ولا مأكل ولا مشرب.
    - قال الحاكم قبل كده أعطينا منطقتكم هذه ألفين ومائتين جوال عيش.
    - يا حضرة الحاكم قسمناها في حساب ربع ملوه للمواطن الواحد والآن مرت عليها أسبوعين، وهي انتهت منذ أيامها الأولي والناس الآن يعانون.
    - نحن طبعاً عاوزين نعتمد علي أنفسنا ونكتفي ذاتياً، وأن شاء الله بعد شهر واحد سيبدأ إنتاجنا المحلي من القمح والذرة، وهو كافي بحيث لن نحتاج لأي دعم من أي جهة، بس الحكاية محتاجة منكم لصبر، اصبروا شويه.
    - يا حضرة الحاكم المواطنين الآن يتوافدون علي المدينة يومياً بعضهم قضي ليلتين في المعسكر دون أن يقدم له أي شئ وإذا انتظرنا حتى بكرة فقط احتمال يموتوا كلهم، إذن كيف ننتظر لمدة شهر؟
    نظر الحاكم لأعلي وحملق ببصره في السقف وكأنه يفكر، وجدها رئيس الوفد فرصة جيدة لإضافة مطالب جديدة عندما شعر بان الحاكم علي وشك أن يتفهم الموضوع ويستجيب لمطالبهم فأضاف :
    - يا حضرة الحاكم هناك عندنا البهائم ماتت موت شديد، والباقي منها القليل وفي طريقه للانقراض، وأصحابها يهرعون بها للأسواق ليبيعونها بصورة تبذيريه وبأسعار زهيدة، فيا حبذا لو تدخلت الحكومة لإيجاد حل لهذه المشكلة.
    - نحن نأكِّلكم ولا نأكِّل بهائمكم !! نحن لا نقدر علي علفها ولا علي شرائها.كان مفروض أنو نحن كحكومة نتجاهل الموضوع ليموت من يموت، وأنا متأكد انو بعدها سوف لن يتعرض الباقين للجوع مرة ثانية. بلا شك سيتوجهون للزراعة ولن ينتظروا الحكومة لتعمل ليهم تنمية ولن ينتظروا الاغاثات من الخارج. نحن قلنا انو رفعنا شعار الاعتماد علي الذات، نحن لازم نأكل مما نزرع.
    - يا حضرة الحاكم الأرض زرعناها كلها وبكل همه ونشاط، المشكلة أنو المطر ما نزل، ودي طبعاً حاجة خارجة عن أرادتنا.
    - عموماً هناك عيش تابع لمنظمات الإغاثة سنحاولهم ليخصصوا ليكم منه جزء وسيشحن فوراً للمواطنين ليتصبروا بيه ويبقوا في مناطقهم يدبروا أمورهم وربنا يفرجها.
    - وبعد صمت قليل أستدرك وقال:
    - لكن هذا مني أنا فقط باعتباري ابن المنطقة، ويكون سر بيني وبينكم نحن قلنا الدولة رافعة شعار الاعتماد علي الذات.
    - انبرى أحد أعضاء الوفد من المتملقين الذين نسوا أهلهم ووضعوا أنفسهم تحت خدمة الحكومة يزينون لها زخرف القول ليقول:
    - نحن نشكر سعادتك علي هذا التجاوب (المنقطع النظير)، ونستطيع أن نقول أن اجتماعنا قد خرج بالآتي :-
    أولا : توجيه المواطنين بعدم النزوح للمدن لان ذلك لا يليق بأمة متحضرة تعتمد علي ذاتها وتريد أن تقف في وجه أمريكا والاستكبار العالمي وحتى لا نتيح الفرصة للذين يستهدفون السودان في عقيدته وتوجهه.
    ثانياً : طمأنه المواطنين وتصبيرهم علي أن الحكومة ستبحث لهم مع بعض منظمات الإغاثة في تخصيص مواد غذائية لهم، بالتالي علي المواطنين التزام أماكنهم..
    لكن الحاكم قاطعه قائلاً :
    - هذا قلنا سر بيني وبينكم. يمكنك أن تقول : أن الحكومة بصفة عامة ستبحث في تخصيص مواد غذائية للمنطقة.
    استجاب المتحدث للتصويب وكرره بصورة ببغائية ثم واصل.
    ثالثاً : إن الإحصاء للبطاقة التموينية قد تم في حاضرة الإقليم، وسيصل قريباً إلي تلك المناطق، فإذا تحرك المواطنون لأي مكان آخر فإن حصتهم تصبح معرضة للضياع.
    رابعاً : أن الشعار الذي رفعته الثورة الظافرة هو شعار الاعتماد علي الذات من أجل العزة والكرامة، لذلك يتوجب علي المواطنين ألا ينتظروا أن تأتي لهم الحكومة بكل شئ بل عليهم أن يعملوا وينتجوا ويعتمدوا علي أنفسهم، وأن الحكومة ليست علي استعداد لتوفير حتى مدافن جماعية للذين يموتون جوعاً.
    خامساً : عدم مقدرة الحكومة علي شراء الثروة الحيوانية التي يهددها الانقراض.
    نهض الحاكم وهو يقول : نشكركم يا جماعة علي هذا اللقاء الميمون، وأرجو أن تنقلوه وتنقلوا تحياتي إلي مواطني هناك، وقولوا لهم شدوا حيلكم ونحن معاكم وإن شاء الله ستفرج قريباً. وهتف، وهتف معه الحاضرون:
    -الله أكبر .. الله أكبر.
    - شكراً يا حضرة الحاكم. وخير ختام نستمع لآيات من الذكر الحكيم.
    وقبض إمام الجامع - عضو الوفد - يديه إلي صدره وتنهد تنهيده مسموعة وهو يقرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم. أن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل.....) صدق الله العظيم. نهض الوفد وصافحه الحاكم مودعاً وهو يقول :
    - شكراً جزيلاً ومتأسفين يا جماعة جيتونا ولم نكرم مثواكم بحاجة باردة ولا شاي. مع السلامة.
    كل ذلك عرفه محمد حسن ساري الليل بنصف وعي، فنصف وعيه كان قد سبقه إلي هناك، إلي مستقبل أسرته ومستقبل المنطقة التي لم تتورع أن تصيب أهله بالجفاف ثلاث مرات متتالية، هل يا ترى يهجرها أهلها بحثاً عن منطقة تأويهم وتوفر لهم متطلبات الحياة أم تراها ستعود إلي ماضيها النضير ؟ الكثير من الأسئلة كان يدور في ذهن محمد وكان الميل للتشاؤم هو الغالب.. يتحدث محمد لنفسه:
    - لا أظن أن المنطقة ستعود إلي عهدها الأول. حتى الماء شرد في باطن الأرض، غاص إلي اسفل حيث بدأت الآبار تزداد عمقاً، الغطاء النباتي جف وذبل تماماً وأختفي من علي الأرض. الأتربة الصحراوية كست سطح الأرض. لا أطن أنها ستعود إلي عهدها الأول.
    العربة تهدر وتسير وسط الطريق الخالي شمالاً، تظهر بعض المحطات الكبيرة المعروفة علي الشارع. كانت العربة تدخل المحطة وتتوقف أمام بعض المقاهي الكبيرة، حيث يلاحظ محمد عدم وجود الأطفال الذين كانوا في السابق يتجمهرون حول هذه العربات في المواقف، يستقبلونها بالصياح والتعليق ويتفرجون علي الركاب، حيث ظل بعضهم إلي جوارها ينكث علي الأرض ويلعب حتى تتحرك العربة فيودعها بالجري خلفها حتى تخرج عن دائرة الموقف، حيث يحاول المساعد منعهم من التعلق بمؤخرتها.
    لاحظ محمد أنه لا اثر للرؤوس التي كانت تمتد أعلي الحيشان في محاولة للتعرف علي القادمين. المنطقة بائسة ومغفرة. نزل محمد عن العربة وقد أصاب الخدر رجليه بعد أن كان يجلس القرفصاء في مؤخرة اللوري أعلي البضاعة. نفض جلبابه من الخلف وأتجه إلي بعض العناقريب التي رصت أمام المقهى. المقهى خال من الرواد قبل وصول العربة. جلس محمد علي العنقريب للاستجمام قليلاً من التعب والإرهاق وشيئاً ينقر في رأسه كالطار.
    جلس محمد يتفكر في أمور قريته ولم يفكر في تناول طعام، ليست لأنه غير جائع، ولكن قرر الاحتفاظ بالمبلغ القليل للحظة قد تكون أحرج من الآن. بعض الركاب طلب شاياً، وتساءل بعضهم عن وجود لبن حليب. ردت عليه صاحبة المقهى بعد تنهده سافرة بكلمة واحدة وقصيرة. قالت :
    - وييين ؟
    - ليست بالمطاعم هنا شئ غير وجبات دميمة صنعت من المواد التي تقدمها منظمات الإغاثة للجوعي. أنتهي الركاب من قضاء حاجياتهم وأدوا صلاة المغرب وأدار السائق ماكينة اللوري وأطلق صفارة التحرك من بوق العربة، صعد الجميع إلي ظهر اللوري الذي تحرك بهم تاركاً المحطة باردة ثقيلة. لقد كانت هذه المحطة في الزمان السابق تعج بالمسافرين قدوماً ورواحاً. لكنها الآن جفت، فلم تعد العربات تسافر إلي دار الريح بالقدر السابق خاصة بعد أن نضب خيرها ولم يعد المسافرون كالزمان السابق، الطريق خالٍ إلا من أُسرٍ فقيرة أغلبها من العجزة رجالاً ونساءً وأطفال ومعهم أمتعتهم البالية يجلسون في شكل حلقات صغيرة انتظارا للعربة القادمة من الشمال لتنقلهم إلي الأُبيّض، إلي معسكر الجو عي، إلي الموت. لقد استنفدوا كل مبقيات الحياة، لا زراعة بقيت ولا بهائم ولا ماء. بالطبع إنهم لا يدرون أين سيجدون هذه الأشياء بالأُبيّض، لكنهم كانوا يتحركون صوب الجهة التي سبقهم لها السابقون، هذا هو باب الأمل الوحيد في النجاة. يتلفتون يميناً وشمالاً وقلوبهم تخفق خوفاً من المصير المجهول ويتعمق إحساسهم بالاجتثاث، فهم لا يودون مفارقة أرضهم وبلدهم ولكنهم مكرهين. يتحركون بلا تخطيط أو تفكير أو دراية بما ينتظرهم هناك وأطفالهم تحتهم يتصايحون.
    اتجهت العربة بمحمد شمالاً عبر الرمال الوحلة وشجيرات الهشاب الشائطة والليل يمر ثقيلاً. بعد انقضاء الثلثين الأولين من الليل توقفت العربة في الخلاء ونزل عنها الجميع فباتوا بقية ليلتهم في استرخاء عميق علي سطح رمال كردوفان الباردة، كان محمد يشم ويستمتع بالتراب الذي ولد وتربي فيه. لقد مرت فترة طويلة دون أن ينعم محمد بمثل هذه الرقدة علي التلال الرملية الطرية في ليل هادئ وعلي دغدغة نسيم الليل الخلوي الطري العليل.
    في الصباح تحركت العربة شمالاً، إذ لم يبق أمامها سوى محطتان سينزل محمد عند أولاهما، بالطبع هي ليست قريته - حلة مرجي - والتي تبعد شرقاً مسيرة أربع ساعات سيراً علي الأقدام، ولكن أضطر محمد للركوب لهذه المحطة بعد أن تأكد من انه لا توجد عربة ستسافر إلي قريته مباشرة هذه هي أقرب نقطة يمر بها خط مواصلات إلي قريته. كان في السابق يربط بين هذه المحطة وحلة مرجي طريق برى للجمال والحمير والتي تحمل الخضروات ومنتجات السوق التي اشتهرت بها قريته، ولكن الآن اختفي الطريق إلا من بعض النساء يحملن بعض الأشياء علي رؤوسهن فقد نفقت الدواب ونضب ما يحمل عليها من خيرات. سينزل محمد عند المحطة القادمة ويتجه شرقاً عبر الفلاة التي كانت عامرة خلف قريته، إلي حيث ولد وتربي وتوجد والدته وإخوانه الآن، سيسير كل هذه المسافة راجلاً وحقيبته علي ظهره.
    كانت الساعة قد قاربت الثالثة ظهراً عندما وصل محمد إلي المحطة قبل الأخيرة. اخذ حقيبته ( الهاند باق ) علي ظهره واتجه شرقاً عبر مساحات شاسعة يتقطع فيها السراب وتملأها آثار (السروح) و(المقايل) ومخلفات البهائم وقعور القصب، أنها بقايا النعيم الذي كانت ترفل فيه هذه المنطقة. بقايا عهد منعم قد ولي. لقد كان محمد يعرف جيداً كل هذه المساحة الواسعة بين المحطة قبل الأخيرة وقريته، فهي (فلاته) التي كان يسرح فيها الضان. سهول وبوادي لا يحدها البصر، الوديان لا تحصي ولا تعد، كانت في فصل الخريف عبارة عن لوحات فنية بهيجة بأشجارها الخضراء العالية ووديانها المنخفضة التي يملأها الماء، الحشائش الخضراء تغطي أديم الأرض، والتلال ترتفع عالية خضراء. كنت تسمع ألحانا وأنغاماً ساحرة وسط هذه اللوحة الفنية البديعة ناتجة عن امتزاج أصوات الطيور وأصوات البهائم المختلفة، الطيور تشقشق علي الأشجار العالية، يأتيك من البعد البعيد صوت لقطيع ضان التقى بصغاره عصراً فتمتزج الأصوات وتتشابك فيما يشبه النغم الموسيقي البديع، صوت كلب يحرس قطيعاً أو بيتاً، ونهيق حمار تردد صداه الوهاد والأشجار إلي جانب هذه البوادي كنت تجد المزارع المخضرة بالدخن والسمسم والبطيخ. مناظر تثير في النفس البهجة والسرور. كل هذا النعيم قد تحول إلي جدب ويبس ونتج عنه نزوح مرير وتفكك للأسر وتشتت للأهل.
    قطع محمد مجموعة من القيزان الرملية متأبطاً شنطته، مساحات شاسعة أزيل غطائها النباتي واكتسحتها الرمال والأرض عطشى وجدباء.
    بعد السير المتواصل لاحت لمحمد حلة الحيمورة علي الأفق البعيد تبدو وكأنها ترتجف من اثر السراب الذي يفصل بينه وبينها، سيصل حلة الحيمورة عند الساعة الخامسة حيث يكون العطش قد بلغ منه مبلغاً عظيماً فيأخذ شربه ماء يستعين بها علي حرارة الجو والغيظ والعطش لبقية المسافة.
    لاحت له قرية الحيمورة ببيوتها المتفرقة، بعضها قد هجرها أهلها إلي أرض المعسكرات والنزوح بالأُبيّض وأم درمان - الغابة والمويلح. المنازل التي هجرها أهلها لم يستطع الزرب الذي وضع حولها من فروع الشجر أن يحميها من هجمات البهائم الجائعة والتي أقفرت فلاتها مما يؤكل، فأعملت فيها نبشاً وتخريباً فبدت مخلعة وعارية من أسافلها، لم تقو حيشانها علي مقاومة رياح الجفاف العاتية فانهارت. اتجه محمد لأحد المنازل في الطرف الشمالي الغربي للحلة، (قطيه) سوداء مائلة و(راكوبه) مهترئه وأعواد لا زالت مصطفة أمامها كانت في السابق بمثابة حوش يدارى واجهة المنزل. ساحة المنزل الداخلية بها سرج حمار وعنقريب تدلت حباله أرضاً من الوسط. أمام المنزل كان هناك طفلان يلعبان تحت شجرة الهجليج الكبيرة التي تقبع بصمود أمام المنزل. أكبرهما اتسخت ملابسه من الأمام حول صدره وبطنه حيث يتدلى حجاب تلكك بالأوساخ، الآخر كان عارياً تماماً بدت الأوساخ حول عنقه في شكل أطواق بيضاء، وأرنبة أنفه متسخة، ماعداهما تبدو القرية صامتة وكأنها خالية من البشر. سلم عليهما محمد فردا عليه السلام في استحياء:
    - أنتو أولاد منوه ؟
    - أولاد حسن.
    - وين أهل بيتكم ؟
    أبوى فات يلحق الجمل، وأمي وعلي وردوا البير ؟
    بيركم راوياكم موية ومليانه والا لا ؟
    - مرات بتنغرف ومرات مليانه موية.
    أجال محمد ببصره شمالاً فلاح له منزل يبدو أنه مهجور، فسأل :
    - وداك بيت منوه ؟
    - بيت جابر، سافر هو وأولاده إلي أم درمان.
    - طيب اسقوني لي موية.
    دخلا إلي ( القطية ) التي قفلت بسدادة مصنوعة من المرخ وجذور الأشجار تآكلت أعاليها. كان محمد يسمع صوت غطاء الزير يزاح من عليه. وبعد قليل أخرجا له ماء في إناء متسخ يحمله الطفل الأصغر ويمشي ببطء والماء يعلو وينخفض علي أطراف الإناء من اثر وقع أقدام الطفل وهو يمشي بشيء من الرهبة وقد ثبت عيناه علي الغريب الزائر. كان الطفل يحتضن الإناء إلي صدره بقوه، وكان الماء يرتفع متجاوزاً حافة الإناء إلي صدره ثم ينخفض إلي قاع الإناء مصحوباً ببعض ما علق بصدره من أوساخ في شكل أشباح سوداء تبدو واضحة بالماء للوهلة الأولي ولكنها سرعان ما تذوب فيه. مد محمد يده وتناول الإناء وقد تركت أصابع الطفل الصفير علامات سوداء علي موضع قبضتها علي أطراف الإناء. كان محمد قد أشتد به العطش فلم يعبأ بشيء من ذلك. أخذ الإناء وشرب كثيراً قابضاً علي عضلات انفه حتى لا يشم أو يتذوق شيئاً يمنعه عن الشرب. شرب كثيراً وأرجع الإناء للطفل. ثم واصل سيره من حلة الحيمورة شرقاً عبر الوادي المعروف لديه. بعض الأشجار الكبيرة واضحة المعالم لا يزال يذكرها، كما هي لم تتغير حتى الآن نفس الشكل السابق، فقط جافة هي الآن.
    الخلاء الصامت بعد أن كان في السابق كثير الحركة، قطعان الضان والماعز والأبقار تملأه ضجيجاً. الطيور لها أصوات مختلفة، نعيق غراب، خوار ثور، كل شيء يدل علي الحياة والحركة، ولكن الآن سكون موحش إلا من الهواء الساخن يهب من الناحية الشمالية منبئاً بطول فترة الصيف.
    سار محمد مسافة طويلة في اتجاه الشرق قبل أن يقرر الجلوس قليلاً للاستجمام. جلس علي ظل أحد الأشجار الكبيرة يتأمل المحل، فلاته التي كان يرعى فيها أغنامه في السابق، نفس الأشجار الكبيرة ما زال بعض منها علي قيد الحياة، البعض الآخر لم يبق منه سوى جزع كبير يرتفع قليلاً عن الأرض تتشبث به (الأرضة )، والبعض الآخر ينام حطاماً. الأشجار الشاحبة بدت أكثر تفرقاً من ذي قبل، شجرة سيال عجوز نحتتها الرياح من أسفل حتى برزت جذورها وبقيت وكأنها تتشبث بالأرض وتقاوم حتى لا تقتلع. لاشيء بقي علي حاله، الأشجار الكبيرة اندثرت، أما الصغيرة فقد جفت وذبلت بعد انقطاع الماء عنها وهي لا تزال في طور النمو الأول. القليل من المعالم بقي علي حاله ويمكن الاستدلال به علي سلامة اتجاه السير. أسترجع محمد ذكرياته أيام الماضي مع الغنم في ( الشوقارة ) بتلك المنطقة، تذكر ( مقيلته)، محل (التايه) حيث كان والده يتركه مع الغنم ويرجع له من السوق ومخلاته مليئة بالخيرات : طحنية، بلح، رغيف، سكر..... الخ.
    جذب محمد رجليه حيث شعر بالخدر والتعب ينتابهما فصارتا ثقيلتين كما شعر بالتعب يتسلل إلي السلسلة الفقرية ومؤخرة ظهره.
    أغمض عينيه فإذا هما دافئتان وشيء ما ينقر علي رأسه كنقر الشاكوش. أحس بقرصة الجوع، نظر أمامه، فلا يزال المشوار طويل وقد نسي أن يأخذ معه زوادة من المحطة الأخيرة التي نزل فيها، تبقت له ساعة ونصف من السير علي الأقدام ليكون مع والدته وإخوانه. الفلاة التي كانت مليئة بالحشائش وآثار البهائم والفار والحشرات والطيور وبراغيث الأرض المختلفة، الآن ما هي إلا مساحات ممتدة من الرمال شكلت منها الرياح كثبان متساوية أو متفاوتة ومتعرجة السطح. بقايا لبهائم ماتت وبقيت جلودها كالرقع المرميه تبدو تحتها عظام بيضاء. ما عدا ذلك فالأرض حمراء لا أثر فيها لبشر ولا طير أو فأر. ذم محمد شفتيه مبدياً أسفه علي تلك الأشكال الجميلة من الطيور التي صارت المنطقة خالية منها.
    لاحت له شجرة هجليج كبيرة، إنه يعرفها جيداً، نعم إنها ( أم طَرَق ) سماها الرعاة كذلك لأنها كانت شديدة الخضرة ولكبر حجم أوراقها. وقد تعارف النّاس علي تسمية الأوراق بالطَرَق. يعرفها محمد جيداً ويألفها لأنها كانت ( مقيلته ) في الزمان السابق، أهتدي لصحة الطريق وعرف موقعه من القرية.
    بعد سير متواصل وجاد برزت له حلة مرجي من علي البعد خلف المساحة العارية التي كانت مخصصة للزراعة إبان الخريف في شكل شريط أسود من الأشجار الممتدة شمالاً وجنوباً حيث ترقد مجموعة من قرى شمال كردفان دون أن يعلم بوجودها أحد. إنها منسية تماماً. لم يستطع محمد تحديد حلة أولاد مرجي تماماً وخشي أن يوصله الطريق إلي الشمال منها أو الجنوب. لقد كان يتعرف علي معالم الطريق هنا بتمييزه ( للمقايل ) والمقيلة هي شجرة خضراء ظليلة يتركها صاحب المزرعة وسط بلاده بعد أن يقطع بقية الأشجار ليقضي فيها وقت القيلولة ويضع فيها أمتعته. قطع محمد المساحة الخالية ودخل إلي الوادي العميق حيث قريته. الشمس قاربت أن تختفي، وبدأ الظلام يزحف ببطيء ليلف الوجود بعبائته السوداء. أقترب محمد من موقع البيت حيث لا ماعز ولا خضرة ولا اثر لإنسان أو حيوان. لا شئ حي متحرك سوى ( أبو الجندب) القابع علي شجرة كبيرة يملأ الدنيا صريراً.
    علي طول هذه الرحلة والتي استغرقت زهاء الأربع ساعات لم يقابل محمد بشراً سوى الأطفال الذين سقوه الماء في تلك القرية المهجورة، لهذا أنتابه شعور بالخوف والوجل علي عائلته، هل تراهم ما زالوا موجودين؟ يتوقف محمد قليلاً ليستنط، لكن لا شيء سوى صوت ضربات قلبه يرتفع: دق... دق... دق...، وشئ ينقر علي رأسه ( كالنوبة )، لا حركة ولا ضوضاء، نظر محمد للأرض تحت أقدامه، لا اثر لإنسان أو حيوان، لا شيء سوى المجهول والصمت الرهيب يلف الوادي.
    يكرر محمد السؤال علي نفسه: هل يا ترى هم موجودون داخل هذا العدم المخيف؟ أم أنهم هاجروا إلي مكان ما؟ أم أنهم....
    ولكن لا. يرفض فكرة السؤال ويندفع في وجل نحو المنزل.
    أقترب محمد من المنزل الذي بدا حزيناً موحشاً. الأشجار التي أحاطت به بدت شاحبة مكفهرة وكأنها تعزى في مصيبة ما. زحفت الرمال علي البيت من الجهة الشمالية وتمكنت من اقتحامه في بعض المواقع. لم يتمكن محمد من التمييز بين أن يكون بالمنزل سكان أم لا لأن واجهة المنزل كانت إلي الشرق بينما أتي محمد من الغرب.
    استدار محمد حول البيت من الناحية الشمالية وقلبه يخفق في وجل وعند المدخل فوجئ بأخته الصغيرة بخيته. لقد بدت هزيلة وملابسها متسخة، وآثار دهن علي يدها وفمها حيث تجمعت صغار النمل لتلعق منه. نظرت بخيته إلي محمد نظرة اندهاش واستغراب، علها لم تعرفه. سلم عليها محمد في شوق وإشفاق، أخذها إلي حضنه وقبلها حتى علق النمل بفمه، وسالت دمعة حارة من مآقيه. ولما استفسرها عن والدته وأخيه الصغير، عرف منها أنهما ذهبا مع ما تبقي لهما من ماعز في وسط الوادي يقطعان لها الأغصان الخضراء من رؤوس شجر الهجليج لتقتات به. لا شىء يذكر بالخضرة والحياة سوى شجر الهجليج. بدأ محمد يتجول حول البيت يدور في رأسه الكثير من الأسئلة حتى وصل أخوه الصغير. سلم عليه محمد وسأله في تلهف عن والدته حيث اخبره بأنها تأخرت خلفه تشكو المقص الشديد. لم يستطع محمد انتظار وصولها للمنزل، اصطحب أخاه ورجع يقتفيان الأثر حيث عثر علي والدته منطرحه أرضا تتلوى ممسكةً علي بطنها. سألها محمد عن سبب ذلك فطمأنته بأنه عادى تعرض له أفراد القرية الذين بقوا وأنه نتج عن تغير الطعام. إذ أنهم اصبحوا يقتاتون علي الفاصوليا والعدس وزيت كبد الحوت وأشياء أخرى لا يعرفونها تقدمها لهم منظمات الإغاثة.
    ورغم حرج الموقف إلا أن محمد كان سعيداً بوجوده مع أسرته. لقد عرف أن الكثيرين من أهل القرية يشكون من المقص والإسهال والتقيوء، زار محمد اكثر من ثلاثة منازل مجاورة لهم، رائحة زيت كبد الحوت تزكم الأنوف. ما دخل بيتاً قط إلا واستقبلته رائحة زيت الإغاثة. يشمها في الإناء الذي يقدم له فيه الماء، وفي يده كلما سلم علي أحد، وما أكل أحد قط زيت الإغاثة إلا وعلقت رائحته بيده لا تبارحها بأي شيء غسلت، فإذا امسك بإناء دمغه بها، وإذا سلَّم على أحد علقت الرائحة بيده، رائحة كريهة كرائحة السمك أول ما يُستخرج من البحر. سحابة من الحزن غطت وجه محمد، الخير والبشر والبشاشة التي عهدها في القرية حل محلها الفقر والجوع والمرض والقحط، لم يفارقه الإحساس بالضياع والمجهول، بات محمد ليلته طاوٍ على الجوع لم يتناول شيئاً، فنفسه لم تستحسن ما قُدِّم له بالإضافة إلى خوفه من المرض، وفي الصباح تجول محمد حول أرجاء القرية، لا شئ غير الرمال والجفاف والقحط، الماشية انتهت جميعها، مجموعات الماعز الموتى مفرقة حول القرية في أوضاع وهيئات مختلفة وفي أزمنة مختلفة، بعضها صار عظاماً بيضاء مفرقة، وبعضها لم تتفرق عظامه والى جانبها رقع الجلود، بعضها ما زال ليناً مهترئاً تفوح منه رائحة كريهة، الحي منها في طريقه إلى نفس المصير يثير في النفس الشفقة ولا أمل، تراها بارزة عظامها وكأنها علي وشك أن تخترق الجلد الذي تساقط عنه الصوف وبدا جاهزاً لصناعة دف أو طبل وصاحبه لا يزال حي يسعى. تراها تائهة كالشبح ترفع رأسها لأعالي الأشجار التي أصابها القحط هي الأخرى ثم تخفضه إلي الأرض بحثاً عن شيء يمكن أكله دون جدوى، وتقطع مسافات بعيدة بحثاً عن قشه تقضمها وتعود بلا زاد، قرأ محمد في عيونها الحيرة والعذاب، الحمير لا يمكن ركبوها أو حمل شيء عليها لا يستطيع الواحد منها النهوض من علي الأرض إلا بمساعدة صاحبه بعد أن كانت تمرح وتنهق فتوة ونشاطاً، فسبحان مغير الأحوال من حال إلي حال، كل شيء في طريقه إلي أن يتلاشى ومازال أهل القرية ممن بقي بها ينتظرون المجهول، تقرأ القحط واليبس والجفاف في كل شيء ولا أثر لخريف محتمل القدوم. لقد كانت الأشجار في السابق تخضر قبل الخريف وفي مثل هذه المواعيد ولكنها لم تعد كما هو مفترض. زار محمد منزل خاله حسنين، لقد شاءت إرادة الله لتلك الأسرة الفقيرة المؤمنة أن تذوق مر الحياة في معسكر الأُبيّض بعد أن مات عائلها وطفل عزيز عليها. الكثير من الأطفال والصبيان والطلاب انقطعت بهم سبل الحياة فتاهوا في غياهب المدينة لا أحد يعرف الآن عنهم شيئاً.
    رجع محمد بعد جولته حول القرية متحسراً يائساً، إلا أن وجوده وسط والدته وأخوته وفرحته بنجاتهم حتى الآن وذكريات صباه الأولي بالقرية خففت عنه المرارة. وبينما محمد غارق في التفكير إذ بأحد أطفال القرية يولول فرحاً ويشير بيده ناحية الشمال الشرقي ويصيح :
    ( لقد طارت أم بشّار ).
    وتلفت الجميع لينعموا برؤية أول سحابة تحمل البشارة بقدوم الخريف. جميع منجمي تلك المناطق يجمعون علي أنه عندما تظهر سحابة غير مسبوقة في هذا الوقت بالذات وبهذا الحجم والشكل ومن هذا الاتجاه بالذات، فإن الخريف مضمونٌ مضمون.
    وحملق الجميع في السحابة وكلهم أمل ورجاء. وتمتم محمد بالشكر لفرّاج الكروب الذي شاء أن يجعل من بعد عسرٍ يسراً.
                  

العنوان الكاتب Date
رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-04-03, 01:18 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-04-03, 01:20 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات ahmad almalik08-04-03, 02:55 PM
    Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-04-03, 04:08 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-10-03, 09:01 AM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-21-03, 06:55 AM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات ahmad almalik08-28-03, 01:08 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-28-03, 04:49 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Nada Amin08-28-03, 10:07 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-29-03, 12:39 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Nada Amin08-29-03, 03:56 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-29-03, 09:04 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Nada Amin08-29-03, 09:31 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات bushra suleiman08-29-03, 11:40 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-30-03, 08:26 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de