رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-09-2024, 06:20 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-10-2003, 09:01 AM

Alsawi

تاريخ التسجيل: 08-06-2002
مجموع المشاركات: 845

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات (Re: Alsawi)


    وهذا هو الجزء الرابع من الرواية


    لقد حلت الكارثة لا محالة. تباشير الجفاف والقحط لاحت للجميع، أنه لسوء طالع عظيم لمحمد، ففي الوقت الذي توفي فيه والده كأول ضحايا الجفاف لهذا العام، وأصبح هو العائل الوحيد لأسرته، تبين للجميع أنهم أمام قحط وجفاف محققين، فقد تأخر الخريف في العام السابق كله إلا من بعض الأمطار الخفيفة التي أفسدت الحبوب في التربة، فهي لم تتركها جافة حتى تحافظ علي خصوبتها، ولم تروها بالماء لتنبت، بل بللتها مما أدى إلي انتفاخها وإنباتها، لكنها سرعان ما ذبلت وماتت وهي لا تزال غضه لم ترتفع عن سطح الأرض. حتى البذور التي القاها المزارعون منذ وقت مبكر، كان مصيرها خسراناً. أما البهائم فقد استطاعت أن تعتمد علي النبات الجاف الأسود من بقايا العام الأسبق طوال فترة الشتاء والصيف الجاف منتظرة لفرصة الخريف الثاني، وعندما حان وقت الخريف كانت عند الرمق الأخير، تجاهد بشق الأنفس للتشبث بالحياة، وحينها و لما لم يأتي الخريف عم الهلع والزعر وهرع الكثيرون من أصحاب هذه المواشي لبيعها في الأسواق فهبطت أسعارها بشكل لا يُصدق لهزالها ولكثرة عرضها ولعدم وجود العلف، فقد كان أصحابها يبدلونها بملوة العيش أو يتركونها في السوق عندما لا يجدون من يرغب في شرائها. ارتفعت أسعار ضروريات الحياة السعار الغذاء المستجلب من المدن أو من المناطق النائية، وأصبحت المنطقة لا تنتج شيئاً من ضروريات الحياة.
    لقد حل الجفاف وتبدل كل شئ. أصبحت الحياة صعبة في القرية، إنعدم العمل والدخل، فبتوقف الأمطار فسد مصدرا الرزق الأساسيان، الزراعة والرعي. بدأت الأسر الضعيفة في الهجرة إلي المدن. ولم يكن أمام محمد حسن ساري الليل إلا أن يكون من بين المهاجرين إلي المدينة عله يجد فيها عملاً يوفر منه دخلاً يغيث به أسرته، فأتخذ من بعض العربات المسافرة إلي الأُبيّض وسيلة للوصول إلي هناك.
    كان محمد عند دخوله المدينة يلاحظ إخوانه وأشباهه من القرويين يعملون في غسيل العربات أو مسح الأحذية أو كحمالين أو كناسين أو باعة متجولين لأشياء يسيرة وحقيرة. كان يرى بعض صغار مشردي الريف في المجارى وأكوام القمامة إلي جانب المباني الفخمة والشوارع الواسعة التي تعج بالجديد والغريب من العربات فيتقطع فؤاده حسرة علي واقع مقلوب.
    صحيح أنه لم يكن يفهم تفسير هذه الظواهر الاقتصادية-الاجتماعية الظاهرة أمامه، إلا أنه بفطرته السليمة وبحسه المرهف كان يحس بمفارقة جليه ورهيبة. كان محمد يسير في شوارع المدينة يرتدى عراقية البلدي الذي يصل إلي اسفل ركبتيه بقليل، والذي بدا انه لم يحظ بماء أو صابون لمدة طويلة حتى بدت عليه خطوط العرق والغبار سوداء ممتدة في شكل خطوط إلي اسفل كأنها ظل المطر الذي ضرب منطقة بعيدة. كان يسير مستغرباً ينظر يميناً وشمالاً إلي الضوضاء والزحام والعربات الكثيرة والزعيق، تائهاً شارد الذهن يفكر في تفسير ما يلاحظه علي جانبي الطريق.
    لمح محمد قطعة قماش بيضاء ناصعة البياض ثبتت من أطرافها الأربعة علي أحد الجدران وكتب عليها بخط واضح ومنمق:
    - من أجل الغلابة والمسحوقين.. انتخبوا مرشحكم...... )
    وكان طرف القطعة قد لفه الهواء، فلم يتبين اسم المرشح. وقف محمد يتأمل لفترة ليست بالقصيرة.. لم تشده بالطبع العبارات المكتوبة، فما كان ليفهم منها شيئاً بقدر ما شدته قطعة القماش البيضاء النظيفة من قماش ( الدبلان ) الفاخر. فما أحوجه إليها عله يصنع منها جلباباً أو يرسلها لأخيه الصغير يلبسها جُبة أو يتخذها ثوباً يقيه شر البرد.
    عمل محمد كبائع للماء علي (صفيحة) وفرها له عباس صديق القرية القديم والذي تعرف عليه في موقف عربات القرية، جاء يستطلع الأخبار عن أهله من القادمين من هناك، فكفاه شر أسئلة كثيرة ما كان ليجد لها حلاً. كان محمد بوحشه القروي وانكماشته وانعزاليته يقف إلي جوار الموقف الكبير يضرب علي كوبين من الألمونيوم علي بعضهما وتحته صفيحة مليئة بالماء يسقي منها المسافرين نظير خمسين قرشاً لكل فرد.
    لقد سر محمد بذلك وسعد كثيراً عندما شعر بأن بعض النقود، ولو قليلة،أصبحت تبقي بجيبه وفراً عما يأكله ويشربه. وفي أحد الأيام، وعندما كان يقف عند مكانه المعهود شاهد بعض زملاء مهنته يهرولون بأوانيهم، وشعر محمد بزميله الذي كان يقف إلي جانبه يجذبه من ذراعه جذبة عنيفة أسقطته علي الأرض، ثم تركه وهرب لينجو بنفسه وبما عنده. عند ذلك شاهد محمد أشخاص يطاردون الجميع، وواجهه أحدهم ودون أي كلام ركلة ركله عنيفة وسلب منه (الصفيحة) والأكواب وتركه ليلاحق الآخرين.
    تجمد محمد في موقعه لا يفهم شيئاً حتى أتاه صديقه الذي كان قد نجي بمعداته ليشرح له أن هذه تسمي ( الكشة ) تقوم بها: ( حاجة اسمها البلدية ). وعندما استفسر محمد عن سبب ذلك، لم يجد تفسيراً من صديقه الذي لا يدرى هو الآخر، وان حمد له السلامة علي أنهم لم يدفعوا به إلي العربة بصورة مذرية ويأخذوه إلي حيث سيعاقب بالجلد خمسه عشر سوطاً كما فُعل به هو من قبل.
    بقي محمد حسن ساري الليل حائراً في الطريقة التي تجمعه (بصفيحه) أخري وكوبين ليعود إلي عمله السابق، حتى جاءه صديقه بفكرة جديدة قال له أنه قد اتفق مع أحد الذين يعرفهم علي أن يوفر له (خانة) معهم في إحدى المصانع الضخمة ليعمل معهم بنظام السهرات الليلية في تجهيز الزيوت. استجاب محمد على الفور وذهب إلي حيث المبنى الكبير ذي الآلات القوية التي يرتفع صياحها وضجيجها حتى لا يكاد الشخص يسمع حديث جاره. لقد كان محمد كثير الخشية من أن تلتهمه هذه الأشياء فتحسس بلا وعي حجابه الصغير علي صدره فتذكر انه قد فارقه منذ زمن بعيد... لكن لم تفارقه نظرات والدته واخوته وعيونهم المليئة بالرجاء والأمل.
    لقد سمح صاحب المصنع لمحمد وزملائه بالإقامة في أحد الأركان الخلفية للمصنع، يستريحون فيه من عناء العمل المتواصل، فشيدوا لهم راكوبة صغيرة من الجوالات والكرتون وعيدان القنا. كان محمد نادراً ما يجد فرصة للخروج بسبب العمل المتواصل، وكانت أخبار أهله في القرية هناك مقطوعة عنه تماماً وما عاد يدرى ماذا فعل الله بأهله وقد تركهم في مواجهة القحط وعاديات الزمان.
    لم يجد محمد الفرصة للخروج من المصنع إلا بعد خمسه عشر يوماً قضاها داخل أسوار المصنع العالية، فأتجه نحو ( الموقف ) حيث صديقه عباس الذي آزره أول مجيئه للمدينة ووفر له الصفيحة والأكواب ليبدأ العمل. لقد كان من السهل علي عباس أن يتلقى أخبار القرية لان مكان عمله هو ( موقف دار الريح ) حيث يستقبل يومياً القادمين من تلك الديار ويسقيهم الماء. توجه محمد إلي هناك ماراً بقلب مدينة الأُبيّض العريقة، فشاهد لأول مرة الكهول والعجزة وكبار السن، باد عليهم الذبول، يدبون في طرقات المدينة، بعضهم يسند ظهره وبعضهم يتوكأ علي عصاه. يمدون أيديهم لأصحاب الخير في خشوع وتذلل، أنه شكل من أشكال الحياة لم يعتادوا عليه، لقد علمتهم البادية العزة والإباء لا الخضوع والانكسار. لاحظ محمد كهلاً تساقطت أسنانه فبدا صوته خافتاً، وبدا علي حواجبه الشعر الأبيض. خطوط الشيخوخة ترتسم علي وجهه في شكل تجاعيد غائرة تقرأ فيها أحداث الماضي وعبر الأيام يرتدى ملابس مقطعة، متسخة ومرقعة، ويطوى عمامته في حزن وألم. عيناه غائرتان وقد أنهكهما التعب. رآه يدب من محل تجارى لآخر يواجه بالصدود ونظرة الإزدراء من أصحاب المحال. ولاحظ امرأة عجوزاً شمطاء تحمل طفلاً وتقود آخر، تلف نفسها بمجموعة ثياب مهترئة ومتسخة تتكشف في وسطها عن هزال وجوع وألم.. همهم محمد في نفسه... أنها مأساة فاجعة لا رحمة فيها لطفل رضيع ولا لشيخ هرم. الأطفال في الطرقات بثيابهم الممزقة وأجسادهم المتسخة يتجولون حول مواقع القمامة وحول المطاعم يتربصون بترابيز الأكل، يفترسون الفتات الذي تركه الزبائن قبل أن يسبقهم إليه ماسح الترابيز.
    لفت نظره طفل صغير كان عليه ثوب ممزق برز منه صدره العاري، وانشق عن كتفه فظهر ناتئاً إلي اعلي، الثوب علي عِلاته رث قذر يظهر من جسم الصبي اكثر مما يخفي وكأنه أسمال وُصل بعضها ببعض لتصير لهذا الصبي جلباباً يستر ما يستطيع ستره. تفرس محمد وجهه فرأى بؤساً شاحباً وابتسامة باهتة فيها الكثير من الحزن والألم. والكثير الكثير من الوجوه البريئة التي أذلها الفقر والفاقة تستجدى ولا رحمة، ينبشون في أكوام القمامة عن بقايا طعام، وينامون علي الأرصفة، يستظلون بالمجارى من لفح النهار ووهج الشمس المحرقة، يقضون فيها استراحة النهار بعد عناء الليل في البحث عما يسهل أخذه بعيداً عن الأعين، ويتساءل محمد مع نفسه:
    - تراهم مجرمون في حق المجتمع أم أن المجتمع هو الذي أجرم في حقهم ؟ ولا يجد الإجابة.
    رأى محمد مجموعة من الصبية من أبناء أهله، عرفهم بسيماهم - شبهاً ودماً - وبفراسة بدوي لا تخطئ، رآهم إلي جوار سوق الخضر والفاكهة يلتقطون التالف من قطع المانجو والموز والقريب فرت، يتلذذون بأكله وعلي وجوههم فرحة المغنم، يمرون أمام الاستريو الذي يقبع إلي جوار سوق الخضار، وهم شبعي يذبون عن وجوههم وأيديهم المتسخة سرابات الذباب الملحاحة ويتهادون علي أنغام شريط غربي ملأ الشارع ضجيجاً، فيرقصون على أنغامه في فرح غامر.
    إنها سعادة تخفي ورائها واقع اليم من الضياع. أنها سعادة اللحظة و ابتسامة المذبوح وهو يلفظ النفس الأخير.
    لاحظ محمد فتيات في مرحلة النضج يبعن الشاي إلي جوار المنطقة الصناعية عليهم الملامح الريفية ولكنهن يتحدثن إلي صعاليك المنطقة الصناعية المشهورين بلهجات وأساليب لم يعهدها محمد عندهن في القرية. فقد عهد عندهن الخجل والعفة والاحتشام.. كانت الواحدة منهن تتواري خجلاً إذا ما أحست بطارق علي باب البيت، فترتدى ثوبها وتبقي بعيداً. كانت الواحدة منهن تحبس نفسها داخل البيت ولا تخرج بتاتاً إذا كان هناك غريب في ( راكوبة الضيفان ) قبالة باب الدار. لكنها الآن تضحك وتنثني وتضرب كف صاحبها في ضياع. يتجمهر حولهن عديمو الضمير يتلفظون بالبذيء من القول ويسرون ما هو أعظم.
    عِزة تذل وعروض تهتك بسبب الجوع. لقد صدق حكماء قريته عندما قالوا أن الجوع كافر، لا تصمد أمامه الأعراض ولا العفة ولا الشرف ولا الفضيلة ما دام هناك من هم علي استعداد لاستغلال ظروف الفقر والفاقة للوصول إلي مآربهم الدنيئة.
    وصل محمد إلى صديقه عباس الذي اطلعه علي حجم المأساة. اخبره بأن الجفاف قد حطم كل شيء، وأن أهل حلة مرجي والقرى المجاورة لها قد نزحوا إلي هنا بعد أن حاصرهم الجوع وقضي علي بعضهم، وأن ظروفهم هنا سيئة للغاية. فترحم محمد علي روح والده الذي كان أول من سقط ضحيةً للجفاف.
    استجاب عباس لطلب محمد بأن يزور معه المنطقة التي تجمع فيها نازحو قريتهم، في الجانب الشمالي من مدينة الأُبيّض عند منطقة تسمي ( الغابة ). تلك المنطقة التي تمر عبرها السيول في وقت الخريف إلي الفولة الكبيرة في الجزء الشمالي من مدينة الأُبيّض، حيث نبتت عليها أشجار كبيرة عالية معتمدة علي مياه السيول الموسمية. لقد كانت المنطقة قبل نزوح هؤلاء الجو عي إليها، خالية، باعتبار أنها غير صالحة للسكن نسبة لمرور السيول عبرها ونسبة للحفر والأخاديد التي ظلت باقية علي سطحها.
    هكذا بقيت المنطقة خالية من السكن يستخدمها البعض عراءً للتبرز متخذين من جروفها وأخاديدها حواجز تحميهم من الأعين. كما يستخدمها بعض التجار كمناطق يعلفون عليها مواشيهم لتسمينها قبل وصولها إلي سوق الأُبيّض، ويرمون بالميت منها في تلك الحفر العميقة، حتى صارت للمنطقة روائح نتنه.
    استطاعت السلطات المحلية توجيه سيل النزوح المتدفق إلي هذه المنطقة إما شفقة عليهم من هجير الصيف بحيث يمكن أن يحتموا بظل الأشجار الكبيرة هناك، أو لعلها لا تريد تسربهم إلي داخل المدينة حرصاً منها علي عدم تشويه صورة المدينة التي لا زالت تفاخر بها علي أنها درة كردفان وعروس الرمال وإن دفنتها الرمال أقفر سوق محصولاتها وجفت زريبة مواشيها العامرة.
    ولعل من الأسباب التي جعلت من منطقة الغابة منطقة نزوح، هو وقوعها في الجزء الشمالي لمدينة الأُبيّض، فغالبية النزوح كانت تأتي من جهة الشمال حيث تنتهي رحلتهم عند موقف ( دار الريح ) الذي لا يبعد كثيراً عن منطقة الغابة. لكل هذه الأسباب مجتمعة أصبحت منطقة الغابة هي المنطقة الوحيدة المؤهلة لاستقبال النازحين. فنشأ المعسكر الكبير - معسكر النازحين.
    وصل عباس ومحمد إلي ( معسكر الجو عي ) حيث شاهد محمد أطفالا كالأشباح، رؤوسهم تبدو كبيرة، أضلاعهم بارزة، بطونهم منتفخة وكبيرة، رقابهم رقيقة وسيقانهم رقيقة وكأنها لا تكاد تقوى علي حملهم. لاحظ محمد نساء وقد تهدلت ثُديَهن حتى بدت كقطع لحم علقت علي صدورهن، شيباً أصابهم الذبول، وأطفالاً يموتون وذويهم ينتحبون إلي جوارهم. رائحة المعسكر كريهة، إذ تمارس فيه كل ضرورات الإنسان، فهو بيت للسكني ومرحاض للتبرز، ومقر للاستحمام، إن كان هناك استحمام، ومحل للأكل وكل شيء. لقد كان الوضع مذرٍ للغاية. وتذكر محمد حال أسرته عندما تركها فحن قلبه كثيراً.
    وجد محمد بعض الأسر التي يعرفها، كانت أكثرها قرباً له هي أسرة خاله المرحوم حسنين. وجد ابنهم طريح الفراش، بطنه منهمرة وأضلاعه بارزة. حكت زوجة خاله، كيف أن الوضع المعيشي قد ضاق بهم هناك في القرية، وكيف أنهم كانوا ينتظرون صدقات الموسرين ووعود الإغاثة التي لم تأت تشبثاً بالأرض واتقاء لركوب المجهول، ولكن أخيرا لم يبق أمامهم بد من الرحيل. حكت له كيف أنها أخرجت القطعة الذهبية الوحيدة التي ادخرتها لمثل هذه الظروف أودعتها لدى التاجر نظير ثمن تذكرة السفر، لها ولأطفالها الثلاثة، من القرية إلي الأُبيّض. ثم حملوا أمتعتهم البالية : قطعة شملة قديمة يفترشونها عند اللزوم، وبقايا (مخلاية ) قديمة صنعت من جوال بلاستيك متسخة ومهترئه بها بعض الفتات - دقيق ذرة قليل، نذر يسير من الزيت وأكياس مربوطة علي نفسها في شكل صرر صغيرة بها ويكة وملح وشطه - بقايا (شبكة ) قديمة صنعت من الحبال بداخلها (جركانة) صغيرة بها ماء وصحنين وكوب للشرب و(حلة) كبيرة بداخلها أخرى اصغر منها ظهورهما سوداء اثر وضعها علي النار وثلاثة أو أربعة جلود لماعز طويت بعناية ليسهل حملها - وهي آخر ما بقي لهم من الماعز التي نفقت بسبب الجفاف والجوع، وشنطة حديدية تقشر طلائها أصاب الصدأ أسفلها، بها ثياب قديمة وقليلة وبرش مطوي ومربوط من نصفه وبعض الأشياء الأخرى التي لا قيمة لها، تشكل في مجموعها ما يملكون من متاع الدنيا الفانية. حملوا كل ذلك وتوجهوا إلي هنا.
    حكت له كيف انهم عانوا من مشاق السفر وألم الجوع في الطريق حتى وصلوا إلي الموقف الكبير في طرف المدينة لا يعرفون اتجاه. حكت له كيف انهم قضوا ثلاثة أيام بلياليها دون أن يجدوا ما يسدون به الرمق، ويبقي الفضل في أنهم تمكنوا من شراء بعض أعواد القنا، واستعانوا ببعض فروع الشجر اليابسة فحفروا لها وثبتوها إلي اعلي، فكونوا منها هيكلاً صغيراً في شكل نصف كره ونشروا عليه قطعة (الشملة ) التي كانت معهم، فصار هذا الموقع الذي يراه : بيتاً يقيهم الحر وعيون المارة بعد أن قضوا ثلاثة أيام يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، فشعروا بالأمان والاستقرار والدفء داخل بيتهم الجديد. ورغماً عن ذلك فإن لياليهم لم تكن هانئة يسعدون فيها بالنوم العميق، فهناك بكاء أطفال جياع في القباب المجاورة لهم، وهناك نواح لأمهات مات أطفالهن، وأنات لا تنقطع حتى الصباح. عندما تضيف زوجة حسنين كل ذلك إلي قلقها علي المجهول وخوفها علي مصير أبنائها فإنها تبقي دامعة العين ليل نهار لا ينعم لها جفن بالنوم حتى الصباح. حكت له أن أحد أبنائها لم يبارحه الإسهال والتقيوء منذ مجيئهم وحتى اسلم الروح لبارئها، وان أخاه الذي يصغره، يجاهد الآن هو الآخر وهو طريح الفراش بنفس الأعراض السابقة. دمعت عينا محمد وغشيتهما غشاوة عندما تابعت بأسي قائلة :
    -وهاأنذا قائمة بينهم أشهد موتهم البطيء، قليلة الحيلة ولا حول لي ولا قوه.
    نظر إليها محمد في رثاء وقد بهت لونها من الحزن وتقرح جفنها من البكاء، فقد تكاثرت عليها نوائب الدهر دون معين : غربة، موت أبنها والمجهول الذي ينتظر إخوانه. كان محمد يستمع إليها بحزن دون أن ينبس بكلمة، وقد علت جسده قشعريرة، شعر علي إثرها بشعر رأسه تقف كل واحدة منتصبة علي حده. كان يرى الواقع الأليم ولكنه لا يملك حيلة هو الآخر. وكان ذهنه يفلت بين الفينة والأخرى إلي حيث اخوته ووالدته هناك في الريف البعيد، حيث الموت والجوع.
    من بين الذين تعرف عليهم محمد كانت بتول، سألها محمد عن أحوالها، ولما لم تبادر بتول بالإجابة من تلقاء نفسها سألها محمد عن بنتها الأخرى التوأم التي تركها معها بالقرية، أخبرته بتول بأسي بأنها ماتت في الطريق، حكت له بأنها لم تعرف بموتها إلا عندما رفعتها عند الصباح من مرقدها فأحست بأنها ثقيلة علي غير العادة لتعرف أخيرا الحقيقة الفاجعة. كثيرة هي الأسر التي فقدت أطفالها وشيوخها.
    تجول محمد في المعسكر ينظر بأسي وحرقة لتلك المساحات الواسعة التي قطتها الرواكيب والقباب من الجوالات والأقمشة البالية و( الشمال ) والكراتين تراصت قريبة من بعضها البعض تعج بالبشر كأعشاش الطيور. بالرغم من صغر هذه المنازل وتزاحمها إلا انه كانت تمارس فيها الحياة الفقيرة البائسة وبها محارم ونساء. المنطقة مكشوفة لا شيء يقيها البرد والمطر وتقلبات الظروف الطبيعية، تراها ليلاً هامدة وقد أوقدت فيها نيران صغيرة ومتفرقة بعدد هذه البيوت يقلى أهلها علي النار ما جاد به نهارهم المكدود.
    ناولته بتول خطاباً من والدته، فكانت فرحته به عظيمة وأن كان القلق يساوره وتزداد لهفته لمعرفة ما فيه. لقد كانت والدته تشرح الأحوال في القرية وأحوال المعيشة التي أصبحت صعبة :
    - ( يا محمد يا ولدى الحالة بقت صعبة.. البهائم العندنا كلها ماتت، الماعز انتهت كلها والضان الباقي منها ثلاثة فقط، ورخيصة جداً في السوق، هذا إن وجد من يرغب فيها، ضعيفة وهزيلة وما عندها مستقبل اكثر من أن تموت بالجوع. ما في ليها بيع، والأحسن موتها من السعر الذي تباع به في السوق. الحمارة ماتت، وولدها ما بقدر يقوم إلا يرفعوه، لا بركِّب لا بشيل قربة الموية للبيت، ورودنا إلي البير في رسينا. السوق غالي زي النار وفي أيدي ما في قروش، الإغاثة ما موجودة وما مضمونة. بعد مرات تتم شهر وبعد مرات ما تجى خالص. الجماعة كتيرهم نزح إلي الأُبيّض وأم درمان والبلد صعبة خالص والمرض منتشر وما معروفة الأقدار. الخريف لسع والمستقبل ما معروف. الغربة يا ولدى بلا فائدة ما ليها لزوم، ارجع تعال الحلة والبحصل يحصل لينا جميع ونحن في مكان واحد).
    قضي محمد الليل كله ينتحب ويتقلب دون نوم، لم تفارقه كلمات والدته في الخطاب، بات الليل يجتر ذكريات الحلة في قلق عميق علي والدته وإخوانه، ويستعرض المأساة الفاجعة التي لاحظها صباح اليوم. الشباب من الجنسين من أبناء قريته والقرى المجاورة تائهون في المدينة يحاولون التكيف مع أسلوب الحياة الجديد والغريب عليهم، فدخلوا المدينة باحثين عن العمل الشريف، وبما أنه لم تكن لهم سابق خبرة بالعمل في المدينة فقد اشتغل اغلبهم في السوق بأعمال هامشية كبيع الماء أو الاتجار في بعض الأشياء البسيطة، حيث كان بعضهم يشترى القليل من الخضر، كالبصل أو الليمون ويقوم بعرضها علي رصيف الشارع قرب سوق الخضار في شكل أكوام صغيرة. ولعل اغلب الذين سلكوا هذا الطريق كانت لهم سابق معرفة بالمدينة وإن كانت طفيفة. أما الذين لم يسبق لهم أن رأوا أو زاروا المدينة فقد كانت مشاكلهم اكبر، وإمكانية حصولهم علي عمل شريف مُكسِب أشد صعوبة. فهم بطبيعة تربيتهم الميالة للخجل وعزة النفس انبنى بينهم وبين التعامل في السوق جداراً سميكاً يصعب اختراقه، فهم لا يستطيعون بيع الخضار مثلاً، لان ذلك يحتاج إلي جرأة وشطارة واقتحام وصياح بمزايا المعروض وتعديد فوائده لجذب الزبائن، وأسلوب معين في المفاوضة يجبر الزبون علي الشراء، الشيء الذي ترفضه فطرتهم القروية البريئة، لهذا فقد اتجه معظمهم إلي الأعمال الشاقة التي تعتمد علي العضل، فكان بعضهم يحمل كوريكاً وحفارة ويتجول في الأحياء علي استعداد لردم أو حفر أي موقع داخل أو خارج البيوت وبأبخس الأثمان. بعضهم عمل مع المقاولين في البناء ينقلون الرمل ويناولون الطوب، لقد كان الحصول علي مثل هذه الأعمال أيسر من سابقتها، فما علي طالبها إلا أن يلبس زي العمل ويحمل معداته ويجلس عند القهوة الكبيرة وسط السوق والتي تعارف المقاولون على اخذ العمال منها. فكان بعضهم يجلس محتاراً في تلك القهوة حتى منتصف النهار في انتظار رزقه الحلال، ومنهم من عمل حمالاً أو عتالاً في المواقف العامة. أما الفتيات فقد عمل بعضهن ببيع الشاي في المواقف العامة ومواقع التجمعات المختلفة، يحملن حطام وبقايا أخلاقهن الريفية، ويقاومن كابوس الشر وخطر الانزلاق في معاناة بالغة بينما انزلق بعضهن بالفعل، بينما اشتغل بعضهن كعاملات في البيوت يغسلن الملابس وينظفن الغرف والحمامات ويغرفن البالوعات ويحتملن سخافات المخدمين ورزالاتهم. وقد كانت المشكلة اكبر بالنسبة للأطفال والشيوخ، فقد انتشر الأطفال في مواقع القمامة ومحلات بيع الخضار يلتقطون المتعفن منها ويفترسون الفتات، أما الشيوخ فقد اتخذ بعضهم من بوابات المساجد وشوارع السوق مقراً يقومون فيه بواجبهم اليومي في الدعوة بالتوفيق والبركة لفاعلي الخير والمحسنين. بعضهم كان اكثر نشاطاً وحيوية مكناه من التجوال علي المحال التجارية في الأسواق يمدون أيديهم في ذله وانكسار وبقايا عزة وكبرياء جريحة تمور داخل نفوسهم الأبية، فترسم شيئاً من الخجل والتردد علي وجوههم. بات محمد ليلته مسهداً يجتر كل ما لاحظ، وما حُكي له.. فقرر الرحيل.
                  

العنوان الكاتب Date
رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-04-03, 01:18 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-04-03, 01:20 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات ahmad almalik08-04-03, 02:55 PM
    Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-04-03, 04:08 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-10-03, 09:01 AM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-21-03, 06:55 AM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات ahmad almalik08-28-03, 01:08 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-28-03, 04:49 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Nada Amin08-28-03, 10:07 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-29-03, 12:39 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Nada Amin08-29-03, 03:56 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-29-03, 09:04 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Nada Amin08-29-03, 09:31 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات bushra suleiman08-29-03, 11:40 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-30-03, 08:26 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de