ادوارد الخراط يحكي عن ابداعه

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-26-2024, 07:11 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-09-2003, 08:14 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
ادوارد الخراط يحكي عن ابداعه





    الاحد 8 حزيران 2003



    --------------------------------------------------------------------------------






    هنا وهناك

    أحب أن يأتي التاريخ على ذكري في صفحة لا يشاركني فيها أحد

    رسالة من كاتب فلسطيني الى العراقيين سامحونا - زياد خداش

    معرضان وكتاب لبول واكيم - جوسلين الراعي حاتم

    بيوخرافيا في وداع الماضي - بلال خبيز

    حسد الـمطربين - هـدى طـه

    في أحوال الذاهبين الى بغداد بصفتهم أبطالاً - فاروق يوسف

    حكيم النوم - عقل العويط

    كنتُ أذهب الى سينما ماجستيك - أمين الباشا

    الخامس من حزيران - الياس خوري



    الدليل

    الملحق الثقافي

    سلامتك

    الاغتراب اللبناني


    --------------------------------------------------------------------------------

    الصفحة الرئيسية

    مساعدة




    أحـب أن يــأتــي الـتــاريـخ عـلـى ذكــري فــي صــفـحـة لا يـشــاركـني فـيـهـا أحــد

    إدوار الـخــراط: أؤرخ لأشـــواق الـروح وأشـــواك الـمـجــتـمـع

    تـأثـرتُ بـجـبـران حـتـى الـتـيـه لا بـالمـنـفـلـوطـي والـعـقـاد وطــه حـســيـن



    هذا الحوار حصيلة لقاء طويل أجراه "الملحق" مع الروائي ادوار الخراط، في مناسبة مجيئه الى بيروت وإلقائه محاضرة "أيار التذكارية" في الجامعة الأميركية في بيروت ــ برنامج أنيس الخوري المقدسي. وفيه يستعيد محطات من حياته وتجاربه ملقياً الضوء على جوانب كانت خافتة ومقيمة في الظل. وقد ارتأينا تقديمها كشهادة "محرَّرة" من الاسئلة. شارك في الحوار الياس خوري واسعد خير الله وماهر جرار وعقل العويط وحرره محمد ابي سمرا.

    قالت لي أمي: انتَ رضعتَ لبن الحزن.(وسام موسى)



    1

    ولدت في 16 آذار 1926 في حي بجنوب الاسكندرية قريب من منطقة تسمّى بحيرة مريوط. كان معظم المقيمين في ذلك الحي من الفئات الشعبية القادمة من الصعيد الى الاسكندرية. العمران ونمط الحياة فيه أقرب الى الريف منهما الى المدينة: شارع واحد رئيسي مفروش بالاسفلت يسير فيه الترام وينتهي الى قسم البوليس. وشوارع أخرى مفروشة بالحجار والرمل الابيض. البيوت كلها من طبقة واحدة او اثنتين، على سطوحها عرائش من العنب. وقد وصفت ذلك الحي في مقاطع من روايتي "ترابها زغفران". على ناصية الشارع الرئيسي كان منزل الخياطة اللبنانية السيدة روز التي تشتغل عندها فتيات في خياطة الثياب.

    في الجلسات العائلية على سطح بيتنا تحت عرائش العنب، كانت جدتي وخالتي ترويان الحكايات عن الجن والعفاريت. ولكثرة ما سمعت هذه الحكايات في طفولتي، كان الطفل الذي كنته يحسب ان جنيات الحكايات وعفاريتها كائنات حية، ومن لحم ودم. كنت في السادسة او السابعة من عمري حين التقيت مرة في الليل امرأة عجوزاً فقيرة في شارع مهجور قريب من بيتنا، فأيقنت انها عفريت من عفاريت الحكايات. لم تتلفظ المرأة - العفريت بكلمة واحدة، لكني لا ادري إن كنت وقفت جامداً قبالتها دقيقة واحدة او 24 ساعة، قبل ان أروح اعدو هارباً بأسرع ما استطعت للوصول الى بيتنا، حاملاً في جوارحي ووعيي ومخيلتي الطفلية التجربة الأولى في الاتصال بقوة عالم الغيب في ما وراء الواقع والمحسوس.



    من اليمين: محمد أبي سمرا، عقل العويط، ادوار الخراط، أسعد خير الله والياس خوري.

    2

    "روضة الكرمة القبطية" كانت المدرسة الأولى التي تعلمت فيها، وامشي نحو خمس دقائق من بيتنا للوصول اليها، وكان ناظرها منصور افندي شخصية حاسمة في تكويني الأول: رجل شديد الطيبة والحزم في آن واحد، ينظمنا صفوفاً في الصباح - نحن تلامذة المدرسة الأقباط مع قلة من المسلمين - لنروح ننشد ترنيمة "أبانا الذي في السموات"، قبل ان يبدأ برواية قصص شهداء القبط، وفي مقدمهم القديس مرقص، مؤسس الكرازة او الكنيسة القبطية، الذي تصف الحكاية استشهاده دفاعاً عن العقيدة وصفاً درامياً: قام الرومان بربط ذراعيه وساقيه الى عربة يجرها حصان أخذ يجري سريعاً بعد ضربه بالسياط، فتمزق جسم القديس مرقص أشلاء، وتركت هذه الحكاية أثراً لا يمحى في نفسي وقلبي.

    اضافة الى "روضة الكرمة القبطية"، هناك مدارس الأحد التي كانت مس كاترين تعلمنا فيها الترانيم الدينية. لا أزال حتى الساعة أذكر مس كاترين الشبيهة صورتها بصورة مريم العذراء، فيما كانت تلقننا الترانيم. وفي واحدة من مدارس الأحد بدأ الطفل الذي كنته يقرأ الكتاب المقدس من دون ان يتنصر عبر طقوس العمادة. والى القراءة والترانيم، كانت توزع علينا نحن التلامذة الأطفال بطاقات مصورة مكتوبة عليها عبارات بالقبطية والعربية. كانت تلك البطاقات تروي بالصور حكايات من التوراة والانجيل، بدءاً بآدم وحواء وملاك النار الذي يحمل سيفه الناري الاسطوري. لم تكن تلك الصور او اللوحات عادية في عيني ذلك الطفل الذي كنته، اذ خبرت فيها معنى الألوان وتذوق التشكيل الفني المرتبط بالموضوع الديني. لاحقاً قرأت العهدين القديم والجديد، وتعرفت الى قصة صلب السيد المسيح الذي كان مأساة حقيقية حميمة في بيتنا، رغم ان عائلتي لم تكن متدينة الا تديناً تقليدياً، فيؤدي أفرادها فرائض الصوم من دون الصلوات. لكن الكتاب المقدس كان تأثيره كبيراً عليَّ، لأنه كان كتاب الوفيات والزيجات والولادات العائلية التي كان والدي يحرص على تدوين تواريخها عليه.



    3

    قدم والدي الى الاسكندرية من أخميم في الصعيد، مخلّفاً وراءه زواجه من امرأتين. تزوج الاولى في أخميم مسقطه، وبعد وفاتها انتقل الى الفيوم، حيث تزوج من امرأة ثانية دفعته وفاتها الى الانتقال الى الاسكندرية، حيث تزوج والدتي التي كانت شديدة الغيرة على زوجها من زوجتيه السابقتين المتوفيتين وأهلهما الذين تشدّدت في قطع علاقة والدي بهم وبماضيه، باعتباره رجلاً مزواجاً.

    قبل قدومه الى الاسكندرية كان والدي تاجراً في الفيوم يعمل في تصدير البصل والبيض، وكانت تجارته مزدهرة هناك قبل تعرضه للافلاس في ازمة ،1936 مما اضطره الى العمل كاتب حسابات عند اصدقائه التُجار في الاسكندرية حتى وفاته. الذكرى الأقدم والأقوى لديّ عن والدتي هي العبارة التي طالما كانت ترددها على مسمعي في طفولتي قائلة: انت رضعت لبن الحزن. ذلك لأني ولدت بعد 19 يوماً من وفاة اخي الذي ولد قبلي بسنة او سنتين في الاسكندرية، فنذروني كي يجري تنصيري في أخميم التي كان لعلاقتي بها تأثير كبير في حياتي، قبل ان أعرفها وتطأها قدماي.

    واذ كنت قد ولدت لأرضع لبن حزن والدتي على وليدها البكر، فإني في العاشرة من عمري، صحوت ذات صباح من نومي في بيتنا على صياح والدي النائح: ولدي... ولدي... ولدي، لحظة وصله خبر مقتل ابنه البكر من احدى زوجتيه السابقتين، بعدما دهسه قطار.

    كان عمري نحو ست سنوات حين أخذني أهلي الى اخميم لايفاء النذر بتنصيري وتعميدي هناك. أذكر ان الرحلة كانت شاقة في القطار، وعن سلّم بيتنا الذي كان بلا سياج في اخميم سقطت فأصبت بجرح بليغ في ركبتي، لم يندمل أثره حتى اليوم.



    4

    في أثناء الحرب العالمية الثانية، كانت الاسكندرية تُضرب بالقنابل، عندما قرر والدي أن يرسلنا، أمي وأنا واخوتي واخواتي، الى مسقطه في أخميم، ويظل وحده منصرفاً الى عمله في الاسكندرية. كان ذلك في العام 1940 او العام الذي تلاه، فاستغرقت رحلتنا في القطار نحو 17 ساعة للوصول الى اخميم بين المنيا والأقصر في الصعيد.

    في اخميم انصرفت الى قراءة شكسبير وشيلي ويتس في اللغة الانكليزية. وربما في تلك الفترة بدأت بمحاولات الترجمة الاولى لبعض القصائد من الشعر الانكليزي. وقبل ذلك، في الاسكندرية، كنت قد قرأت مؤلفات جبران خليل جبران الذي تأثرت به حتى التيه والهيام، على عكس المنفلوطي والعقاد وطه حسين الذين قرأت مؤلفاتهم من دون ان يتركوا فيّ أثراً يذكر.

    طوال أيام الاجازة الصيفية، بدءاً من العام ،1938 انصرفت كلياً الى القراءة والمطالعة اللتين تعبدت لهما منصرفاً عن الذهاب الى البحر ولعب الكرة وغيرها من الألعاب التي كان يمارسها اصدقائي واترابي في المدرسة. أقول قارئاً نهماً واعني اني كنت في الصباحات افتح باب المكتبة البلدية في الاسكندرية مع موظفيها، ومعهم اقفل بابها واغادرها في المساء. وقد جعلتُ لقراءاتي منهجاً صارماً، اذ وضعت قائمة بأسماء الكتّاب نظمتها بحسب التسلسل الأبجدي. كانت القائمة تبدأ باسم ابرهيم، ويليه أحمد، ثم أسعد... الخ. وحين كنت أفرغ من قراءة مؤلفات الاسم الأول، انتقل الى مؤلفات الاسم الثاني فالثالث... حتى نهاية التسلسل الأبجدي.

    واذا كان جبران هو كاتبي المفضل بالعربية آنذاك، فإن التأثير الأول عليّ من كتّاب الخواجات (الأجانب) مارسه الشاعر الانكليزي شيلي. واذا قلت أني قرأت روايات جرجي زيدان في تلك الفترة، فان أثرها فيّ لم يكن يذكر، قياساً الى كتابات جبران الذي تعبّدت في محراب أدبه.

    لم تستمر اقامتنا في أخميم أكثر من أشهر معدودة في نهايات الحرب الثانية، عدنا بعدها الى الاسكندرية، حيث قررت ألا أزور أخميم قبل أن أكتب رحلتي اليها ومشاهداتي فيها. وهذا ما فعلته لاحقاً في كتابي "صخور السماء". لقد حرصت على ألا ازورها كي لا أشوه تلك الصورة الأولى الغريبة التي رأيتها عليها اثناء لقائي الأول بها. ومن زيارتي الأقدم الى أخميم استعدت في "صخور السماء" اطياف طقوس تنصري وتعميدي في كنيستها استعادة دقيقة كاملة.



    5

    درست الحقوق في جامعة الاسكندرية. ذلك ان والدي، صاحب الميول السياسية الوفدية، كان راغباً في أن يراني رجلاً على صورة مكرم عبيد باشا ومثاله، ما دام عبيد هذا نائب سعد زغلول، زعيم حزب الوفد. لكن السياسة كانت حاضرة ايضاً في عائلتنا من جهة عائلة أخوالي الذين كان أحدهما في جماعة "مصر الفتاة"، وكان الآخر من انصار نبيل عباس حلمي. أما اليسار الماركسي او الشيوعي الذي كان حاضراً بقوة في مصر العشرينات فقد غاب تماماً عن مسرح الحياة السياسية في الاربعينات.

    في اثناء دراستي الجامعية، وبعد سنتين او ثلاث من تخرجي من الجامعة، كنت عضواً مؤسساً لحلقة تروتسكية ظللت سكرتيرها العام حتى .1948 في تلك المرحلة من حياتي غرقت حتى الثمالة في الاجتماعات والمناقشات والتظاهرات واصدار البيانات وكتابة المنشورات التروتسكية، فأصدرنا مجلة "الكفاح الثوري" التي كنا ننسخها على الآلة الكاتبة ونوزعها على الاعضاء والاصدقاء.

    حين أنظر اليوم الى الوراء مفكراً في دوافع انتمائي الى تلك الحلقة من يسار اليسار، أجد ان شعوري بالظلم وفقدان العدالة كانا في اساس دوافعي العاطفية والوجدانية البعيدة. وكان مصدر احساسي بأن العالم من حولي ليس عادلاً، بل ظالم، أمرين اثنين: فقداني خالتي واخويّ وأختيّ الذين خطفهم الموت على نحو متواتر او متتابع. فالثلاثينات والأربعينات كانت حقبة سيئة وقاسية، عموماً، على الصعيد الصحي، اذ كانت الامراض والاوبئة، كالتيفوئيد، تفتك بالناس فتكاً متمادياً، لعدم توافر الأدوية، خصوصاً المضادات الحيوية.

    الأمر الثاني الذي يلازم الأول ويوازيه في دفعي الى اليسار، كان محنة الظروف المادية وقسوتها. فاليسر والرفاه اللذان عرفهما والدي قبل ازمة 1936 الاقتصادية الخانقة، انقلبا عسراً وضيقاً بعد تلك الأزمة، مما فاقم احساسي بالظلم واللاعدالة.

    أما العنصر الذهني او الفكري في يساريتي فيعود الى وقوعي في مكتبة الاسكندرية البلدية على مؤلفات كاتب في حروف السين، هو سلامة موسى الذي سحرتني كتاباته وانكببت على قراءتها كلها، في نهم شديد، وعرفت منه ماهية الاشتراكية ومعناها. وفي تلك الفترة وبعدها بقليل قرأت برنارد شو ثم ان صديقي جورج خوري أهداني كتاب "هكذا تكلم زرادشت" لفريديريك نيتشه، في ترجمة خاله فيلكس فارس، فكان تأثري بذلك الكتاب كبيراً.

    يعود تعرفي الى الأفكار الشيوعية والانكباب على قراءة المؤلفات الماركسية الى شاب سوداني اسمه خليل الآسي. لكن شيوعيتي التروتسكية جعلتني معادياً للستالينية والديكتاتورية كما لم أكن معادياً لأي شيء في العالم. وكانت الشيوعية التروتسكية جواباً شافياً عن احساسي بالظلم واللاعدالة، في جمعها بين الحرية والعدالة. ثم عرفت ان تروتسكي صديق للسورياليين والسوريالية، فيما كنت منكباً على قراءة الأدب السوريالي في ترجمة رمسيس يونان.



    6

    في العاشرة من عمري بدأت كتابة ما كنت أتصور انه الشعر، ومنذ ذلك الحين لم أتوقف عن الكتابة. وحين سألنا احد المدرسين، نحن تلامذة الصف، عما نحب ان نكون ونشتغل في المستقبل، اجابه أترابي: دكتور، طيار، مدرس، مهندس، فيما أجبته أنا بأني سأكون شاعراً، فأثار الأمر استهجان التلامذة. أما انخراطي في النضال والعمل السياسي، فكان يصدر عن واجب وضرورة، لا عن رغبة. لقد ملكت الكتابة رغبتي، وفيما أنا منخرط في العمل السياسي والنضال، كنت مدركاً اني أؤجل الكتابة حتى تحقيق العدالة والاستقلال عن الانكليز وزوال الاحتلال واقامة الاشتراكية. لكن هذه الأحلام كلها انجلت عن اعتقالي ضمن حملة اعتقالات واسعة مع إعلان الأحكام العرفية في أيار ،1948 وطاولت جميع الفئات اليسارية والوفديين. وفي المعتقل تلاشت العداوة بيننا نحن التروتسكيين وبين الشيوعيين، فتآخينا وتعاونّا، حيث التقيت مصادفة هنري كورييل في معتقل هاكس تسام في القاهرة. رأيته من بعيد من دون أن أكلمه أو يكلمني. كان نحيلاً رقيقاً يلبس الشورت وينتعل صندلاً ويتحرك طوال الليل كالنحلة.

    أمضيت في المعتقل عشرين شهراً، وخرجت منه في العام ،1950 وكان والدي قد توفي. وفي النوادي رحت ألقي محاضرات عن السوريالية والوجودية فتعرفت الى أنور كامل ورمسيس يونان. لكن كان عليّ أن أبحث عن عمل ما أكسب منه معيشتي، فأهداني اليه صديق تعرفت اليه في المعتقل، وكان العمل موظفاً صغيراً في "شركة التأمين الأهلية". ونبهني صديقي ذاك بألا أقول أني أحمل اجازة في الحقوق، لأن العمل المطلوب في الشركة لا يتجاوز الإلمام باللغتين الفرنسية والعربية والضرب على الآلة الكاتبة. وبعد مقابلتي المسؤول في الشركة، وقع نظري في أحد مكاتبها على فتاة جميلة رقيقة من موظفاتها، وكانت تلك النظرة العابرة فاتحة وقوعي في صفقة غرامية برفيقة حياتي التي تزوجتها عام .1958



    7

    في أثناء عملي في الشركة وإلقائي المحاضرات في نوادي الاسكندرية، كنا نلتقي في المقاهي، حيث تدور بيننا المناقشات حول ثورة الضباط الأحرار الناصرية. وكان الأبرز في تلك المناقشات رأيان اثنان في ثورة .1952 الأول يعتبرها ثورة ديموقراطية. أما أنا فقد ملت الى الرأي الثاني الذي كان يعتبرها انقلاباً عسكرياً على طريقة الانقلابات في بلدان أميركا اللاتينية. ومنذ الأيام الأولى للثورة حتى تأميم قناة السويس سنة ،1956 لم يتبدل رأيي في تلك الثورة. وقد يكون الخطأ الكبير الذي ارتكبته هو تصالحي مع الناصرية في أعقاب قرار التأميم. لكن برغم تلك المصالحة، ظل موقفي الشخصي من جمال عبد الناصر ملتبساً. إذ ظللت اعتبر الجانب العسكري في الثورة الناصرية سيئاً، لأن ما أتت به من انجازات ظلت فوقية لعدم صدورها عن الناس وهذا ما أكده انهيار تلك الانجازات مع موت الزعيم المصري.

    عام 1955 ضربني اليأس والقنوط من عملي موظفاً صغيراً في شركة التأمين، لأعيل بالراتب الذي أتقاضاه أمي وأخواتي الأربع. كنت أشتعل حنيناً الى الكتابة التي منعني عنها الدوام الوظيفي المرهق، ففكرت في الاستقالة من الشركة، وأقدمت عليه. ومن التعويض المالي الذي تقاضيته رحت أعطي والدتي راتبي الشهري، كما لو أنني لا أزال موظفاً. في تلك الفترة كنت أمضي وقتي مداوماً على المكوث في أتيليه الاسكندرية التي يديرها أحمد مرسي، منصرفاً الى الكتابة والترجمة، فكتبت "حيطان عالية" وترجمت بعضاً من أشعار أيلوار ومؤلفات تشيخوف وكامو. وشهراً بعد شهر راح التعويض المالي يتناقص وينفد، فلم يعد في مستطاعي تقديم راتبي الشهري لوالدتي، فأجبرت على إعلامها بأني تركت وظيفتي في الشركة.

    الضيق المادي الذي عشته آنذاك كان شديداً، فرحت أترجم براءات الاختراع في الميكانيكا والكيمياء لإحدى الشركات، مما أثرى قاموسي اللغوي. وفي الأثناء بدأت أبعث لأصدقائي رسائل استغاثة لمساعدتي في البحث عن عمل، حتى وصلتني ذات يوم رسالة من صديقي ألفرد فرج يطلب مني فيها الحضور فوراً الى القاهرة للعمل مترجماً في السفارة الرومانية، فغادرت الاسكندرية متوجهاً الى القاهرة في العام .1956

    أثناء عملي مترجماً في السفارة الرومانية بادرت الى انشاء جمعية الصداقة المصرية - الرومانية التي رعت انشاءها هيئة من أبرز العاملين في الحقل الثقافي في مصر: يوسف السباعي الذي كان رئيس المجلس الأعلى للفنون والآداب، ومحمد مندور ويحيى حقي وفريد أبو حديد وعلي باكثير. ثم أصدرنا مجلة عن الجمعية التي تركت العمل فيها عام 1959 لأعمل، بمبادرة يوسف السباعي، في قسم الشؤون الفنية لجمعية تضامن الشعوب الافريقية - الآسيوية، وكان مدير شؤون هذا القسم رمسيس يونان الذي عملت الى جانبه جامعاً بين فوضوية الفنان وعقلانية الرجل الإداري.



    8

    في يوم من عام 1968 جاء الى منزلي جمع من الاصدقاء بينهم احمد مرسي وابرهيم منصور، وطلبوا مني العمل في تأسيس "غاليري 68"، على ان ننشىء صالة للعروض الفنية والتشكيلية، ومجلة ثقافية - أدبية يجري تمويلها من عائدات بيع اللوحات التشكيلية في صالة العرض، ومن اشتراكات الاعضاء. وكان الفريق الأساسي الذي عمل في اصدار المجلة، أحمد مرسي وابرهيم منصور وغالب هلسا وسيد حجاب وجميل عطية ابرهيم وأنا. وفي ثلاث سنوات صدر من المجلة ثمانية أعداد من دون انتظام. وقامت "غاليري 68" بنشر نصوص قصصية لمحمد البساطي وجمال الغيطاني وغيرهما من ادباء الستينات الذين كانت المجلة منبراً لكتاباتهم.

    والغريب ان جيل الستينات من الروائيين والقصاصين والادباء الذين تحلقوا حول "غاليري 68" كانوا أصغر مني سناً وعايشت انطلاقتهم، من دون ان أكون منتمياً الى جيلهم الادبي، ولا الى غيرهم من الأجيال السابقة. كأنني دائماً كنت مضيّعاً انتمائي الى جيل أدبي وثقافي وكتابي في عينه. ربما لأنني منذ الأربعينات أكتب من دون أن أنشر ما أكتبه، الا اذا طلب مني احد ما مخطوطة للنشر. وربما لأن تصنيف الكتّاب في أجيال وموجات لا ينطبق عليّ. فحتى في التصنيف الادبي الأكاديمي والجامعي لم أحسب على جيل الستينات او غيره.

    قد أكون من التيار الروائي والقصصي الذي سُمّي تيار ما بعد المحفوظية وجمع مروحة واسعة من الكتاب المصريين مثل صنع الله ابرهيم وجمال الغيطاني وغالب هلسا وبهاء طاهر وعبد الحكيم قاسم، والجامع المشترك بين هؤلاء هو التمرد على القواعد المحفوظية في الكتابة القصصية والروائية وكسرها. أما العنصر الآخر الجامع في هذه التجارب الكتابية، فقوامه احساس هؤلاء الكتاب بأن هناك خطأ ما في التجربة السياسية - الاجتماعية للناصرية، خصوصاً بعد الكارثة التي تكشفت عنها هزيمة .1967 ورغم ان نقد الناصرية لم يصل الى ادانتها ادانة مباشرة وصريحة، فان الحذر والتوجس من شعاراتها كشفا خواءها في مقابل القمع السياسي والثقافي للسلطة السياسية. وهذا ما انعكس في الأعمال الأدبية للكتاب والروائيين.



    9

    كروائي، اعتبر نفسي مؤرخاً لأشواق الروح وأشواك المجتمع. لكن التأريخ الاجتماعي وغير الاجتماعي يحضر في وصفه عنصراً داخلياً في السياق الروائي والمشهد الروائي. وأظن ان التأريخ الحقيقي او الفعلي متضمَّن في الأعمال الروائية. أما السيرة الذاتية فموجودة على نحو ما في كل رواية وقصة وقصيدة ولوحة تشكيلية، وفي كل عمل فني على وجه العموم. أما كيفية تجلي حضور السيرة الذاتية في الأعمال الفنية، فمسألة غير قابلة للتقنين في قواعد ثابتة ومحددة. والذي يُخرج السيرة الذاتية، او الشرائح والمقتطفات المستخدمة منها، عن كونها سيرة ذاتية، اندماجها بالمتخيل الفني في العمل الروائي. فاستلهام وقائع وحوادث معينة، وكذلك استلهام مقتطفات من السيرة الذاتية، أمر طبيعي وعادي في الفن الروائي، شرط ان يجري استدخال هذه الاستلهامات في المتخيل الروائي. وعلاقة الذاكرة بالخيال معقدة. وربما يلازم التخييل عمليات التذكر كلها. وهنالك خيال منفصل او منقطع عن عمليات التذكر.

    حين أقول ان السيرة الذاتية تدخل في الأعمال الروائية لا أقصد ان الرواية سيرة ذاتية مقنّعة، بل ان الفعل الروائي يستلزم تحويل مقتطفات من السيرة الذاتية وتحويرها على نحو ملائم للبناء الروائي.

    أعلم ان هناك كلاماً عن روائيين يخلقون شخصيات روائية تروح تتفلت منهم وتستقل عنهم، فلا يتمكنون من السيطرة عليها. لا أظن ان هذا الكلام حقيقي ودقيق. فالروائي خالق شخصياته، والمسؤول عن نموها وتحولاتها ومصائرها. والمخطط الروائي الذي أضعه قبل البدء بكتابة رواياتي، عام غير تفصيلي لا يتجاوز الصفحة او نصف الصفحة فقط ومعظم رواياتي كتبتها مرة واحدة فقط، لأني حين أشرع في الكتابة تكون الرواية مكتوبة في ذهني او في مخيلتي قبل مباشرة كتابتها. اما ما أقوم به من حذف وتقطيع واضافة وتبديل، فأجريه لاحقاً بعد الكتابة الأولى التي لا أعيدها. هناك بعض القصص والروايات التي كتبتها في البدايات أعدت كتابتها مرات كثيرة. أما لاحقاً فقد تعودت أن أكتب قصصي ورواياتي مرة واحدة فقط.



    10

    سوف يبدو كلامي متضمناً شيئاً من الصلف حين اقول أني أحب أن يأتي التاريخ على ذكري وحيداً في إحدى صفحاته، لا على صفحة يشاركني فيها غيري من الأسماء. هذا في حال كنت في عداد من سيأتي التاريخ على ذكر اسمائهم في صفحاته. فأنا أشعر أني وحيد ولا صلة وثيقة تجمعني بأحد.

    تصعب عليّ الاجابة عن السؤال إن كنت مؤمناً بالله أم لا. ذلك ان أبا العلاء المعري لو قيّض له ان يكتب "رسالة الغفران" مرة أخرى، لن يسألني عن ايماني بالله، بل عن الحس الديني لديّ. مثل هذا الحس يشغلني لأنه ينطوي على الاسئلة حول الوجود والمصير والموت، أقول هذا وأميز بين الأيمان والدوغما العقائدية والاسطورة، مع العلم ان الموت عندي هو نهاية الحياة.

    أما لو سألني أبو العلاء المعري إن كنت يسارياً، فأنني أجيبه بأني يساري في معنى الانحياز الى العدل والحرية. وأعني العدل الكوني المستحيل التحقق. واذا اعطيت فرصة ان أعيد كتابة ما كتبته مرة أخرى، فإني أعيد كتابته من دون ان أغيّر فيه شيئاً. أي أتركه على حاله لأن لديّ مشاريع كتابة كثيرة متراكمة عليَّ تنفيذها. وان كانت قد بدأت متأخراً في نشر ما كتبت، ومتأخراً أعلنت نفسي كاتباً، وما زلت أكتب مع تقدمي في السن، فإني على يقين بأن لا علاقة بين الكتابة والنشر. وانا الذي بدأت الكتابة في سن مبكرة، اعتبر ان لا معنى للنصائح في الفن. أي لا معنى لوصفة نقترحها ناصحين الكتاب بأن يبدأوا الكتابة في سن مبكرة او متأخرة من اعمارهم.

    أذكر أني كنت أكتب "رامة والتنين" وكان عليّ أن أحصل على اجازة من عملي في جمعية تضامن الشعوب الافريقية - الآسيوية التي كنت أعمل فيها لا كموظف، بل كفدائي لا يتوقف عن العمل طوال الساعات الاربع والعشرين من اليوم. لذا كنت أغادر القاهرة الى الاسكندرية، حيث انقطع تماماً عن الدنيا منصرفاً الى الكتابة. واذكر أني بعد انجاز مسوّدة "رامة والتنين" تركتها سنة او سنتين على حالها، قبل أن أعود الى العمل عليها حين طلب أحدهم مني أن أعطيه كتاباً للنشر. أروي هذه الوقائع لكي أقول ان الأمر نفسه تكرر في مرات أخرى مع قصص وروايات غير "رامة والتنين". لكني بعدما تقاعدت من الوظيفة في السابعة والخمسين من عمري، رحت أكتب بغزارة كبيرة. فرواية"الزمن الآخر"، مثلاً، كتبتها في مدة لا تتجاوز الشهرين. ذلك ان كل ما كتبته موجود بالقوة، قبل كتابته، بحسب العبارة البالزاكية.

    وإن سئلت ما هو الكتاب الذي قرأته من الأدب العربي والعالمي، وأحب أن أعيد قراءته بين مدة وأخرى، فإني لن أعثر على كتاب معين او محدد. قد يـشغفني احياناً أن أعيد قراءة بعض المقاطع من كتاب "الأبله" لدوستويفسكي. أما نيتشه فقد تأخذني رغبة في اعادة قراءة مؤلفاته كلها. اما كتاباتي فإني لا أطيق قطعاً إعادة قراءة أي شيء منها.

    واذا أعطيت فرصة ان انقذ خمسة كتب من كتبي كلها من طوفان أو حريق، فإني لن أنقذ سوى ثلاثة منها، هي "حيطان عالية" و"رامة والتنين" و"ترابها زعفران".



    إدوار قـــلـتـــة فــلـتـــس يـــوســــف الـخــــراط



    هو إدوار قلتة فلتس يوسف الخراط.

    وُلد في 16 آذار 1926 في الإسكندرية لأب من أخميم في صعيد مصر، وأمّ من الطرانة غرب دلتا النيل.

    حصل على ليسانس في الحقوق عام 1946 من جامعة الاسكندرية.

    عمل أثناء الدراسة عقب وفاة والده منذ عام .1943

    شارك في الحركة الوطنية الثورية في الاسكندرية عام .1946

    اعتقل في 15 أيار 1948 سنتين في معتقلي أبو قير والطور.

    تزوج عام 1957 وله ولدان وأربعة أحفاد.

    في عام 1959 عمل في منظمة تضامن الشعوب الأفريقية - الآسيوية ثم في اتحاد الكتّاب الأفريقيين - الآسيويين حتى العام ،1983 وأشرف على تحرير مطبوعات سياسية وثقافية لهما.

    سافر الى معظم بلدان أفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا في رحلات عمل.

    شارك في إصدار مجلة "لوتس" للأدب الأفريقي - الآسيوي وفي تحريرها، وفي مجلة "غاليري 68" الطليعية، ومطبوعات لكل من منظمة التضامن الأفريقي - الآسيوي واتحاد الكتّاب الأفريقيين - الآسيويين.

    ترجمت رواياته الى الانكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والأسبانية والأسوجية.

    له في الروايات والقصص:

    حيطان عالية (قصص).

    ساعات الكبرياء (قصص).

    رامة والتنين (رواية).

    اختناقات العشق والصباح (قصص).

    الزمن الأخير (رواية).

    محطة السكة الحديد (رواية).

    ترابها زعفران (نصوص اسكندرانية).

    أضلاع الصحراء (رواية).

    يا بنات اسكندرية (رواية).

    مخلوقات الأشواق الطائرة (رواية).

    أمواج الليالي (متتالية قصصية).

    حجارة بوبيللو (رواية).

    اختراقات الهوى والتهلكة (نزوات روائية).

    رقرقرة الأحلام الملحية (رواية).
    أبنية متطايرة (رواية).

    حريق الأخيلة (رواية).

    اسكندريتي (كولاج قصصي).

    يقين العطش (رواية).

    تباريح الوقائع والجنون (تنويعات روائية).

    عمل نبيل (مختارات).

    رقصة الأشواق (مختارات).

    صخور السماء (رواية).

    طريق النسر (رواية).

    مضارب الأهواء (قصص قصيرة).

    الغجرية والمخزنجي.



    إضافة الى إصداره دواوين شعرية ومجموعة من الدراسات النقدية والتشكيلية والترجمات.







    --------------------------------------------------------------------------------



    PDF Edition (Arabic) | HTML Edition (Arabic) | Listen to An-Nahar | Ad Rates | naharpost | Classified Ads | Archives | Contact us | Feedback | About us | Main | Help


    --------------------------------------------------------------------------------




    Copyright © 2003 An-Nahar Newspaper s.a.l. All rights reserved.
                  

العنوان الكاتب Date
ادوارد الخراط يحكي عن ابداعه osama elkhawad06-09-03, 08:14 PM
  Re: ادوارد الخراط يحكي عن ابداعه Yahya Fadlalla06-10-03, 01:10 AM
    Re: ادوارد الخراط يحكي عن ابداعه تراث06-13-03, 01:20 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de