|
Re: الطبيعة في شعر محمود درويش (Re: almohndis)
|
2
ففي مثل هذه المزاوجة بين صورة الارض والمرأة وهذه المزاوجة لا تتأتى لوجود العلاقة الحسية بل تنبع من المعاني النفسية التي يتركها ويخلقها مثل هذا الوصف والافتراض. اذا مرت على وجهي انامل شعرك المبتل بالرمل سأنهي لعبتي- انهي وامضي نحو منزلنا القديم على خطى اهلي واهتف يا حجارة بيتنا! صلي! اذا سقطت على عيني سحابة دمعة كانت تلف عيونك السوداء سأحمل كل ما في الارض من حزني صليبا يكبر الشهداء عليه، وتصغر الدنيا، ويسقي دمع عينيك رمال قصائد الاطفال والشعراء (31) هنا نلمس حوارا بين شخصين الشاعر هو المتحدث والمرأة المخاطبة فهنا يمكننا ان نلمح مستويين من الدلالة كلاهما مقصود كما يبدو فالمستوى الظاهري هو الدلالة المباشرة التي يمكن ان تأخذ معناها من خلال معنى القصيدة الظاهري. او من خلال السياق العام فالمستوى الاول اذا كان المقصود من الخطاب فيه امرأة حقيقية اما الدلالة الاخرى الموحية وهي المعنى الرمزي الذي نلمحه حينما تصبح تلك المعشوقة هي الارض هذه المحبوبة مثل كل الحبيبات تخلد حالة شعورية خاصة عندما يلمسها حبيبها وهذا امر مألوف بين المحبين اما المستوى الثاني وهو دلالة الرمز فتبدو عندما تتحول تلك المحبوبة المخاطبة الى صورة الارض اذ هي الدافع الى عمل الكثير ان رؤيا الشاعر في خلق مثل هذا المستوى الدلالي الرمزي هي التي اوحت لنا فضلا عن الرؤيا الخاصة للقارىء بأنه يرمز الى تلك المرأة بالارض اذ من خلال ملامسته لشعرها ترى الروح قد توثبت عنده، فهنا يقدم لنا الشاعر مستويين من التعبير المباشر وغير المباشر اذ نراه يزاوج في شعره بينهما فتظهر فكرة الرمز تارة وتختفي تارة اخرى فينموا المعنى المباشر نموا داخليا طبيعيا لان المستوى الحرفي او الظاهر لا يسخر بطريقة مصطنعة واضحة للتعبير عن معنى آخر المعنى الثاني ينمو نموا باطنيا من المعنى الاول ونستطيع ان نلخص الموقف ان عملية تكوين المعنى او الرمز ليست هي عملية الانابة يجب ان نشعر ان المستوى الاول هام وضروري وانه احسن طريقة للتعبير من المستوى الثاني والعقل يعكس على هذا المستوى الاول اذا هو اراد ان يتمثل كل ما سواه ولذلك يجب ان يتعانق الاثنان) (41).
ها هنا نلمس ان عملية التجاوب النفسي ما بين صفات الارض والمرأة هي التي جعلت الشاعر يعمد الى تلك الخصوصيات الاقترانية المتداخلة مع بعضها من صفات الموصوف فقرائن (علامات) المرأة متداخلة مع قرائن (علامات) الارض لتطبع في النفس حالة خاصة وميزة معينة ليس من السهل ان نجدها في مسميات اخرى لذلك كان من السهل على موضوع الارض ان يدخل من خلال المرأة وموضوع المرأة من خلال الارض وتزداد صلة الطبيعة الارض بالتغلغل داخل الانسان وبالتأصل اذ قرنها الشاعر بالمرأة، وكذلك المرأة اذا اقترنت بالارض من خلال وصفها فالعلاقة ما بين الانسان والطبيعة علاقة حميمة والمرأة جزء من الطبيعة وهي اجمل رمز واكثر تماسكا من غيره اجدد يوما مضى لاحبك يوما وامضي وما كان حبا لأن ذراعي اقصر من جبل لا اراه واكمل هذا العناق البدائي، اصعد هذا الا له الصغير وما كان يوما لأن فراش الحقول البعيدة ساعة حائط (51) هنا نراه يعود ويقرن صورة المرأة باحدى مقتنيات الطبيعة (الارض) ليخلق هناك حاجزا ليحول دون تحقيق ما يصبو اليه وهو مواصلة العناق لان الجبال تعوق ذلك والجبل ما هو الا رمز من رموز الارض فالارض او المرأة تتشكل علاقاتهما مع الشاعر وتكون علاقة حميمة لكن هذه العلاقة استلابية اذا الموانع الكثيرة (القهر، البعد، الطغيان) التي رمز لها الشاعر بالجبل تسيطر على تحركات الانسان وتمنعه من ان يواصل او يحصل على ما يريد، فالجبل، الطريق، الرحيل الحروب كل هذه مسميات في الطبيعة نجد بعضها كثير التداول في المعجم الشعري للشاعر فبعض المسميات تترك اثرا في نفس الشاعر سلبا كان هذا الاثر اما ايجابا. الآن بحر الآن بحر كله بحر ومن لا بر له لا بحر له والبحر صورتنا فلا تذهب تماماً هي هجرة اخرى فلا تذهب تماما (61) فلفظة البحر تتردد كثيرا في بعض قصائد درويش اكثر من اية لفظة اخرى خاصة قصائده التي قالها بعد غزو بيروت عام (2891) وهنا من حقنا ان نتساءل ما رمز البحر عند درويش هنا؟ هل هو رمز للعدو، للهجرة، للطغيان، هو رمز للثورة للعطاء اذ من خلال هذا الرمز يكون سعيه الى كشف وفضح الحقيقة الجماعية للشعب فالبحر بمدلوله الرمزي عظيم سواء اكانت هذه العظمة سلبية ام ايجابية فالرحيل الذي لا قاه الفلسطينيون عبر البحر كما يبدو لنا كان له الصدى الكبير في نفسية الشاعر وعطائه الفني (فعملية الرمز هنا نابعة مما يرمز اليه او هو بالاحرى لا قيمة له مطلقا الا بما ما يبرهن على الفكرة ويؤكدها... ان الرمز الفني تركيب لفظي اساسه الايحاء بما يستعصي على التحديد والتقرير وان اهمية الرمز في صورته الادبية بقدر ما هي في الرمز) (71).
فهنا نملك القول ان مجموعة معينة من الالفاظ تطغى على عمل ادبي ينتظمها ترابط تداخلي معين او علاقة داخلية معينة تشكل الجوهر الاعمق لذات الشاعر او نفسية الشاعر وتصلح نوافذ تطل من خلالها على قيعان روحه فالعلاقة بين الشاعر والبيئة التي يعيش فيها وان شخصها في شعره واعطاها من روحه التعبيرية لا تكون دائما ايجابية وانما تتأرجح بين السلبي والايجاب تبعا لما يمر به الشاعر من حالة نفسية وانطباعية عن البيئة التي يحيا فيها وهذا هو ما يدفع الشاعر الى ان يفتت الصورة المرئية التي يراها ولكن الشاعر يقف في بعض الاحيان كما اسلفنا موقف الغريب الحزين من البيئة التي رآها واعتاد عليها، على الرغم من التصاقه بها، فمن خلال قصيدة (الجرح القديم) نحس بالانهزامية لدى الشاعر في مطلع القصيدة لكنه سرعان ما يلتحم بالبيئة التي هو جزء منها على الرغم مما نحسه فيها ونلمسه. واقف تحت الشبابيك على الشارع واقف درجات السلم المهجور لا تعرف خطوي لا ولا الشباك عارف من يد النخلة اصطاد سحابة عندما تسقط في حلقي ذبابة وعلى انقاض انسانيتي تعبر الشمس واقدام العواصف واقف تحت الشبابيك العتيقة من يدي يهرب دوري وازهار حديقة اسأليني كم من العمر مضى حتى تلاقى كل هذا اللون والموت تلاقى بدقيقة وأنا اجتاز سردابا من البخور والفلفل والصوت النحاسي يبدو الشاعر من خلال هذا المطلع حزينا غريبا يشعر بالغربة والحزن على الرغم من ان البيئة بيئته لكن علامات اليأس والضعف تبدو واضحة من خلال عزلته لفقدانه الشيء الكثير نتيجة للوضع الذي تعيشه البيئة والمنطقة بأسرها فالتدفق العاطفي والشعوري والانساني والتعجب المبني على الاستغراب والقلق النفسي والحزن مما هو فيه من عذاب وغربة وعلى الرغم من ذلك نرى الشاعر يستهدي ويعود الى رشده وصوابه من خلال المدينة وعلامتها باسواقها والعبق الذي تتركه الاسواق والطرقات التي تسمح وغير ذلك من الامور التي استعار بها، فالنحاس والفلفل والسراديب القديمة المعبرة كلها كانت عبرة لها.
ايها القلب الذي يحرم من شمس النهار/ ومن الازهار والعيد كفانا علمونا ان نصون الحب بالكره/ وان نكسو ندى الورد... غبار هنا نلمس ان صوت الوعي وصوت العقل بدأ يعيد انفاسه الا انه يتكامل في العاطفة استمرارا مع الاسطر السابقة. ايها الصوت الذي رفرف في لحمي عصافير الحب علمونا ان نغني ونحب كل ما يطلعه الحقل من العشب من النحل وما يتركه الصيف على اطلال دار علمونا ان نغني ونداري حبنا الوحشي كي لا يصبح الترنيم بالحب مملا. عندما تنفجر الريح بجلدي سأسمي كل شيء باسمه وادق الحزن والليل بقيدي يا شبابيكي القديمة. (81)
تبدو استجابة الوجدان لصوت العقل واضحة هنا اذا انتهى الشاعر الى الاستعداد بالانتماء بدل الغربة التي لمسناها واحسسناها بها في بداية القصيدة وفي هذه القصيدة نرى الصور الداخلية تصارع الصور الخارجية وهذا يتأتى من كونه تعبيرا عن الصراع النفسي فالعواطف مكثفة والتأمل في العاطفة ادى الى احداث تحولات في الموقف الشعري وهكذا نجد السمات العامة للطبيعة ولبيئة الشاعر دفقا خاصا في نفسيته ونفسية المتلقي ايضا لكل شيء مدلوله الذي يحمله ويمكن للطبيعة ان تلعب دورا كبيرا في بناء القصيدة بمعنى انها تكون ركنا اساسيا من القصيدة وبنيتها وتكون الطبية هي الاساس الذي يقيم عليه الشاعر بناء قصيدته وهذا واضح عند بعض الشعراء الذين اعطوا الطبيعة لونا خاصا واهمية كبيرة اذ يلونونها بتلوينهم النفسي ويصورونها تصويرا دقيقا غير ذاك التصوير الذي نلمسه عند بعض الشعراء حين يتعامل مع الطبيعة من خلال ما تراه العين وانما نراه يتعامل مع مفردات الطبيعة تعاملا فنيا ينم عن تفاعل متكامل غير منقوص معها، وبعبارة اخرى فالطبيعة تبدو وكأنها تشكل حالة مثلى لا يرى غيرها ومن خلال تلك الرؤية تنبع الحالة الانفعالية الحقيقية ومن ثم تبدأ حالة العطاء وهذا ما نلمسه عند بعض شعراء المهجر ورواد المدرسة الرومانسية في الشعر اولئك الذين انتهجوا هذا النهج ففي اشعارهم نرى الطبيعة محورا مهما في بناء القصيدة حتى اذا نحيت صورة الطبيعة من قصائدهم انعدم وجود القصيدة مثل هؤلاء كثيرا ما يخلق صورة الحياة من خلال الطبيعة المجردة او يخلقون وجوها عدة للشيء من خلال الغوص في اعماق الطبيعة مثل هذه الحالة لا نلمسها عند درويش وهي ان تكون الطبيعة اساس بناء القصيدة او بمعنى آخر تكون هي (الكل) في قصيدته ففي تلك البنية الكلية لا نجدها عند درويش وانما نجد المغزى يلوح وراء المفردات التي تكون الطبيعة هي المقصودة فيها.
|
|
|
|
|
|
|
|
|