|
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال (Re: غادة عبدالعزيز خالد)
|
الجمعة:
الثالثة صباحاً. أولى لحظات عناقي لأرض الوطن بعد غياب طويل. المصابيح الشاحبة تزداد شحوباً. النعاس يطير أبخرة مع حركة الأقدام تبحث عن الأحذية المبعثرة تحت المقاعد. صوت المضيفة تبلغنا ، وكأنها تتلو شعراً ، بقرب الهبوط في مطار الخرطوم ، وتطالبنا ، كما لو كانت تغني ، بربط الأحزمة وإعادة الكراسي إلى أوضاع الاستقامة. إطارات طائرة الخطوط الكينية تلثم أرض المطار بسلاسة. أرقب الركاب من حولي ينهضون ، ينزلون حقائبهم الخفيفة من الأرفف ، ويتزاحمون في صفوف طويلة انتظاراً لفتح الباب إيذاناً بالنزول. ما زلت قابعة بمقعدي ، أحتضن طفلي ، وأنا أرسف ما بين توق نابح وخوف خفي! ترجل الركاب أجمعين. أخيراً أحكمت وضع حقيبتى على ظهري. وحملت أحد الصغيرين بيد ، وأمسكت الآخر بالأخرى. رددت تحية المضيفة الجميلة ، ثم اجتزت باب الطائرة إلى سلم النزول ، وعيناي تجولان حول المكان.
دلفت إلى صالة المطار. ملأت البيانات. أمسك الموظف جوازي. أمعن التحديق فيه وفي ورقة البيانات ، ثم قال:
ـ ''نسيتي تملي أهم خانة يا غادة عبد العزيز خالد''!
لم أدرك مقصده. لكنه أردف دون أن ينتظر ردي:
ـ ''خانة الاسم''!
رددت عليه بصوت خفيض ، وهو يمسك بالقلم ليملأ خانة الاسم نيابة عنى. لا أذكر ماذا قلت. لعلى نسيت ، أو اضطربت. ناولني الجواز ، فواصلت مسيري مع الطفلين.
وقفت أمام السير أنتظر حقائبي ، وإحساس غريب بالخوف يعتريني! نعم الخوف! فبعد غياب عن السودان دام لأكثر من خمسة عشر عاماً قضيتها ما بين مصر وأمريكا ، ظننت أنني سأصيح من الفرح ، سأرقص على أعتاب الوطن طرباً ، وسأقبل التراب شوقا ولهفة. لكن ، بدلاً من كل ذلك ، ها أنذا أقف هكذا .. وجلة ومرتبكة!
إلتقطت حقائبي من السير. وضعتها على الحامل المتحرك ، ورحت أدفعه أمامي ، وأنا أعبر الصالة إلى باب الخروج. فجأة ، سمعت صوتاً أليفاً يهتف باسمى. رفعت عيني نحو مصدر الصوت على الشرفة الداخلية ، لأرى وجه شقيقتي الصبوح ، ويدها تلوح بشوق. بادلتها التلويح والابتسامة العريضة. في الباحة الخارجية وجدت أبى في الإنتظار ، وبرفقته عمى وابنة عمى. أحقاً هذه هي؟! فارقت السودان قبل أن تولد حتى ، وها هي اليوم شابة جميلة يانعة. ركبت العربة وطفلاي ، هاشم وشهاب ، ينظران حولهما في حيرة.
ـ ''ماما إحنا وين''؟!
ـ ''وصلنا السودان''.
إنتابت هاشم فرحة غامرة ، فقد دأبت على الاكثار من ذكر (السودان) في الفترة الأخيرة ، وصرت أذكر لهم أين سنذهب ومن سنقابل. لكنني ، وأصدقكم القول ، لم أجرؤ أن أقول لهم كلمة واحدة عن دارفور ، أو عن كيف تركنا أطفالها يعيشون على الاغاثات في الملاجئ والمخيمات! أخجل أن أقول لهم هذا ، فأنا لا أريدهم أن يكرهوني أو يكرهوا وطنهم! وهكذا صار هاشم يسأل عن (السودان) في كل لحظة ، حتى أنه حين سمع المضيفة تعلن ، بعد دهر من الطيران ، عن قرب وصولنا مطار (أمستردام) ، هتف فرحاً ظاناً أننا وصلنا (السودان)! وحاولت (عبثا) أن أشرح له أننا لم نصل (السودان) بعد ، وإن كنا عبرنا الأطلنطي ، ودخلنا أوربا ، فأصبحنا قاب قوسين أو أدنى منه!
و .. أخيراً ، ها أنذا في البيت الذي احتضن طفولتي وصباي الباكر. لم أنسه للحظة. كانت خارطته ملء ذاكرتي. تهتك قليلاً ، بعض شروخ على الجدران ، والأثاث الذي ظل بداخله قرابة السبعة عشر عاماً صار قديماً وحال لونه بعض الشئ ، لكنه لا يزال جميلاً كما هو. نمت ليلتها قريرة العين. وفي الصباح خرجت أتجول في شوارع الحلفاية. أذكر المنازل. لم تتغير. الزمان هو الذي تغير! بعض سكانها فارقوها ، وسكن الأخريات آخرون.
مر الأسبوع الأول ، لكن حركتي ما زالت محدودة لم تتعد مدينة بحري. والجميع يسألون:
ـ ''أها .. لقيتى السودان كيف''؟!
ـ ''و الله يا هو زاتو .. أصلو ما اتغير''!
ـ ''كيف ما اتغير؟! هو إحنا حاسين بفرق''!
ـ ''غايتو أنا ماشفت غير الحلفاية وسعد قشرة .. و الاثنين ما اتغيروا''!
ومرت أسابيع أخرى. و بدأت أتجول حول العاصمة المثلثة ، الخرطوم وبحري وأم درمان. ثمة طرقات لم ترصف بعد ، وإن كانت ثمة بعض الطرق والجسور الجديدة. لكن الفقر ما يزال سيد الأمكنة. أما الإنسان فما يزال ، برغم كل شئ ، بسيطاً و طيباً. غير أن أكثر ما لفت نظري كثرة المنازل الجميلة العالية والشاهقة. أعلم أن الكثير من المغتربين قد عادوا ليستقروا ومعهم مدخرات أعوام شاقة طويلة ، وأن كثيراً من الشرفاء قد كدوا وتعبوا. ولكن نسبة عمار البنايات يمثل بالنسبة إلىّ الفردية والمنفعة التي طالت البعض على حساب الآخرين ، بينما المصالح العامة والمرافق التي من المفترض أن ينتفع بها الجميع لم تنم و لم تزدهر. ولا زلت حتى الآن أحاول أن أقيّم ، هل هذا عمران حقيقي من النوع الذي عناه عالم الاجتماع العربي عبد الرحمن بن خلدون ، أم مجرد تطاول رعاة شاة في البنيان؟!
. . .
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خالــد | معاوية كرفس | 05-24-07, 09:38 AM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | معتصم دفع الله | 05-24-07, 10:26 AM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | غادة عبدالعزيز خالد | 05-24-07, 04:52 PM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | esam gabralla | 05-24-07, 05:02 PM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | ود الباوقة | 05-24-07, 05:29 PM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | نهال الطيب | 05-24-07, 06:40 PM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | هاشم أحمد خلف الله | 05-24-07, 06:49 PM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | غادة عبدالعزيز خالد | 05-24-07, 07:24 PM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | غادة عبدالعزيز خالد | 05-24-07, 07:27 PM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | غادة عبدالعزيز خالد | 05-24-07, 07:28 PM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | غادة عبدالعزيز خالد | 05-24-07, 07:29 PM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | غادة عبدالعزيز خالد | 05-24-07, 07:32 PM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | غادة عبدالعزيز خالد | 05-24-07, 07:33 PM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | غادة عبدالعزيز خالد | 05-24-07, 07:34 PM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | غادة عبدالعزيز خالد | 05-24-07, 07:35 PM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | HAYDER GASIM | 05-24-07, 08:27 PM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | غادة عبدالعزيز خالد | 05-25-07, 04:01 AM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | غادة عبدالعزيز خالد | 05-25-07, 12:05 PM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | معاوية كرفس | 05-25-07, 08:28 PM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | Shams eldin Alsanosi | 05-25-07, 11:03 PM |
Re: رزنـامة الإسبـوع - أخجـل أن أقـول هذا لأطفالــي - غـادة عبد العزيــز خال | أبو ساندرا | 05-27-07, 12:11 PM |
|
|
|