إعادة اختراع الدولة والمجتمع

نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب الزميل فتحي البحيري فى رحمه الله
وداعاً فتحي البحيري
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-27-2024, 11:54 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة د.أحمد الحسين(د.أحمد الحسين)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-02-2005, 06:34 AM

د.أحمد الحسين
<aد.أحمد الحسين
تاريخ التسجيل: 03-17-2003
مجموع المشاركات: 3265

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع (Re: د.أحمد الحسين)

    الاخوة الاعزاء اسف للتأخير. لقد قررت أن انزل الجزء السابق مع هذا الجزء حتى تتم قراءته في نفس واحد وقد اعتمدت على التنصيص الكامل في هذا الجزء من كتب الأستاذ حتى لا اتجنب اي تخريب للمعنى نتيجة لتدخلى ولكني في الصول سوف استخدم فهمي الخاص في تطوير بقية الفصول. هناك جزء اخر لهذا الفصل سوف انزله قريبا. احمد


    Bigنظرية السلوك الانساني في الفكرة الجمهورية والمرجعيات العلمية

    لكي نستطيع أن نفهم الأطر المرجعية المختلفة، لتفسير السلوك الاقتصادي و السياسي والاجتماعي، للافراد في كل انواع المجتمعات الماضية والحاضرة والمستقبلة، فان علينا ان نطور نظرية سلوكية شاملة تمثل اطارا مرجعيا لفهم السلوك الانساني. وبطبيعة الحال فان هذه النظرية في هذا الكتاب، تستند على اساسيات الفكرة الجمهورية، التي ازعم ان النظرية السلوكية التي طورتها تتفوق في شمولها على كل نظريات السلوك التي بين أيدينا، وذلك لأن نظريات علم النفس الفردي والاجتماعي والعلوم الاجتماعية، بما فيها علوم الاقتصاد والسياسة والادارة ، تتعامل كلها مع الفرد البشري كحقيقة ناجزة وكحصيلة للفترة التي تبدأ بميلاده وتنتهى بمماته، وتركز على دور المؤثرات والعوامل البئية والمتغيرات التكوينية، التي يتعرض لها في خلال هذه الفترة في تكوين شخصيته، وتوجيه سلوكه في جميع مناشط الحياة. ان تأسيس هذا الاطار العام لنظرية السلوك الانساني في الكتاب، على معطيات الفكرة الجمهورية، يستجيب لشروط العمل العلمي، بكل المقاييس، وذلك لأنه يعرض نفسه لعملية الفحص والتخطئة (verification) من خلال الحوار والنقاش العلمي. وهو بذلك لا يقدم مسلمات عقائدية غير قابلة للنقاش والفحص والتخطئة.

    النظرية السلوكية في الفكرة الجمهورية المستمدة من القران تقدم اطارا كليا ((macro level يرتبط بمسيرة الخلق والتطور من ناحية، واطارا جزئيا ( micro level)يرتبط بمسيرة الانسان كفرد ، ويتداخل المستويان بشكل متواصل ، اذ انه لا فرق بينهما، في الحقيقة، الا في المقدار. وعن شمول هذه النظرية يقول الاستاذ محمود في كتابه، (القران ومصطفى محمود والفهم العصري، بدون تاريخ، ص. 112): انها...
    (.. تذهب الى بدايات، وتسير الى نهايات ، ابعد، في الطرفين ، مما يدخل في ظن عالم من العلماء الذين تعرضوا لنظرية التطور، من دارون الى آخر من كتبوا في هذا العلم.. وفي القران الوجود لولبي، وهو على كل حال، وجود ليس له بداية، ولن تكون له نهاية.. وكل الذي بدأ، وكل الذي انتهى، هو مظهر الصور الغليظة.. وفي القران، الوجود هو الله، تنزل من اطلاقه، فظهر في صور المادة المحسوسة، وهو انما ظهر ليعرف.. ليعرفه من؟؟ ليعرفه الذي مثله -" ليس كمثله شئ"...)

    فالانسان في الفكرة الجمهورية موجود دائما ومنذ الازل ،وفي السرمد ولا يوجد غيره في الوجود الحادث ، وسوف يستمر وجوده بعد مماته الى ما بعد الأزل وفي السرمد في المطلق. ولذلك فهو نتيجة ناجزة لموروثاته وهو يتقلب في تطوره في الصور المختلفة خلال تاريخه الطويل الانهائي من جهة، ولمحصول تجربته منذ ولادته وحياته في المجتمع وحتى مماته. ورغم أن مركز اهتمامنا في هذا الكتاب بشكل عام، هو تطور الانسان بعد ظهور المجتمع البشري وبشكل خاص تطوره في مجتمعاتنا المعاصرة، ولكن هذه المراحل الأخيرة، وهي مراحل متقدمة جدا وحديثة نسبيا، لا يمكن فهمها واستيعابها الا في اطارها الشامل الكلي الذي يمثل طبيعة العلاقة المتشابكة بين الانسان والكون من جهة وعلاقته بالمجتمع من جهة أخرى. ويقوم هذا الفهم على اساس توحيدي يرى انه لا يوجد في الكون الحادث غير الانسان في مرحلة من مراحل تطوره. فالانسان من الله ( المطلق ) صدر واليه يعود. يقول الاستاذ محمود في ذلك في كتاب رسالة الصلاة ( ط7، 1979، ص.10). لم يخلق الله (أي النفس المطلقة الكمال) العالم أي الانسان من " مادة سابقة وانما صنعته من لدنه" ( القران ص. 42). قال تعالى في في ذلك " يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها.." فان هذه النفس الواحدة هي نفسه، تبارك وتعالى...ولذلك فان عملية الخلق هي عملية تنزل من صرافة الذات في الاطلاق الى أول مراتب القيد، وهي مرتبة الانسان الكامل ( النفس نسبية الكمال او مقام الذات المحمدية)، وهو بالتالي تنزل من الوحدة المطلقة الى الوحدة النسبية. وقد تمت عملية الخلق في ثلاثة عوالم " عالم الملكوت من أعلى، وعالم الملك من أسفل، وعالم البرزخ الذي توسط بينهما...فعالم الملكوت هو عالم لطائف- عالم مادة لا تتأثر بها حواسنا-عالم أرواح -... وعالم الملك عالم كثائف – عالم مادة مجسدة، تتأثر بها حواسنا وهو من ثم عالم أجساد .. وعالم البرزخ هو عالم المزج بين اللطائف والكثائف - عالم العقول التي ركبت على الأجساد لتصهر كثائفها بنار المجاهدة، فتحيلها الى لطائف... وهذا هو عالم الانسان ... والاختلاف بين العوالم كلها اختلاف مقدار... ( القران ، ص. 113). وهذا يعني أن الاختلاف بين الروح (عالم الملكوت) والمادة ( عالم الملك) هو اختلاف مقدار، فالروح مادة في حالة من الذبذبة والحركة لا تتأثر بها حواسنا، والمادة روح في حالة من الذبذبة والحركة تتأثر بها حواسنا. ولذا فان الوحدة هي السلك الذي ينتظم الأشياء من الخلايا التي تكون الأجسام الحية، والى الذرات التي تكون المادة الصماء- فالاختلاف اختلاف مقدار لا اختلاف نوع. ( القران، ص.113).

    لقد خلق الانسان كاملا أو يكاد في عالم الملكوت، وذلك بتنزل الذات الصرفة من صرافتها المطلقة الى مقام الانسان الكامل ( ادم) الذي تم طرده من هذا المستوى الى عالم الملك وهو عالم الاجساد ، ولم يكن هذا الطرد قذفا به من السماء الى الأرض، وانما كان برده في سلم الوجود الى أدنى درجات التطور والتجسيد المادي في عالم الملك، وهي ذرة غاز الأيدروجين. وقد اشارت الى ذلك كله الآية " لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين..".ومن هنا بدأت رحلة الانسان عائدا في طريق رجعاه الى مقامه الأول في رحلة سرمدية، ما مرحلة حياته في المجتمع الا حلقة صغيرة في هذه الرحلة اللانهائية. وفي عالم الملك نفسه، برزت الحياة أو الخلق من الوحدة، " فالسموات، والأرض، نشأت من سحابة واحدة.. قال تعالى في ذلك: " اولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض، كانتا رتقا ففتقناهما،، وجعلنا من الماء كل شئ حي؟؟ أفلا يؤمنون* وجعلنا الأرض رواسي أن تميد بهم، وجعلنا فيها فجاجا سبلا، لعلهم يهتدون* وجعلنا السماء سقفا محفوظا، وهم عن أياتها معرضون* وهو الذي خلق الليل، والنهار، والشمس، والقمر.. كل في فلك يسبحون".. السموات، والأرض، كانت سحابة واحدة، مرتوقة فأنفتقت وكانت هذه السحابة من بخار الماء.. قال تعالى في ذللك: " ثم استوى الى السماء وهي دخان، فقال لها، وللأرض: أئتيا، طوعا، أو كرها.. قالتا: أتينا طاعين" .. وهذه السحابة، قبل أن تكون بخار ماء، قد كانت من غاز الهايدروجين.. وذرة غاز الايدروجين هي أول مظاهر تجسيد الارادة الالهية..( القران ، ص. 113). وعلى هذا فان جميع مظاهر المادة المجسدة ، الشمس، والقمر، وسحابة الدخان، الخ..، التي ذكرت في هذه الفقرة هي الانسان في مرحلة من مراحل تطوره السرمدي، وما مرحلة البشرية التي نعيشها الآن الا مرحلة من مراحل هذا التطور اللانهائي المذهل. يقول الأساذ محمود في ذلك....

    (الانسان ماهو؟ ومن هو؟
    الانسان حيوان نزل منزلة الكرامة بالعقل.. والانسان لا يزال في طور التكوين، ولن يكون لاستمرار تكوينه نهاية، فهو ينتقل في منازل الكمال تنقلا سرمديا .. والحيوان ينتقل ايضا، وقصاراه في ذلك أن ينزل أدنى منازل الانسان.. فكأن الاختلاف بين الحيوان والانسان اختلاف مقدار، وليس اختلاف نوع.. والتوحيد يطلب الينا أن ننظر الى جميع المخلوقات، بله الاحياء، كسلسلة واحدة متصلة الحلقات، وان كان حجم الحلقات يختلف أثناء السلسلة.. ولدى هذه النظرة، فليس في الوجود الحادث غير الانسان، وجميع ما نراه، وما لا نراه، من هذا الوجود، انما هو الانسان في أطوار مختلفة ومتتالية.. والى هذا المعنى المتكامل الاشارة بقوله تعالى: " هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورة" ومعنى هل هنا "قد" وهذا الحين من الدهر هو أمد مدود، ودهر دهير.

    مراحل نشأة الانسان ومرجعيات العلوم

    يهدف هذا الجزء الى مناقشة مرجعيات العلوم المختلفة بهدف التأسيس لمرجعية النفس السفلى ( الأنانية السفلى ) والنفس العليا ( الأنانية العليا)، مع ملاحظة أن كلا المرجعيتان من الله، وأنهما يمثلان نقطتين في هرم واحد قاعدته النفس السفلى، بكل خصائصها، وقمته النفس العليا، بكل خصائصها. وتمثل كل من النفس السفلى و النفس العليا، كل في داخلها هرم مستقل له قاعدة وله قمة. أما قاعدة النفس السفلى فهي خصائص المادة في أدنى مراتبها، ذرة غاز الأيدروجين، مرورا بالنفس الحيوانية وحتى قمة التطور البشري. وخصائص هذه النفس هي البقاء التي تعبر عن نفسها بصور عديدة. أما النفس العليا فقاعدتها، هي قمة النفس السفلى ونهايتها في الذات المطلقة. وقد ارتبطت مواضيع ومرجعيات ومنهجيات العلوم التجريبية الحالية بخصائص النفس السفلى في مراحل تطورها منذ ذرة الأيدروجين وحتى أعلى الحيوانات الثدية، وهي الانسان. وعلى هذا يمكن أن نقول أن كل العلوم في جميع مستوياتها هي علوم نفس، تدرس سلوك النفس البشرية، في جميع مستوياتها، مع اختلاف في المقدار بينها ناشئ من مستوى تطور الانسان الذي يركز عليه العلم المعين.

    مرجعية المرجعيات

    ان مرحلة خلق الانسان أوقل تطوره قبل نزوله الى مرحلة التجسيد المادي، هي مرحلة مادية (روحية ) لطيفة لا يمكن الاحاطة بها بوسائل العلم المادي التجريبي في جميع مستوياته، لأنه علم شديد الاعتماد في وسائله على معطيات الحواس بما فيها العقل، ولكن مجالها هو العلم الروحي ( المادي) التجريبي ، وهو علم له وسائله، ويهمن على كل العلوم المادية الأخرى هيمنة تامة. بل ان العلم المادي التجريبي ، بما فيه العلوم الاجتماعية والطبيعية، والذي موضوعه المادة المحسوسة، لا يدرس ولا يحيط بعالم المادة نفسه، وانما يلاحظ فقط سلوكها الظاهر دون أن يعرف كننها. ويجب ملاحظة هنا أن الاختلاف بين العلم الروحي التجريبي والعلم المادي التجريبي هو اختلاف مقدار وليس اختلاف نوع، فكلاهما من علم الله. ويمتد العلم الروحي من المطلق، علم الذات القديمة، التي علمها قديم، وارادتها قديمة، وقدرتها قديمة، وهي لا تعلم بعقل كأحدنا، وانما تعلم بذاتها، وتريد بذاتها، وتقدر بذاتها، وعلمها وارادتها وقدرتها هي هي. هذه منطقة وحدة مطلقة، وكل العلوم الأخرى انما هي تنزل من منطقة هذه العلم المطلق. وقدر الأنسان أن يحقق هذا العلم المطلق، ولكن هذا سير في المطلق لا يمكن الاحاطة به وانما حظ الانسان من ذلك التطور السرمدي في مراقي الكمال. وبما أن محور اهتمامنا في هذا الجزء هو العلوم الانسانية والاجتماعية، فاننا سنركز فيما بقى من هذا الجزء على مرجعيات تلك العلوم وعلاقتها بمراحل نشأة الانسان.

    ألمرجعية الراهنة: مراحل تطور النفس السفلى
    تعريف النفس السفلى
    " ولما انحطت النفس السفلى عن النفس العليا ذهبت إلى أقصى درجات الانحطاط، وهو عندنا أبسط صور المادة، وتلك هي ذرة غاز الهايدروجين .. وعن انحطاطها، إلى أقصى درجات الانحطاط، وردت الإشارة في قوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين) .. ثم هي، من تلك الدرجة البعيدة، أخذت تستأنف سيرها راجعة إلى الله بمحض الفضل الإلهي، وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى، بعد الآية السالفة الذكر: (إلا الذين آمنوا، وعملوا الصالحات .. فلهم أجر غير ممنون) .. وهذا الأجر غير الممنون إنما هو تعلق النفس السفلى بالنفس العليا .. وقد ظهر هذا التعلق في هذه المرحلة من مراحل الرجعى في صورة العقل .. فالعقل هو الزمام الذي به تقود النفس العليا النفس السفلى .. أو، قل بعبارة أخرى، إن العقل هو وسيط تطوير النفس السفلى نحو النفس العليا، لأن عليه قام التكليف بشريعة النهي والأمر، والحرام والحلال .. فهو، بالتزامه جانب الحلال، وحمله إياها عليه، واجتنابه جانب الحرام، وإزعاجه إياها عنه، يتسامى بها عن تسفلها نزوعا إلى العلا .. وهو، حين يتجافى عن الحرام، ويزعجها عنه، أنما يضطرها لكبت بعض رغائبها الخاصة إستجابة لنداء الواجب، الصادر من النفس العليا، التي هي في اتصال مع الله ..
    إن صورة الأمر، ببساطة، هي أن النفس السفلى نفس حيوانية حافزها للسعي هو اللذة، من حيث هي لذة، فلما هبط عليها العقل من جهة النفس العليا إنما هبط عليها ليسوس شهوتها، فلا يسمح لها منها إلا بما لا يعوق تساميها نحو النفس العليا .. وهذا هو الغرض وراء التكليف بشريعة الأمر، والنهي، والحلال، والحرام .. ولقد لبثت النفس السفلى تتطور عن طريق الجسد، قبل ظهور العقل، زمنا سحيقا، وردت إليه الإشارة في قوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا؟؟) .. وهذا الزمن السحيق هو الذي تمت خلاله التسوية المعنية في قوله تعالى: (فإذا سويته) .. فلما تأذن الله للنفس السفلى أن تتحرك بسرعة نحو النفس العليا ركب فيها العقل، وأمره بسياسة شهوتها .. وهذا العقل هو روح الله المنفوخ، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (ونفخت فيه من روحي) وذلك من الآية الكريمة: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته، ونفخت فيه من روحي، فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة، كلهم، أجمعون * إلا إبليس، أبى أن يكون من الساجدين) .. ولم يكن سجود الملائكة له سجود عبادة، وإنما هو سجود تسخير لإعانته على البر، والخير .. ولما أبى إبليس أن يكون مع الساجدين إنما كان ذلك إشارة إلى تخذيله الإنسان عن الخير، والبر، ومن ثم، عن التسامي نحو النفس العليا، ابتغاء تسفيله، وجذبه إلى أسفل سافلين، حيث كان آنفا، وحيث موطن إبليس الآن .." ( القران ص.76)



    ولقد مرلانسان في رحلتة هذه الطويلة في اطار النفس السفلى باربع مراحل متصلة الحلقات،..." ولا يفصل بينها الا حلقات من ، السلسلة اكبر من سابقاتها، تمثل قفزة في سير التطور.. وتمثل هذه القفزة بدورها حصيلة الفضائل العضوية التي استجمعت من خلال المرحلة السابقة.. وهذا التقسيم الى اربع مراحل انما هو لتبسيط البحث فقط: والا فان في داخل كل مرحلة، مراحل يخطئها العد.." ( رسالة الصلاة، ص.)
    المرحلة الأولى من نشأة الإنسان: موضوع العلوم الطبيعية الفيزيائية والكيمائية Physical and Chemical Sciences) )
    تبدأ هذه المرحلة بظهور الانسان في مرحلة المادة التي يعرفها العلم المادي بأنها " كل ما ندرك وجوده بالحواس ويكون له وزن " ، وذلك منذ بروز الانسان في أبسط صور التجسيد المادي ذرة غاز الأيدروجين، وهو.. " بروز في الأزل - في بدء الزمن.. وإلى هذه البداية السحيقة أشار تعالى بقوله: ((أولم ير الذين كفروا أن السموات، والأرض، كانتا رتقاً، ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شئ حي، أفلا يؤمنون؟)).. الرتق ضد الفتق، وهو يعني الالتئام.. وعن هذا الأمر المرتوق، قال تعالى، في موضع آخر: ((ثم استوى إلى السماء، وهي دخان، فقال لها، وللأرض، ائتيا طوعاً، أو كرها. قالتا أتينا طائعين)) والدخان هنا يعني الماء، في حالة بخار.. فقد كانت السموات والأرض سحابة من بخار الماء، مرتتقة، ففتقت، وبرز التعدد من هذه الوحدة.. ولم تكن جرثومة الانسان يومئذ غائبة.. وإنما كانت هي ذرات بخار الماء.. ومن يومئذ بدأ تطور الانسان العضوي يطرد، تحفزه، وتوجهه، وتسيره، وتقهره، وتصهره، الإرادة الإلهية المتفردة بالحكم .. وقد أنفق في هذه المرحلة من مراحل النشأة أمداً يعجز الخيال تصوره.. ثم انتهت هذه المرحلة ببروز المادة العضوية.." ( رسالة الصلاة، ص. 10-11).
    وبما أن هذه المرحلة لا تهمنا الا بالقدر الذي يوضح خط سير هذا الكتاب، فاننا يمكن أن نقول فقط أن هذه المرحلة تشكل الان موضوع دراسة علوم الفيزياء والكيمياء بكل تفرعاتها وتخصصاتها ومنهجياتها التي تركز على تفسير سلوك المادة ( النفس السفلى في هذا المستوى)، من خلال قوانينها، وهي ليست قوانين.. " باعتبار العلم الروحي وانما هي مجرد ترتيب أسباب؟؟ وانما القانون هو العقل الكلى .. واذا أراد العقل الكلي للأسباب ألا تتأدى الى نتائجها فانها تتخلف- فالجاذبية لا تفعل فعلها في الأجسام، والنار لا تحرق ما تسلط عليه من الأشياء" (القران، ص. 6
    المرحلة الثانية من نشأة الانسان: موضوع علوم الحياة الحيوانية (Zoology and Biology)
    تبدأ هذه المرحلة من مراحل تطور الانسان في رحلته الطويلة راجعا الى المقام الذي فقده بخروجه من الملكوت ببروزه من المادة من ابسط مراحل التجسيد المادي- ذرة الأيدروجين الى ظهور المادة العضوية. " وببروز المادة العضوية من المادة غير العضوية ظهرت الحياة، كما نعرفها نحن.. وإلا، فإن جميع المادة، عضوية، أو غير عضوية، حية.. وكل ما هناك، أن الحياة بدأت تبرز في المادة العضوية، بعد أن كانت كامنة في المادة غير العضوية.. فهي لم تجئ من خارج المادة..
    وأدنى درجات الحياة، التي نسميها اصطلاحاً حياة أن يكون الحي شاعرا بحياته، وآية ذلك أن يتحرك الحي، حركة تلقائية، وأن يتغذى، وأن يتناسل.. وقد بدأت هذه الحياة بحيوان الخلية الواحدة.. وبهذه الخطوة الجليلة، والخطيرة، افتتح عهد جديد.. عهد عظيم.. عهد الحياة والموت.. ومن يومئذ بدأ رأس سهم الحياة، وطليعتها في السير.. يالها من بداية!! وفي ذلك قال تعالى: ((ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حمأ مسنون)) .. الحمأ الطين الأسود.. والحمأ المسنون الطين المتغير، المنتن.. والصلصال الطين اليابس، الذي يصل أي يصوت إذا لمسته.. وإنما احمومى الحما لأنه قد طبخ بحمو الشمس.. وذلك لأن الأرض قد كانت قطعة من الشمس انفصلت عنها، وأخذت تبرد، وتجمد، وتتهيأ لظهور الحياة عليها.. ثم ظهرت الحياة بين الماء والطين.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ((هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا.؟  إنا خلقنا الانسان من نطفة، أمشاج، نبتليه، فجعلناه سميعا بصيرا)).. فإن النطفة، في هذه المرحلة من مراحل النشأة البشرية تعني الماء الصافي.. وأمشاج ، جمع مشيج.. من مشج، يمشج، مشجاً، إذا خلط بين شيئين.. وهما هنا الماء والطين.. فالنطفة الأمشاج، هي الماء المخلوط بالطين ..
    وهذه المرحلة الثانية، من مراحل النشأة البشرية، التي بدأت بحيوان الخلية الواحدة في القاعدة، تنتهي عند أعلى الحيوانات الثديية، في القمة.. وحين تبدأ المرحلة الثالثة من مراحل النشأة، إنما تبدأ بقفزة جديدة، مذهلة، بها يدخل الانسان، كما نعرفه اليوم، في مسرح الحياة" ( رسالة الصلاة، ص.11-13 ).
    وتشكل هذه المرحلة الآن موضوع دراسة علوم الحياة (zoology and biology)، وتدرس هذه العلوم في هذا الطور من نشأته حيث تركز علوم الاحياء ( zoology)،( وهي فرع من علوم الأحياء التي تركز على دراسات الكائنات الحية بما فيها الانسان) ،على دراسة وسلوك الكائنات الحيوانية مع التركيز على تركيبها وفيزيولجيتها وتصنيفاتها وتوزيعها على المناطق الجغرافية المختلفة.
    المرحلة الثالثة من نشأة الانسان: العلوم الطبيعية والأجتماعية
    ( Physical, Biological and Social Sciences)
    لقد شهدت هذه المرحلة ظهور المجتمع الانساني الذي كان كامنا في المرحلة الأولى، وظهرت بذرته في المرحلة الثانية في صورة مجتمعات الكائنات الحياة البسيطة وتتطورت في مراحلها الحيوانية المختلفة حتى ظهر المجتمع البشري، الذي افتتح عهدا جديدا من دورات الحياة. وبما أن هذه المرحلة من أهم المراحل فيما نحن بصدده من منهجيات العلوم الاجتماعية، فقد توسعت كثيرا في تفاصيلها. يقول الأستاذ محمود في ذلك في كتاب رسالة الصلاة.. "هذه هي المرحلة التي نحن نعيش الآن في أخريات أيامها، وهي قد بدأت يوم ظهور آدم النبي - الانسان المكلف - في الأرض.. وآدم هذا، ليس هو آدم الخليفة، الذي خلقه الله كاملا، أو يكاد، في الجنة، وأسجد له الملائكة.. وإنما هو طور من أطوار ترقى الخلقة التي انحطت عن آدم الخليفة، نحو مرتبة آدم الخليفة.. ذلك بأن آدم الخليفة - آدم الكامل - قد خلق في الجنة - في الملكوت - ثم لما أدركته الخطيئة طرد من الجنة، وأهبط الى الأرض.. وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: ((فتعالى الله الملك الحق، ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه، وقل رب زدني علماً * ولقد عهدنا إلى آدم، من قبل، فنسي، ولم نجد له عزماً  وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فسجدوا، إلا إبليس، أبى * فقلنا: يا آدم، إن هذا عدو لك، ولزوجك، فلا يخرجنكما من الجنة، فتشقى * إن لك ألا تجوع فيها، ولا تعرى  وأنك لا تظمأ فيها، ولا تضحى  فوسوس إليه الشيطان، قال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد ، وملك لا يبلى؟  فأكلا منها، فبدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وعصى آدم ربه، فغوى  ثم اجتباه ربه، فتاب عليه، وهدى  قال: اهبطا منها، جميعاً، بعضكم لبعض عدو، فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداي فلا يضل، ولا يشقى  ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكاً، ونحشره، يوم القيامة، أعمى)) . وعن طرد آدم من الجنة، وإهباطه إلى الأرض، بعد خلقه في أقرب صورة إلى الكمال. ورد القول الكريم: ((لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم  ثم رددناه أسفل سافلين  إلا الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، فلهم أجر غير ممنون)) وكان آدم، وزوجه، من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإنهما تابا، وندما، بعد الزلة، وقالا: ((ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا، وترحمنا، لنكون من الخاسرين)) هذا في حين أن إبليس الذي تولى إغواءهما، لم يتب، ولم يندم، ولم يطلب المغفرة، ولا الرحمة، وإنما طلب الإمهال، والانظار: ((أنظرني الى يوم يبعثون)) فلما أجيب الى طلبه: ((إنك من المنظرين)) أظهر إصراراً على الاستمرار في الإغواء: ((فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم  ثم لآتينهم من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين)) ولذلك لما ردوا جميعا إلى أسفل سافلين ترك هو هناك، واستنقذ الله آدم وزوجه، وهداهما بإيمانهما سبيل الرجعى.. فهذا معنى قوله تعالى: ((إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون)) وعندما رد آدم إلى أسفل سافلين كان في نقطة بدء الخليقة - في مرتبة بخار الماء - ثم بدأ سيره، بتوفيق الله، في مراقي القرب، حتى إذا بلغ مبلغ النبوة على الأرض، فكان الإنسان المكلف الأول، كان قد بدأ ينزل بصورة، محسوسة، أول منازل القرب من مقام الخلافة العظيمة التي فقدها بالمعصية، ولكنه كان لا يزال عن كمالها بعيدا . وبنزوله هذه المنزلة الشريفة أصبح له ذكر في الملكوت، بعد أن سقط ذكره زمنا طويلا.. وفي ذلك يقول تعالى: ((هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا؟))
    النبوة الأولى ـ خلافة الأرض:
    وهذه المنزلة التي نزلها آدم في طريق العودة من التيه، والتي كان له بنزولها ذكر في ملكوت الله، هي منزلة أول نبوة على هذه الأرض، وبذلك فإن نازلها أول خليفة على ظهر هذه الأرض.. وقد حاول نزولها قبل آدم أبو البشر أوادم كثيرون، فلم يفلحوا، وانقرضوا، واستمرت محاولة طلائع سلالة الطين في نزول هذه المنزلة الشريفة، وكان الفشل لهم بالمرصاد، حتى إذا استقر في أذهان الملائكة أنهم لن يفلحوا، تأذن الله بظهور المحاولة الناجحة، فكان آدم أبو البشر.. ولما آذن الله ملائكته بأنه سيجعل، من سلالة الطين، في الأرض خليفة، عارضوا: ((وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها، ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك، ونقدس لك؟ قال: إني أعلم مالا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين  قالوا سبحانك، لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم  قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم، قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات، والأرض، وأعلم ما تبدون، وما كنتم تكتمون؟)).. ولقد عارض الملائكة في اتخاذ الله الخليفة من سلالة الطين قياسا على سابق علمهم، المستمد من سابق تجاربهم مع الأوادم السابقين.. فلما كشف الله لهم كمال النشأة البشرية المتمثل في مقدرتها على التطور، والترقي، والخروج باستمرار، من الجهل إلى العلم، أذعنوا، وانقادوا..
    ولقد جرت جميع هذه الأمور ثلاث مرات، ثلاث مرات.. فآدم قد خلق ثلاث مرات: مرتين في عالم الملكوت، ومرة في عالم الملك.. ذلك بأن الأسماء المسيطرة على الخلق هي العالم، المريد، القادر.. فبالعلم أحاط الله بمخلوقاته، في عالم الملكوت، وبالإرادة نزل بالإحاطة إلى التخصيص فكان أقرب إلى التنفيذ، وإن لم يزل في عالم الملكوت، ولكن مما يلي عالم الملك.. وبالقدرة نفذ في عالم الملك ما تمت الإحاطة به إجمالا، وتم تخصيصه تفصيلا في عالم الملكوت.. فعالم الملكوت عالم العقول، وعالم الملك عالم الأجساد .. وكل شئ في عالم الملكوت مسيطر على نظيره في عالم الملك.. لأن عالم الملكوت عالم لطائف، وعالم الملك عالم كثائف.. ولكل لطيف سلطان على كل كثيف.. وهذا معنى قوله تعالى: ((فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ ، وإليه ترجعون)) .. وإنما ترجع كثائفنا إلى لطائفنا ، وذلك بخضوع نفوسنا، وهي كثائف، لعقولنا وهي لطائف.. وقمة اللطائف في ذات الله، ومن ثم وجب الرجوع إليه تعالى، وإنما يكون الرجوع بتقريب صفاتنا من صفاته، وذلك بفضل مدركات العقول المرتاضة بأدب الحق، وأدب الحقيقة..
    نشأة العقل..
    العقل هو القوة الدراكة فينا.. وهو لا يختلف عن الجسد اختلاف نوع، وإنما يختلف عنه اختلاف مقدار.. فالعقل هو الطرف اللطيف من الحواس.. والحواس هي الطرف اللطيف من الجسد.. وإنما بصهر كثائف الجسد، تحت قهر الإرادة الإلهية، ظهرت لطائف الحواس، ثم لطائف العقول..
    ولقد امتازت هذه المرحلة الثالثة من مراحل نشأة الانسان بظهور العقل.. ولم يكن العقل غائبا عن المرحلة الأولى، والمرحلة الثانية، من مراحل النشأة ولكنه كان كامناً كمون النار في الحجر، ثم صحب بروزه من الكمون إلى حيز المحسوس، هذه المرحلة الثالثة.. وعن حركة بروز العقل، ووسيلة بروزه، يخبرنا الله تبارك وتعالى، فيقول: ((إنا خلقنا الانسان من نطفة، أمشاج، نبتليه، فجعلناه سميعا بصيرا  إنا هديناه السبيل، إما شاكرا، وإما كفورا)).. فالنطفة الأمشاج تعني الماء المخلوط بالطين، وذلك عند ظهور الحياة بالمعنى الذي نعرفه، وهذا يؤرخ نهاية المرحلة الأولى، من مراحل نشأة الانسان، وبداية المرحلة الثانية.. ولا تزال الحياة، في القاعدة، تستمد من هذا المصدر.. ثم أخذت الحياة تلد الحياة، بطريقة، أو بأخرى، وذلك في مراحلها الدنيا، وقبل أن تتطور، وتتعقد، وتبرز الوظائف المختلفة، للأعضاء، وللأنواع.. وقبل أن تبرز الأنثى بشكل مستقل عن الذكر.. وتمثل هذه الحقبة طرفا من المرحلة الثانية من مراحل نشأة الانسان.. ثم عندما ارتقت الحياة، وتوظفت الوظائف، أصبحت الحياة تجيء من التقاء الذكر بالأنثى، وأصبحت النطفة الأمشاج تعني ماء الفحل المختلط ببويضة الأنثى..
    وكل السر في عبارة ((نبتليه))، لأنها تشير إلى صهر العناصر في الفترة التي سبقت ظهور المادة العضوية.. وتشير إلى صراع الحي مع بيئته الطبيعية، بعد ظهور أول الأحياء، وإلى يوم الناس هذا.. ((فجعلناه)) نتيجة لهذا الابتلاء، والبلاء، ((سميعا بصيرا)) إشارة إلى بروز الحواس في الحي، الواحدة تلو الأخرى.. وبعد أن اكتملت الحواس الخمس، وأصبح الحي حيواناً سوياً انختمت المرحلة الثانية من مراحل النشأة البشرية، وبدأت المرحلة الثالثة، وذلك ببروز لطيفة اللطائف - العقل - وإلى ذلك الإشارة بالآية السابقة ((إنا هديناه السبيل، إما شاكراً، وإما كفوراً.)).. ((إما شاكراً، وإما كفوراً)) تعني إنا هديناه إلى الشكر عن طريق الكفر، أو قل إلى الصواب عن طريق الخطأ.. وإليه أيضاً الإشارة بقوله تعالى: ((ألم نجعل له عينين؟  ولسانا وشفتين؟* وهديناه النجدين؟)).. قوله: ((ألم نجعل له عينين؟)) إشارة إلى الحواس جميعها.. قوله ((ولسانا وشفتين؟)) إشارة إلى العقل.. فإنه هنا لم يعن باللسان مجرد الشريحة المقدودة من اللحم، والتي يشارك الإنسان فيها الحيوان، وإنما أشار باللسان إلى النطق باللغة، ولذلك ذكر الشفتين لمكانهما من تكوين الأصوات المعقدة، المختلفة التي تقتضيها اللغة.. واللغة ترجمان العقل، ودليله.. ثم قال: ((وهديناه النجدين)).. أصل النجد ما ارتفع من الأرض.. وهو هنا الطريق المرتفع.. و((النجدين)) الطريقين: طريق الخطأ، وطريق الصواب.. ولقد هدى الله الانسان الطريقين.. فهو يعمل، فيخطئ، فيتعلم من خطئه.. وحين هدى الله الإنسان النجدين، لم يهد الملائكة إلا نجداً واحداً، وهو أيضاً لم يهد الشياطين إلا نجداً واحداً.. وذلك أن الله، تبارك وتعالى، خلق شهوة بغير عقل، وركبها في الشياطين، ومن قبلهم، إلى أعلى الحيوانات، ما خلا الانسان، فهم يخطئون، ولا يصيبون.. وخلق عقولا بلا شهوة، وركبها في الملائكة، فهم يصيبون، ولا يخطئون.. ثم جعل الانسان برزخاً، تلتقي عنده النشـأتان: النشأة السفلية، والنشأة العلوية، فركب فيه الشهوة، وركب فيه العقل، وأمره أن يسوس شهوته بعقله.. فهو في صراع، لا يهدأ، بين دواعي الشر، ودواعي الخير.. وبين موحيات الخطأ، وموجبات الصواب.. فذلك معنى قوله، تبارك و تعالى، ((وهديناه النجدين)).. وهذه النشأة ((البرزخية)) التي جمعت بين الخطأ والصواب هي التي جعلت مطلق بشر أكمل من مطلق ملك.. ولمكان عزتها قال المعصوم: ((إن لم تخطئوا، وتستغفروا، فسيأت الله بقوم يخطئون، ويستغفرون، فيغفر لهم..)).. وعزة هذه النشأة في مكان الحرية فيها.. لأن حق الخطأ هو حق حرية أن تعمل، وتخطئ، وتتعلم من خطئك كيف تحسن التصرف في ممارسة حريتك، بغير حد، إلا حداً يكون منشأه عجزك عن حسن التصرف .. وذلك عجز مرحلي ، لن تلبث أن تخرج منه إلى قدرة أكبر على حسن التصرف، وهكذا دواليك.. والحرية هي روح الحياة.. فحياة بلا حرية إنما هي جسد بلا روح.. ويكفي أن نقول أن الحرية هي الفيصل بين حياة الحيوان، وحياة الانسان..
    وفي بدء الحياة كان الشعور.. وأدنى درجات الحياة أن يشعر الحي بوجوده.. وليس فيما دون هذا الشعور حياة.. ويوجب هذا الشعور بالوجود إحساس الحي بالحر، وبالبرد، وبالألم.. وجاء من هذا الإحساس الحركة من الحر المضر، ومن البرد المضر، ومن كل ألم، وإلى كل لذة ممكنة.. وبوحي من الفرار من الألم، والسعي في تحصيل اللذة، جاءت القدرة على تحصيل الغذاء، والالتذاذ به، وجاءت القدرة على التناسل، والالتذاذ به .
    وكان حيوان الخلية الواحدة يحس بكل جسده الرخو، ثم تعقدت الحياة، وارتقت، ورهف إحساسها بالخطر الذي يتهددها، فظهرت الحاجة إلى الوظائف المختلفة، فكان على الجلد أن يتكثف ، ويغلظ، ليكون درقة، ودرعا، وكان على بعض أجزاء الجسد، غير الجلد، أن يقوم بوظيفة الحس.. وهكذا بدأ نشوء الحواس.. ونحن لطول ما ألفنا الحواس الخمس نتورط في خطأ تلقائي، إذ نظن أن الأحياء قد خلقت وحواسها الخمس مكتملة.. والحق غير ذلك.. فإن الحواس نشأت، الواحدة، تلو الأخرى، كلما ارتقت الحياة، وتعقدت وظائف أعضاء الحي.. ففي البدء كان اللمس بالجسم كله - بالجلد - ثم لما توظف الجلد في الوقاية، خصصت بعض الأجزاء للمس.. ثم ارتقت وظيفة الحس لما أحتاج الحي للمس، والخطر على البعد، فامتدت هذه الوظيفة، امتداداً لطيفاً، فكان السمع، ثم كان النظر، ثم كان الذوق، ثم كان الشم .. وليس هذا ترتيب ظهور للحواس، ولا هو ترتيب اكتمال.. فإن بعض الأحياء يحتاج لحاسة معينة أكثر من احتياجه للأخريات، فتقوى هذه على حساب أولئك، مع وجود الأخريات، بصورة من الصور..
    والآن ، فإن الحيوانات العليا، بما فيها الإنسان، ذات خمس حواس.. وليس هذا نهاية المطاف.. فإن، في الإنسان، الحاسة السادسة، والحاسة السابعة في أطوار الاكتمال، ولا يكون، بعد الحاسة السابعة، تطور في زيادة عدد الحواس، وإنما يكون تطور في كمالها.. وهذا لا ينتهي، وإنما هو سرمدي..
    ما هي الحاسة السادسة؟؟
    هي الدماغ.. ووظيفتها الادراك المحيط، والموحد ((بكسر الحاء)) لمعطيات الحواس الأخرى - اليد، والأذن، والعين، واللسان، والأنف- في الحس، والسمع، والبصر، والذوق، والشم.. فإذا قويت يكون إدراكها لكل شئ عظيم الشمول، فكأنها تحسه، وتسمعه، وتراه، وتذوقه، وتشمه، في آن واحد…
    ما هي الحاسة السابعة؟؟
    هي القلب.. ووظيفتها الحياة.. وهذه الحاسة هي الأصل، وجميع الحواس رسلها، وطلائعها، إلى منهل الحياة الكاملة.. ولقد نشأت الحياة وسط الخوف.. قال تعالى في ذلك: ((لقد خلقنا الإنسان في كبد)) والكبد المشقة، ولقد دفعت هذه المشقة، التي وجدت الحياة نفسها محاطة بها، الخوف في أعماق الأحياء.. ولولا الخوف لما برزت الحياة، في المكان الأول، ولما ارتقت وتطورت، في المكان الثاني. ثم هي إن لم تنتصر على الخوف، في آخر المطاف، لا يتم كمالها.. وإنما تنتصر الحياة على الخوف عندما تقوى الحاسة السادسة، وتدرك الأمر على ما هو عليه، على النحو الذي وصفنا، ويومئذ سيظهر لها أن الخوف إنما هو مرحلة صحبت النشأة في إبان جهلها، وقصورها، وأنه ليس هناك ما يوجبه في حقيقة الأشياء.. فإذا بلغت الحاسة السادسة هذا المبلغ، انبسطت الحاسة السابعة - القلب- واطمأنت، وانطلقت من الانقباض الذي أورثها إياه الخوف، وأخذت تدفع دم الحياة قويا إلى كل ذرات الجسد، وكل خلايا الجلد، تلك التي كان الخوف قد حجرها، وجعل منها درقة، ودرعا لصيانة الحياة البدائية.. وبذلك يعود الشعور لكل الجسد، ويصبح حياً كله، لطيفاً كله، جميلا كله، غاية الجمال.. وتكون أرض الجسد الحي يومئذ هي المعنية بقوله تعالى: ((وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت، وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج))..
    هذه هي وظيفة الحاسة السابعة - الحياة الكاملة- وليس للحياة الكاملة نهاية كمال، وإنما كمالها، دائما، نسبي.. وهي تتطور، تطلب الحياة المطلقة الكمال، عند الكامل المطلق الكمال - عند الله- وإنما يكون تطورها باطراد ترقي جميع الحواس، كل في مجاله، وانعكاس ذلك على ترقي العقل، بقوة الفكر، وشمول الادراك.. وعلى قدر صفاء العقل، وقوة الفكر، تكون سلامة القلب، واتساع الحياة، وكمالها.. وهذا التطور المترقي بالحواس هو ما عناه الله بقوله ((وأنبتت من كل زوج بهيج))..
    لقد وصلنا باستقرائنا لنشأة العقل، وتطوره، إلى المرحلة الرابعة من مراحل نشأة الانسان. وخضنا فيها، بعض الخوض، ونحن لم نفرغ بعد من الحديث عن المرحلة الثالثة من مراحل نشأة الانسان، وسنوقف هذا الاستقراء لنتحدث قليلا عن المرحلة الرابعة، ثم نعود، من جديد، إلى مواصلة الحديث عن المرحلة الثالثة من مراحل نشأة الانسان، لأنها أهم النشآت الأربع.." ( رسالة الصلاة ص، 12-19).
                  

العنوان الكاتب Date
إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-18-05, 06:38 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-18-05, 07:02 AM
    Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع Hussein Mallasi11-18-05, 07:21 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع Eng. Mohammed al sayed11-18-05, 07:28 AM
    Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع ودقاسم11-18-05, 08:10 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع مريم بنت الحسين11-18-05, 08:52 AM
    Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع Balla Musa11-18-05, 09:26 AM
      Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع Mutwakil Mustafa11-18-05, 10:00 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع عبدالله عثمان11-18-05, 10:29 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع عاطف عمر11-18-05, 02:20 PM
    Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع Balla Musa11-18-05, 08:28 PM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع Sabri Elshareef11-18-05, 09:00 PM
    Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-19-05, 04:28 AM
      Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-19-05, 05:52 AM
        Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-19-05, 06:07 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع مريم بنت الحسين11-19-05, 07:56 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع مريم بنت الحسين11-19-05, 08:14 AM
    Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع Mutwakil Mustafa11-19-05, 10:37 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع nada ali11-19-05, 11:11 AM
    Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-19-05, 12:24 PM
      Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع عبدالماجد فرح يوسف11-19-05, 04:52 PM
        Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-19-05, 10:52 PM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع nada ali11-19-05, 11:37 PM
    Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-20-05, 01:49 AM
      Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-20-05, 07:47 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع Mohammed Elhaj11-20-05, 08:28 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع مريم بنت الحسين11-20-05, 09:08 AM
    Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-20-05, 01:22 PM
      Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع Dr.Elnour Hamad11-20-05, 03:32 PM
        Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع Khalid Kodi11-20-05, 07:40 PM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع محمد السر11-20-05, 10:37 PM
    Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-20-05, 10:51 PM
      Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-21-05, 04:16 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع عبدالله عثمان11-21-05, 06:46 AM
    Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-21-05, 10:35 AM
      Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-22-05, 00:39 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع عبدالله عثمان11-22-05, 08:33 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع عبدالعظيم محمد أحمد11-22-05, 09:40 AM
    Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-22-05, 11:49 AM
      Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-22-05, 10:44 PM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع Omar Bob11-23-05, 04:04 AM
    Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع Abdulgadir Dongos11-23-05, 04:26 AM
      Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-23-05, 11:14 AM
        Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-24-05, 07:23 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع Mohammed Elhaj11-24-05, 07:36 AM
    Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-24-05, 09:45 AM
      Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع Dr.Elnour Hamad11-24-05, 06:05 PM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع Shams eldin Alsanosi11-24-05, 08:53 PM
    Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-25-05, 04:33 AM
      Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-25-05, 06:52 AM
        Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-25-05, 07:40 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-26-05, 03:53 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-26-05, 03:54 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع Shams eldin Alsanosi11-26-05, 08:53 PM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع عبدالله عثمان11-28-05, 12:25 PM
    Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع Dr.Elnour Hamad11-28-05, 05:21 PM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين11-28-05, 11:51 PM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين12-02-05, 06:34 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع عبدالله عثمان12-02-05, 06:45 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين12-03-05, 10:23 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين12-04-05, 07:26 AM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع د.أحمد الحسين12-05-05, 04:52 AM
  السراج لا ويوضع تحت المكيال... عبدالغني كرم الله بشير12-06-05, 11:14 PM
  Re: إعادة اختراع الدولة والمجتمع مريم بنت الحسين12-08-05, 08:42 AM
  لكل لطيف، سلطان على كل كثيف... عبدالغني كرم الله بشير12-11-05, 03:35 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de