|
الخــوف لا الغـفلة
|
الخوف لا الغفلة
اصبح من المألوف خلال الايام الاخيرة ان نرى رئيس بلادنا يحشد الحشود ويسير من جمع لاخر فيخطُب هنا ان امريكا ظالمة ثم يصيح هناك ان المحكمة المعقودة لاجله ما هي الا محض مؤامرة تستهدف الدين والوطن وكرامة الشعب , ثم لا يستريح فيذهب بنشاط يحسده عليه من هم في عمره او اولائك الذين زراهم الدهر بما هو اقل مما ينؤ بحمله السيد الريئس فيعدو الى جمع اخر ويصيح بملء الصوت ان اوكامبو تحت حذائه وان على قضاة المحكمة ان ( يموصوا قراراتهم ويشربوها ) . ركض ماراثوني يقود خطى الرئيس ليطوف احياء الخرطوم في جمهرة عظيمة , ثم تمتد هذه الهرولة لتصل الى نيالا وقد تمتد وتصل الى غيرها من مدن البلاد المغلوبة على امرها لسوق ذات الحديث وذات الصياح وحشد ذات الحشود . وهذا ما عابته عليه الكثير من الجهات التي ترى ان كل هذا الركض وكل هذا الصياح لا يغني عن امر المحاكمة فتيلا , وان كل ما يفعله السيد الرئيس هو محض تخبط وارتباك وافتقاد لادراك ما يجب ان يُفعل في هكذا امور . وقد ابدى الكثيرون آيات دهشتهم واستغرابهم من رجل تطارده محكمة جزاء دولية فتكون وسيلته لدحض التهم الموجهة اليه هي لبس ( السُكسُك ) وريش النعام وجلد النمر ثم الرقص والغناء امام حشود حتى وان تجرّحت حناجرها بعبارات المناصرة والفداء فهي لن تقوم مقام بيّنة واهنة تساعده حين وقوفه ذليلاً امام قضاته . فكتب فتحي الضو مقال مطول يقول في فحواه ان ( الناس في شنو والحسانية في شنو ) . ونصح الناصحون من عرب وعجم بأن يتبنى الرئيس البشير مواقف اكثر عقلانية واكثر هدؤ بدلاً عن الهذيان الذي يبذله ليل نهار منذ يوم الرابع من مارس .
لكن هل الامر هو ما تحكيه الظواهر ام ان هناك اشياء اخرى واهداف اخرى هي المحفز والدافع وراء هذه الحشود وهذا السُكسُك وريش النعام الذي يتزيأ به السيد الرئيس في ملمته المدلهمة ؟؟ هل هو بهذه الغفلة بحيث يعمى عن كل ما يراه الناصحون والحادبون والساخرون والشامتون ايضاً ؟؟ .... لا اعتقد ... فهو مهما بلغت به الغفلة ومهما بلغ به مبلغ العمى الا انه لا يمكن ان يجهل ما يعلمه راعي الضأن في الخلاء بان كل الحشود وان تعالى صوتها وصراخها فهي لا يمكن ان تفلح في التأثير على قرارات المحكمة وانها ليست من البيّنات ولا الاسانيد التي ينبني عليها حكم قضاء . . . . فلماذا اذاً ؟؟؟
الجواب هو انه خائف اكثر من كون انه مرتبك او غافل . ومبعث خوفه لا يتأتى من خشية الاعتقال او مغبة الادانة , وان كان يخافهما , الا ان هناك ما هو اكثر اخافة واكثر رعباً بالنسبة اليه . وهو الخوف والرعب من حقل الشوك الداخلي الذي يسير في برفقة شُركاء لا يثق في نواياهم تجاهه . فهو يخاف غدر رفاقه اكثر مما يخاف اي عدو خارجي . وبلا شك اننا نجد له العذر في ذلك , فخوفه بكل تأكيد مبرر ويجد من الحقائق الساندة الكثير عبر مسيرتهم الطويلة نحو الخلود في السلطة والتي تمتد لحوالي العقدين من الزمان وسعيهم الدؤوب للاستئثار بها فريق دون آخر , وغدرهم ببعضهم البعض وتقسّمهم الداخلي لشيع واحزاب متناحرة يتنظر كل منها سقوط الفريق الآخر ليحوز هو على كل ( كيكية ) السلطة , وسعي كل فريق ليجعل من الآخر مسيح يتحمل عنه خطاياه وفجوره وفساده . فهذا هو ما فعلوه مع شيخهم وعراب نظامهم , وهو ذات المصير الذي يخافه الرئيس ويتقيه بكل ما يملك من خرز وريش نعام ورقص وغناء وصياح في وجه الهواء . . فهو بحشده للناس وزعيقه المستمر بان البلاد في خطر وان الدين في خطر وان فكرة تسليمه لاعداء الوطن هي في ذاتها خيانة للوطن والدين وامتهان لكرامة الشعب , يريد من كل هذا ان يرسل رسالة للفريق الذي يخشى غدره يقول فيها انني لن اذهب بسهولة , وانكم لو حاولتم الخلاص مني عن طريق المحكمة الدولية فهذا سيعني سقوطكم امام الشعب وانكم ستظهرون بمظهر الخونة والعملاء الخانعين لاعداء الوطن . اذاً هو عندما يصيح شاتماً اوكامبو ومحكمته واممه المتحدة ومنظماته الانسانية انما يصيح محذراً اعداؤه الداخليين ورفقاؤه الذين يمسكون بيده مساندين ومعضدين عند الهتاف وحشد الحشود , هو في الاساس يصيح محذراً من قد يكون واقفاً بجانبه في هذه اللحظة ويرسم على وجهه ابتسامة كذوب ويحمل في طيات ثيابه خنجراً يتحين فرصة غرسه في صدر رئيس نظامه . وفي هذا السياق يمكن ان نقراء ذلك المقال المكتوب بصحيفة الانتباهة بواسطة السيد الطيب مصطفى عن انه في وقت ما ( كان ) من المصدقين لاشاعة خيانة النائب لرئيسه وتحينه فرصة الخلاص منه . وقد اختلف الناس حول ان هذا المقال يمثل اتهام ام تبرئة للسيد نائب الرئيس . فقد قال البعض ان هذا المقال هو بمثابة صحيفة اتهام صريحة للسيد نائب الرئيس بالتأمر على رئيس النظام الذي هو احد اركانه . وذهب البعض الى ان هذا المقال يمثل دحضاً لتلك الاقاويل المغرضة التي تتحدث بالسؤ عن السيد علي عثمان . لكن هناك درب ثالث لم نتطرق اليه في تأويلنا لهذا المقال , وهو انه يمكن ان يكون الغرض من كتابته ونشره بهذه الطريقه هو ارسال رسالة مشفرة لمن يعنيه الامر فحواها اننا نعرف ما تسعى اليه ونعرف نواياك فارعوي واحذر . ونجد ان سلوك هذا الدرب في تأويل المقال يجعله متسقاً تمام الاتساق مع ما يفعله السيد الرئيس من تجاهل تام لمهدداته الخارجية والتفاته الكثيف الى ارسال الرسائل الغير مباشرة لاعداؤه المستترين في الداخل .
ومما يدعو للرأفة والشفقة التي هي بلا شك في غير محلها هو ان ننظر لرجل احاطت به كل هذه الخطوب بحيث اصبح لا يعرف ما يتقي ومن يتقي . فبين ليلة وضحاها تحول الجميع الى اعداء له او على الاقل اعداء محتملين , وهذا اقسي وامرّ . فكل شخص اصبح عدو محتمل بالنسبة اليه وكل حليف اصبح ممن يتوجب الحذر منه .
(عدل بواسطة منعم on 03-09-2009, 07:54 PM)
|
|
|
|
|
|