|
Re: كل جبار ظالم جاءته داهية ! (Re: محمد عثمان الحاج)
|
لكن ميل الرجل الحقاني لأن يعيش في عالم من الأوهام هو ما يقوده أخيرا للهاوية. لقد بنى صرحا من الأوهام يمكن أن تهدمها الحقيقة في أي وقت. الخضوع التام من جانب زوجته ـ سواء كانت الحقيقية أم الظاهرية ـ كثيرا ما يكون هو حجر الأساس لأوهامه. واكتشف فان فوجت أن الزوجة إذا استجمعت شجاعتها وهجرت الرجل الحقاني فإنه في كثير من الحالات ينهار تماما، ربما يصاب بانهيار عصبي أو حتى ينتحر.
هنا يؤكد فان فوجت أن الرجل الحقاني ليس مجرد شخص اعتاد على الكذب. "لديه رغبة شديدة في معرفة الحقيقة لكن قصة حياته هي نسخة جرى تحريفها من جانب عقله الباطن تظهره على أنه كان على حق دائما وأن كل إنسان سواه كان مخطئا". ومما يثير الحيرة أن هذه الرغبة الشديدة في معرفة الحقيقة ربما تجعل من الرجل الحقاني عالما جيدا او فيلسوف. إن نظرته للحقيقة لا تختل إلا فيما يخصه هو، كما أن السعي وراء المعرفة المجردة يوفر له راحة محببة من هوسه بنفسه.
ونضرب مثلا يوضح هذه النقطة. الكاتب الراحل سي ام جود C M Joad كان فيلسوف تطوري ومن أتباع بيرجسون وشو. وأثناء الحرب العالمية الثانية اشتهر كأحد أعضاء الفريق المخطط لهيئة الإذاعة البريطانية. كانت تصرفاته لاذعة وتعكس عمق الثقافة والمعرفة ومتكبرة. كان نوعا من الرجال الذين يحبهم الجمهور لدرجة الكراهية. في حياته الخاصة كان أصدقائه من الرجال فقد قال ذات مرة أنه غير مهتم بالحديث مع النساء باستثناء اولئك اللاتي يرغبن في النوم معه. ويبدو أن زوجته كانت تتقبل ذلك.
وفي الثاني عشر من أبريل 1948 فوجئ قراء صحف المساء بعنوان يقول : "تغريم دكتور جود بسبب الغش في التذاكر". في قطار يسير بين واترلو واكستر حاول جود أن يوفر سبعة عشر شلن وبنس عن طريق إخبار مفتش التذاكر بأنه ركب القطار في سالسبري. ثم اتضح لاحقا ان جود اعتاد على الاحتيال على السكة حديد. و أبعدته هيئة الإذاعة البريطانية من برامجها و دمرت الفضيحة حياته العملية ومات بعدها بأربعة سنوات بالسرطان.
القضية لها تشابه بفضيحة بيرت ولكن في حالة جود نحن نملك لحسن الحظ بعض الأجوبة. شخصيته تظهر بوضوح في كتبه وفي شهادت من عرفوه. حتى عناوين كتبه تبين هوسه بنفسه : "سفر جود"، "انجيل جود"، "متعة تحقيق الذات". معظم أصدقائه اتفقوا على أنه كان سهل الاستثارة ويمكن ايقاعه في حالة غضب شديد بسبب أي إهانة ـ حقيقية أو متوهمةـ موجهة نحوه. كما أن أي مدح أو إطراء له يجلب عفوا فوريا وقويا من جانبه. مثله مثل معظم الرجال الحقانيين لم يكن يهتم بشخصيات الآخرين فهو يفضل أن يقوم بتصنيفهم بناء على تفسيراته الشديدة التبسيط لهم ـ مثل أن يلقب جميع عشيقاته بلقب واحد.
لماذا إذن يخاطر بمستقبله بارتكاب فعل غبي كهذا؟ عندما سأله صديق لاحقا عن ذلك أجاب بحسرة "إنه التكبر". لكن ذلك لا يوضح لنا الكثير. ما نحتاج لأن نعرفه حقا هو أن الرجل الحقاني يفتقر تماما للحس الأخلاقي الشخصي لأنه يستطيع دائما أن يجد ألف سبب للاعتقاد بأن ما يفعله صحيح. إنه طفل أفسده التدليل يعتقد بأن رغباته يجب أن تكون قوانين للطبيعة. في الواقع قام جود بكتابة عدة كتب عن الفسلسفة الأخلاقية ولاشك أنه فيما يتعلق بالجنس البشري عموما فإن حسه الأخلاقي كان حادا وقويا. كل من يعتقد أن الرجل الحقاني لا يمكن أن يكون فيلسوف جيد فعليه أن يقرأ كتب جود فإن أفضلها لماحة وذكية وذات أسلوب جميل. عمى جود الأخلاقي كان ينطبق على نفسه فقط. كان عليه التعايش مع حقانيته مثل التعايش مع مرض مزمن.
إن المترتبات المزعجة في نظرية الرجل الحقاني تبدأ في الإتضاح عندما نحاول رسم خط بين الأشخاص غير المتزنين مثل جود وبين الناس العاديين المتزنين كأمثالنا لأن المهمة تصبح مستحيلة. الحاجة لتقدير الذات هي شهوة أساسية في الطبيعة البشرية وفقدانها سيكون خطيرا كفقدان كريات الدم البيضاء. جميع البشر الأصحاء العاديون يكرهون أن يكونوا على خطأ فجميعنا نكره ارتكاب الأخطاء ونكره أن يرانا الآخرين نرتكبها. الخطأ في الرجل الحقاني هو أنه لم يتغلب أبدا على على الرغبة الطفولية في أن يجعل كل شئ يسير وفق هواه، ولكن هل يوجد إنسان متحرر من هذا التوجه؟ مثلا هل هناك شخص لا يتفوه بالسباب حين يقوم بضرب أصبعه بالخطأ بالمطرقة؟ ومن منا لايشعر بالغضب حين يسبقه آخر للتاكسي الذي قم هو بايقافه على بعد ياردات؟ لكن المطرقة جماد. الشخص الآخر له نفس الحق في التاكسي مثلك تماما. مع ذلك فالإحباط يثير الغضب الذي كان يجعل أجدادنا في العصر الحجري يتناولون فؤوسهم الحجرية.
لقد اتهمنا جود بأنه أساسا غير مهتم بالآخرين لكن مرة أخرى فإن ذلك ينطبق علينا جميعا. مثلا نحن لا نقع في حب شخص بكامله بل ببساطة نقع في حب ابتسامة أو صوت موسيقي أو طريقة تصرف جذابة. هذه توفر الأسسيات لصورة من نوع ما حيث نقوم بإضافة بقية التفاصيل حيث نجلب بقية الصفات من صورة متخيلة في في عقولنا عن نوع الشخص الذي نقع في حبه. العديد من الناس متزوجون عمرا من شخص لا يعرفونه حقا. مئات من زوجات القتلة أكدن للشرطة بصدق أن أزواجهن لا يستطيعون إيذاء ذبابة. طالما توافق الشخص الآخر مع الصورة التي في عقولنا فنحن لا نطرح أسئلة.
يؤكد فان فوجت أن عدد الرجال الحقانيين حولنا أكثر بكثير مما نلاحظه. هم مقتدرون جدا في إخفاء ذلك عن الأخرين وعن أنفسهم. ومرة أخرى فإن نفس الشئ ينطبق على بقيتنا . الأشخاص الذين يعطوننا الانطباع بأنهم أنانيون أو لاتهمهم سوى أنفسهم هم الاستثناء. ولكن حالما نتعرف عللى أطيب الناس فإننا ندرك أنه حتى هم أيضا لديهم بعض حب الذات وألاوهام والتعصب. بالنسبة لي فأنا أعترف بصراحة أنني أكتشفت جيوب سيئة من الحقانية في شخصيتي رغم أنني أشك أن أصدقائي يحسون بها. مثلنا مثل أنواع معينة من الفراشات فقد تعلمنا أن نعدل ألواننا لتتوافق مع المحيط . نحن نحس بالراحة لأن نشعر بأننا نعيش في مجتمع يتكون من أشخاص عاديين متزنين مثلنا."
= = = = انتهى كلام الكاتب الكبير كولن ويلسون.
|
|
![Edit](https://sudaneseonline.com/db/blank.gif)
|
|
|
|
|
|
|