أم وطفل!!...

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-09-2024, 12:58 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2009م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-10-2009, 10:16 AM

عبدالغني كرم الله
<aعبدالغني كرم الله
تاريخ التسجيل: 07-25-2008
مجموع المشاركات: 1323

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
أم وطفل!!...

    ....


    أم وطفل!!..





    (1)

    مجرد طفل صغير، لا أزال طفل في نظرها، حتى وهي في قصر قبرها..
    وكما كانت، أو قبيل رحليها.. بل نحن نصغر كل يوم، في عينيها وقلبها، أخي الأكبر عبدالواحد، وأطفاله، وأحفادة، كلهم صغار في نظرها، الابن والابنة والحفيدة، كلهم أطفال في روضة عينيها، كلهم أجمعين، تمر على أسرتهم بالليل، وتغطي العاري، وفي خلوة الثلث تدعو لهم، زهرة فزهرة،...في عتمة الليل نسمع اسمائنا كلها، لاتنسى اسم، بل تتذوق الاسم والمسمى كحلوة، فنحس بأنس جميل، وبراعي عظيم، يكنس الصبح لنا، ويطبخ لنا، وفي الليل تسرب اسمائنا لتخوم السماء، ماهذا؟، فيتضوع رسم اسمائنا كعطر لتخوم السماء، فيلامس هناك حرير الملائكة، فتؤمن عليه (آمين)، فنحس في أسرتنا بورود فرح من السماء، من أين أتى؟ ما منبعه؟.. حنان الأم بلا ضفاف!!... فرقصت أقفاصنا الأرضية مع تلك الدعوات التي حملت ارواحنا لعدن والفردوس ببراق الأمومة العظيم!..

    كنت طفل محبوب..
    معها!!,...أحس "بالأنا"... بشاعرية "الذات"..
    (الذات، ذلك اللغز الجميل)، ذلك الكيان الخلاق في الحنايا.. أسمع الآن بكائي الأول، حين كنت طفل، كنت أبكي وأضحك فقط، لكي أعبر عن نفسي، وحاجاتي، وكانت تفهم، وكنت لا أععطي أعتبار سوى نفسي، (وهي مجرد خادم لي)، مكورا حول نفسي، أصحو كما يحلو لي، فتصحو، أبكي وهي نائمة، فتصحو، خادم عجيبة، خادم تحب وتهيم بمخدومها الصغير، المشاكس، وحين يسرح طرفي للسنوات الأولى، لا أذكر من شقاوتي شيئ، كم تزخرف النسيان بداخلي بمحبة أم عظيمة، لا أكاد أذكر من السنة الأولى والثانية شئ حتى النسيان تزخرف بمحبة أمي، حتى النسيان..


    كنت أحس بدفء عجيب، وبركة، وهدوء قربها، يجعل حواسي تسترق السمع لتغريد البيئة المحيطة، وكأنها خلقت للتو، ونبض قلبها الساكن، مجازا، أحس بالحضور، والحاضر، وأرى الشباك ورقص الستائر البسيطة، كغصن يلعب به النسيم، أشياء حية، فتنتشي الجذور، جذوري، وروحي وروحها.. في معيتها يتوقف جولان خواطري، كأن خواطري تلحظ "حبل سري يغذيها، رغم انقطاعه المجازي"، فتستكين ويرتع قلبي، وعقلي في حقول الماثل، ويقطف لذة النظر والسمع والشم، والذوق، والتأمل، لأشياء بسيطة، لأشياء نفيسة، تحيط بي.. هي نملية، وعناقريب، وأية كرسي على حائط طيني، وكرتونة بها ملابس متسخة، وبرطمانية مليئة بخبيز قديم...
    .
    تجلس قربي في العنقريب، فرحة ببطل عظيم (في نظرها)، كنز، تشم رائحة عرقي، تلفني بهالة من محبة، تحفظني من أعتى الأعداء، ماذا ترى فيني؟ (وأي بطولة هذه التي تصدقها عينيها)، .. حين ترى طفلها الصغير، العادي، النحيف..( قلوب العاشقين لها عيون ترى ما يراه الناظرون)، بلى، وربي، هكذا عيون أمي، عيون الأمهات، مطلق أم!!...

    قليلة الكلام.. ترنو بحنية مفرطة.. لنا، للأزيار، للسماء، للقبلة، لضيف عند باب الزنكي..تكنس بمحبة، وتطبخ بمحبة، وتحس بمذاق الطعام في فم ابنائها وبناتها..
    ترملت مبكرا..وحين نزور ضريح ابي على ضفاف النيل الازرق، أسمع اعظم غزل بين عروس هنا، وعريس هناك..وتذكر أبي، رغم رحيله المبكر، بمحبة وهيام وتقدير عصي الوصف. فأحس بكلمة "الوفاء"، كما يحس الإنسان بكوب شاي دافئ بين يديه...

    في كتابتي المتواضعة، استمد الأمومة الكبيرة منها، تلك الأمومة التي تلف الكون، وتحتضنه عبر جماليات الفيزياء والكمياء، والأحياء... الأمومة الخلاقة، التي جعلت رجل فقير ينظر لرجل خرج من الغابة لأول مرة، اسمه بوذا، قال عنه (يمشي بسلام، جسمه مرتخي، لا يستعجل الخطو، غارق في متعة التأمل، وحين نظر لي (كانت نظرة أم رؤوم)!!..

    وذات النظرة التي وجدها الرجل الفقير، وغمرته بلذة (الأنا)، أحسستها من استاذ سعيد، هي هي، احترام (الذات الإنسانية)، حيث تكون، وتتضوع منه بركة الآية العرفانية (إن غيبت ذاتها، فلي بصر يرى محاسنها في كل انسان)... فصرت أطلب (لا شعوريا)، فكر يجعل الأمومة في كل وجه وكل منحى، وكل وقت، وكل حركة، وكل سكون،..ما أعظم أمهاتي من النساء و"الرجال"..


    الغائية التي ابحث عنها، اجدها في تعامل أمي، تمنيت ان أرى الامومة في تعامل المناخ معي، وقطيع المجتع، وسائر وقائع الحياة، قال المعصوم بأن (رحمة الأم منه)...

    ياله من إله أم، أحس بطلاوة، وإطلاق رحمته، من تجسده في قلب أمي، أروع ما يكون، أرق ما يكون..

    الكلمات في لسانها لها روح ومذاق، وحنان، تغوص في جسدي قبل أذني، وتشعرني بعظمة الكلمة، وبإن المسيح كلمة، وبأن الكلمات كائن حي، يختفي برشاقته، ورقة ذبذبته كما يختفي الله، والملائكة، والموتى والعطر..." كيف اصبحت"، "سمح"، " اعمل ليك شاي"، ..
    وللحق كنا نجلس عشرات الساعات في غرفة واحدة دون كلام، ما بيننا فوق الكلمات، هي تحس بكل شئ اريده، وتغمرني بمحبة تضيق بها الكلمات، ولم الكلام، لإله علمه بحالي يغنيه عن سؤالي، تقرأ أدق اساريري، وتلبيها قبل ان اتفوه بكلمه، بل هي السابقة، دوما...وحين أكون مريضا، وأنا نائم في الغرفة اسمعها في البرندة تتكلم مع خالتي "زينب،" أو أي ضيف (عبدالغني عياااااااان)، وفي كلمة "عيااااااااااااان"، تضمر احساس بمرضي والحمى، أكثر من احساس جسدي به، ملكة أكثر من الملك، فتفديني، ..أم وأب..(الحميمية)، والدفء، الحنو العظيم، هذه الكلمات الثلاث، تغرقني في فطرتها حين أكون قربها.. اتذوق كلمة (الحميمية)، بل تتضوع في داخلي، فأحس بأمن عظيم، حبل أمي السري لم ينقطع بل لا زال، بل تذكرني بالحبل القديم، بالرحم القديم، الذي يلفنا، ويرعانا، مع كل حركة وبركة وسكون، وذكاء، وخفاء..

    كنا فقراء، وغرست في أخوتي كبرياء داخلي بالفقر، بالأنا، دون حنق، أو غرور أو تصنع، أو أدعاء، كنا نحس معها بأن الفقر والصبر والنبي كيان واحد....

    تحترم مطلق إنسان.. وتحتفي به.. أمومتها بركة بلا شاطئ، تغمر كل من يراها، أو يسلم عليها، أو يدخل عليها.. تهش في وجه كما لو أنه عبدالعظيم، أو عبدالعزيز، أو محاسن، أو علوية، ابنائها!!..

    هناك مسحة حزن على وجهها، حزن نبيل، تبتسم بحزن محبب، وفي خلوة الليل تغازل المحبوب القديم..

    وربي، رغم شقاوة طفولتي، واسئلتي المتكرر، لم تضربني، على الإطلاق، وحين كسرت الزير، وحين كسرت فضيتها ونمليتها المحببة، وحين صرخت اختي الكبرى محاسن، طريدها، شامته (كسر القزاز كسر القزاز)، صاحت:
    بعافيته.. وهذه هي الكلمة التي تقولها حين ارتكب الاخطاء، وما أكثرها..

    رغم صمتها، كانت تعبر بجسدها، كله وبكلامها القليل الموزون، الجميل، وبقريحة عجيبة، تجعلني افكر (كيف يخرج الكلام من لسان هكذا، وبسرعة، وذكاء، وموسيقى)!!...

    وددت رؤيتها نائمة.. هي لا تنام، لا تأخذه سنة أو نوم في خدمة اطفالها، هي...؟...

    أنام بلا ملاءة، في الصالون، بعيدا عن غرفتها الطينية، وفي الصبح أجد نفسي مغطى بالبطانية، وجنبي كوز مليان موية...

    كنت كثير المرض.. ولا مركز صحي بالقرية، تركبني الحمار، وحين اشكو من تسوس الضرس كانت تجري وراء الحمار، ولمسافة ثلاثة كيلو ونصف، كي ندرك الشفخانة بأسرع ما يكون، وهي تلهث خلفي، مغبرة الأقدام، يعرقلها ثوبها، فتقع وتقوم، وكأن الضرس في فمها، وليس فمي، لست أدري عن الأمومة، سوى إنها أعظم جائشة بشرية...

    البيض والرغيف كانت من الكماليات، وحين لا توجد في القرية، تركض نصف النهار، كي تجلب لأبنها (المدلع)، مالذ وطاب، من تلك "الكماليات"..

    كانت عظيمة (بالنسبة لي)، بطلة حقيقية، أم اسطورية.. بلا منازع (بالنسبة لي)، فالذاتية عظيمة.. ولله مكر عجيب، في جعل الكل ذوات، وغايات، وقدرته أكبر من ذلك، وأعظم من ذلك..

    حين أحس بضراوة الحياة، أتذكر نظرتها لي، تلك النظرة الحنونة، الحانية، فأحس بأمن، وبأني بطل، و"غاية"، فتقر عيني،.. وأحس بثراء الحياة، ويمتلئ قلبي بعاطفة جياشة، للنمل، والفراشات، والسحب، والكلاب، أحس بعظمة الأزيار، وبأنزلاق نقاط الزير من قعرها، وهو يسعى للارض، متكورا، خائفا، وسعيدا بعودته للأم، (لبنت المنى)، حقتو..
    أحسست بجمال الله، وعظمته حين صاغ أمي.. ونفخ فيها حنانه، وحنوه، في اللحم والعظم..

    حين أكتب ... احاول تمثل أمومتها العظيمة للاشياء والاحياء..


    أصحابي يقولون (أمك حنينة شديد)... (ألهذا لم اتبنى الفكر الماركسي، حيث يجهل الغائية من الخلق، أيكون حنان امي هو السبب، وبأنها طاقة إلهية عجيبة، وعاطفة صادقة، تنفر من فكرة القطيع، وتبرهن، بنصاعة عن الغائية العظمى)، بلى ورب أمي...

    أي كلمة قالته أمي كانت بها روح.. كانت حية..

    كائن لا مرئي كان يزين محياها اسمه (اليقين)، ..
    اليقين بعقل قديم يرعى خراف اطفالها الصغار، بمحبة، ورحمة، رغم الكرب والجور الذي تتعرض له الاسر البسيطة، فهي تتقبل الكروب بذلك اليقين، ببال واسع، واااااااااااااااسع، يحيريني، ويطربني معا....

    الحاجة بنت المنى بت العوض عدلان، من قرية العسيلات، شرق النيل..

    كم أحبك، وأنت تزخرفين روض القبر..

    وتسافرين لعريسك الابدي الحاج كرم الله..


    سلامي له..
    سلامي لك..
    أي كنز هي الأم، أي كنز؟..!!...

    (2)

    في اليوم السابع، ذهبنا لزيارة ضريحها، معي الحبيبة رحاب و اخي عبدالواحد وعبدالعظيم وعلوية، وأختي محاسن لم تذهب معنا، واعترضت، قالت لها علوية (العربية ما بتشيل)، زيارة الأم في القبر عالم ثان، وأي أم، كانت هي الأب والأم والأخت، ولأني الأصغر، فقد مصصت كلها طيبتها، وأستغليت كل طيبتها، ومارست ما يحلو لي على ظهرها، وصدرها، ورأسها، ..

    كانت حماري..
    كنت امتطي ظهرها، واقمز برجلي بطنها كي احثها على السير في الحوش الملي بروث الخراف واثار الدجاج ووضوء خالي، وأمسك رسن شعرها الشايب، وهي جذلى بطفل سعيد على ظهرها، وأي ظهر، حمل غباش المعاناة، ولذة الأيمان بالمقدور، والاستسلام للقضاء، بحزن نبيل، ليس إلا..

    أحس بها تجيب، كالنبي، حين امتطاه الحسين، وقال الاعرابي:
    نعم المركوب..
    وقال النبي، نعم الراكب...

    الاحساس بأنك (غاية)، هو أعظم احساس تجسده الأم، بفطره وسذاجة، هو الإحساس الأم الذي يغيب بعد حين في حمى المجتمع، ولكنه يظل حيا في الأغوار ويطفو هذا الشعور الأمير، الشعور الحقيقي حين تكون في حضرة الأم، حتى أحسست بأن الأمومة هي الكائن الغائب في التعامل اليومي، هي أس الفرح بين الأسرة الإنسانية، هي دفء احترام الذات من اجل الذات فقط، بلا قشور لغرض أو خوف أو تملك، بل هي المحبة الصافية، من أجل لذة المحبة، ذات المحبة.. بل للحق، لم أؤمن بالكثير من الافكار للعبقري نسبيا ماركس، إلا لأنه لم يجعل من (الغائية)، هدفا له..

    الغائية هي هدف الحياة، وارسلت الأم كمدرسة لذلك..

    طعلنا الترعة، فبدأ مشروع العسيلات مزورعا بالقمح، لا يزال اخضر، في طريقه للصفار واللون الذهبي، كان هناك حزن نبيل، الحزن كائن جميل، أحسست به الآن وأنا في طريقي لأمي، سوف نزور البرزخ بعد حين، سوف نزور مقابر ابسرورة، حيث يدفع البسطاء والفقراء والفلاحين من أهلي، (تذكرت مقولة الاستاذ بزيارة مقابر عطبرة فهم : شهداء الرزق الكفاف)، وربي كلهم "عطبرة"، لم تشبع امي قط، أختي علوية تذكر محاسن أمي، ولحيظات فراقها، أتابع كلامها، كأنني أرى شريط يمرر أمامي، شريط حي، حبل سري يربطني بها، للغد، والآن، والأمس، حيوات لا تحصى معها، منه ما اذكره، ومنها ما توارى، يزخرف النسيان،..عبدالعظيم يذكر محاسن أمي..عبدالواحد يغرق في أسى جميل، فهو الأكبر الآن..

    عجيبة، امي التي كانت تنتظرني في إجازتي على أحر من الجمر، سافرت اليوم، وإلى أين، إليه، هناك وراء الكلمات وراء الخيال وراء الذاكرة..

    مر بخاطري شريط حبل الغسيل، كم مرت غسلت ملابسنا، أكوام من الغسيل، كم وكم... طشت وبنبر، وصبر، ومحبة، والسنوات الأولى، التي لا اتذكرها، حيث اتبول واتبرز فيها، كم وكم...

    والحنية حين اسافر للخرطوم القديمة للدراسة.. وانتظاري يوم الخميس بالقرب من البيارة، كم وكم..

    علوية تواصل سرد مرضها الاخير، قالت بأنها تماثلت للشفاء، واشرق وجهها، حتى ظننا بأنها ستخرج من المستشفى، لانها عانت اليومين الاخرين، ... ثم صفا الوجه، وغابت في تخوم السماء، حين الحياة الأبدية، ...

    اخي عبدالعظيم اقترح شاهد من الاسمنت..
    قلنا سوف يتأخر، نعمل هسي شاهد من الحديد، يكتبه اخي عبدالوحد، فخطه جميل، تذكرنا اخي عبدالعزيز، وهو فنان مطبوع كتب شاهد أبي..

    ماهذا المكر الجميل الذي تنسجه الحياة، تخلق الحياة، ثم تخلق الموت، ثم تخلق الحزن، ثم تخلق الحزن النبيل..

    وصلني الخبر، وكنت في قهوة كوستا، في الطابق الثاني، لوحدي، حشرجة اخي أحسستني بفراقها، بكيت لوحدي، توكأت على عمود وبكيت، وبكيت، وبكيت، تطهرت بالبكاء وربي، احتشد محياها وأنا أبكي، البكاء تجسيد للذكريات، وإحضار هالة الأم في الفؤاد، أن يصلك الخبر في الغربة احساس موحش، أن مراسم الوفاة في بلدي، والفراش، ولمه الاهل عبقرية سودانية اصيلة، فالحزن كائن حي، له ثقله، ويحمله معك الاهل والاحبة..

    فوجئنا بأسر تأتي من الشرق والغرب، كانوا طلاب معنا، يسكنون معنا، حيث بالقرية مدرسة، والقرى المجاورة بعيدة، كل فرد يذكر من محاسن أمي، أي بطله هذه، عاست الكسرة للكثيرين، وغسلت ملابسهم، ودعت لهم، بنكران جميل، بل كواجب، يحتمه الضمير الحي..

    وصلنا المقابر (مقابر ابسرورة)، مقابر أهلي حين يودعون الزائلة،.. واوشكت الشمس على المغيب، أحسست بأن الكون حزين مثلي، هنا تنام أمي، قبر بسيط، كوم من تراب يغطي قلبها وجسدها وشعرها الشايب، وشلوخها، وكفيها، التي مسحت، وعصرت، وطبخت، وتوضأت، وحملت ما يشاء من الاشياء..

    وقفنا حول القبر، وقفت عند رجليها، انشدت في خاطري:
    سلام سلام أهيل المقام،..
    خذونا إليكم فأنتم كرام..

    لا أدري ما يجول بخواطر أخوتي وأخواتي، ولكني دعوت لي، دعوتها بأن تدعو لي، وهي تزف بعد حياة بسيطة، عميقة، ساذجة له.. هي الحية، وأنا الميت...
    وربي أحسست بجمال الحزن، بأن الحزن ماء يطهر كالوضوء، بل أعمق، إنه ماء روحي، يبلل الجوارح، ويغذي العاطفة...

    تذكرت "الوالدة الشباك"، هي أول من انشدها لي حين زرتهم في الثورة، الحارة الرابعة، ، بل تذكرت الزيارات المتكررة لاستاذ امين صديق لأمه، أحسست بأنه بار، بأنه نور، كان يأتي منها، وكأنها ساكنة الحارة الخامسة جواره، حية، مباركة.. نظرت حوالي، مقابر أخوالي العظام البسطاء، بخيت التربال، ودفع الله، أولياء في فخاء الملائكة، ومعهم الفتى عباس، لا أدري كيف يقطف ملاك الموت الجميل ثماره، هو ذكي، منقطع الذكاء..

    أمي سلامي لك، سلامي لمن معك في برزخ القبور، برزخ القصور، ..

    أم هناك، وأسرة هنا، وقفنا حولها ... المقابر لصق النهر، تكاد تسمع صوت الموج، أحسست بأن الموت جميل، بأنه غياب في تخوم الغيب البهي، وبأنها فراشة لعقت عطر الحياة، ومضت راضية، بعد إكمال رسالتها على أكمل وجه، على أبهى وجهل، على أروع وجه..

    قبر ابي، وقبر أمي معا، يقع قبر أبي في الجنوب الشرقي منها، هي أقرب للنهر.. للنيل الازرق الجميل..

    أصرت علوية على زيارة قبر حبوبتي خادم الله، لم أرها، ألا في الحكايات التي تروى عن طيبتها، وحنانها..

    أم وأب وحبوبة، وخيلان وأهل، الشواهد تحمل هويتهم، كأن المقابر هي المصير الأبدي لمن يسوح ويجري ويرقص في الأرض، هي المصير، الآن، أو غد، أو بعد غد.. هي المصير..

    من جماليات المعاناة، التي تقهرها الأمهات في العمل اليومي المكرر، هي ان تنفخ المحبة في العمل، أحس بأن أمي كانت تعمل الاشياء بشغف، بمحبة، هي تحس بطعم الكسرة في فم، وطرب الشاي في القلب، ومكوة القميص الجميل في الحفل، هي تحس وتتذوق، وتشم، أي عمل تعمله، واي خاطر يخطر ببالها، وأي دعوة تلهج بلسانها...

    (3)

    كنت أخدعها، ولا أبالي، أغشها عشرات المرات، وأنا أحضر معي من الخرطوم الألغاز، والمغامرين الخمس، وحين يصل بص العسيلات الاصفر القرية، أسرع في القراءة، وحين تنزلق الشمس للمغيب، أمارس الكضب، فاللغز وصل مقام لا صبر معه لفجر الغد:

    يمه بكرة عندنا امتحان...
    وهي تعرف الإشارة، يعني جلب الجاز من الدكان آخر الحلة، أو من القرى المجاورة...
    وتحضره، مغبرة الاقدام، محننة بطين وتراب بلدي المحبوب، ثم تغسل الزجاجة، وتملأ الفانوس، وتحضر الفانون بهالته المحببة لي في الصالون..
    وأخرج كتابي امامها، بنوسة ولوزة وتختخ في ظهر الكتاب، وأقول لها
    ده كتاب جغرافيا..

    فتصدق، ما أعظم الأمية، ما أعظم امي، الامومة كائن عجيب، يحكي عظمة الحياة ببراحها العجيب، ، يحكي عبقرية الحياة، يحكي زبدة المشاعر حين تتسامى لرقة وعطف وحنان وامتنان، وسرب لا يوصف من الانفعالات..

    الامومة هي الاحتفاء بالطفل، بالابن بعيدا عن رعونات الانا، والاختلاف الساذج في الشكل واللون والفقر، بل تحتفي الام بالأبن كبطل حقيقي، كغاية حقيقية، ثم تتدهور هذه الخاصية في حمى قيطع المجتمع، ولكنها تعود فينة بعد أخرى في بعض التعاملات الكبرى، .

    سمح يالمبروك تم قرايتك..
    وواصلت مغامرتي مع المغامرين، وأمي تدعو لي بالنجاح في الجغرافيا..

    هي تعلم، وربي تعلم بأني اغشها، ولكنها كالإله، ترمي الحبل في القارب، لأنها تحس بأن الجغرافيا أكبر من خطوط الطول والعرض، أكبر من كروية الارض.. كالإله، نتخيل اننا نعصاه بإرادة منا، وهم خيال، وهم لا أكثر، ولا أقل...

    هي تعرف اني اكذب عليها، هي تعرف بأن كل الطرق تقود للجغرافيا، له، هي تعرف تنزله في الحروف في القرآن، في المغامرين الخمس، في الطيب صالح، في ماركس، هو وحده المعلم.. تعرف ذلك بغريزتها..

    حبلها السري يغذيني، بطرق خفية، بل الابن امتداد للام والاب، بل لآدم وحواء الأول، تتداعى الذكرى في قوانين الجينات لأفاق بعيدة لحواء وأدم، بل وآدم يسرق جيناته من الإطلاق، من الله... (على صورته)...

    ذلك الدفء الذي احسه مع أمي، يغريني بالكتابة، يغريني بتقليب طرفي في مفهوم الأمومة..
    مفهوم الميلاد..
    مفهوم الرضاعة، واللبن، والهدهدة..

    تلف الارض، وتهدد الجميع..
    الارض رحم، وأم..

    الحاجة بنت المنى تترك هالة عجيبة في البيت حين تحوم حوله، فترفع كباية، وتعدل ملاءة، وتدفن ماء الوضوء، تلقي نظرات حنونة هنا وهناك، فيتعطر المكان بتلك الإلفه، كأنها بخور أزلي، يبث الروح في النسيم والمكان والاركان..حين تنظر لي، أحس بأني وردة، وعصفور، وملاك، وبطل، وملك، وإنسان، وكائن معتبر، ...

    لم غابت الامومة في الفكر.. لم؟...
    حين تحمل بيديها الخالية من الغويشات الصينة البسيطة لي، اتذوق حنانها وألعقه كعسل، قبيل الكسرة والملاح والبامية..
    كنت (حريدا)، انحشر داخل السرير، إذا لم يعجني الاكل..
    وبعد حين تحشر امي الصينية تحت السرير، ولا توقظني، لأنني اكون قد بكيت، وتعبت، ونمت..وحين اصحو التهم البيض والمربة ومن أين؟ أتت لست ادري، إنها مائدة بين إسرائيل، مائدة من السماء..

    حركتها بطيئة، تتحرك أمي ببطء عجيب، في كل وقائع الحياة، تمشي ببطء، تكنس ببطء، ماهل، حنون، لا عجلة، أو استعجال، كأنها تمشي مع حركة داخلية، مع قانون كامن في الحياة، كما يجري الزمن، بخطوات دقيقة، رجل في الماضي، ورجل في الغد، هي هكذا... حين تورق الخضرة، أراقبها ببط، بلذة، بمحبة، هي تفعل الاشياء العادية والمتكررة بإتقان فريد، فنانة ماهرة، بالسليقة، كاي أم، خلقتها الحياة، وصقلتها التجارب، فتضوعت بهاء "الأمومة" العظيم، وها هي تزهر في ابنائها واحفادها، د. لبنى، وندى، وإشراقة، وكرم الله، ولؤى، وسرب جميل، يحيا بذكرها، ولكم تعبت د. لبنى معها، في لحيظاتها الاخيرة، وهي تسافر لأبيها، وابنها "عبدالعزيز"...
    أمي هي القلب، هي الفؤاد، هي المحبة الخالصة..


    ابنك
    عبدالغني كرم الله
    صباح الثلاثاء
    10/2/2009م



    ابنك
    عبدالغني كرم الله
    صباح الثلاثاء
    10/2/2009م


    ...

    (عدل بواسطة عبدالغني كرم الله on 02-12-2009, 08:00 AM)
    (عدل بواسطة عبدالغني كرم الله on 02-12-2009, 09:43 AM)
    (عدل بواسطة عبدالغني كرم الله on 02-14-2009, 10:35 AM)
    (عدل بواسطة عبدالغني كرم الله on 02-17-2009, 09:27 AM)

                  

العنوان الكاتب Date
أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-10-09, 10:16 AM
  Re: أم وطفل!!... كمال علي الزين02-10-09, 10:29 AM
  Re: أم وطفل!!... كمال علي الزين02-10-09, 10:29 AM
    Re: أم وطفل!!... naeem ali02-10-09, 10:34 AM
      Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-11-09, 10:40 AM
    Re: أم وطفل!!... خضر حسين خليل02-10-09, 10:37 AM
      Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-10-09, 11:12 AM
        Re: أم وطفل!!... Rihab Khalifa02-10-09, 11:18 AM
          Re: أم وطفل!!... طارق جبريل02-10-09, 11:26 AM
            Re: أم وطفل!!... esam gabralla02-10-09, 11:29 AM
              Re: أم وطفل!!... ريهان الريح الشاذلي02-10-09, 12:23 PM
                Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-12-09, 08:57 AM
              Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-12-09, 08:56 AM
            Re: أم وطفل!!... Hadeer Alzain02-10-09, 11:59 AM
              Re: أم وطفل!!... عصام عبد الحفيظ02-10-09, 12:33 PM
                Re: أم وطفل!!... Baha Elhadi02-10-09, 01:42 PM
                  Re: أم وطفل!!... Mohamed Abdelgaleel02-10-09, 01:48 PM
                    Re: أم وطفل!!... Alsa7afa_3002-10-09, 02:40 PM
                      Re: أم وطفل!!... emadblake02-10-09, 08:03 PM
                        Re: أم وطفل!!... rosemen osman02-10-09, 08:17 PM
                          Re: أم وطفل!!... محمد الطيب حسن02-10-09, 09:32 PM
                            Re: أم وطفل!!... Ishraga Mustafa02-10-09, 10:37 PM
                              Re: أم وطفل!!... Masoud02-10-09, 11:10 PM
                                Re: أم وطفل!!... awad hassan02-11-09, 04:53 AM
                                  Re: أم وطفل!!... اسعد الريفى02-11-09, 05:15 AM
                                    Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-11-09, 06:54 AM
                                      Re: أم وطفل!!... Teeta02-11-09, 06:58 AM
                                    Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-17-09, 09:29 AM
                          Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-12-09, 10:53 AM
                        Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-12-09, 09:08 AM
                      Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-14-09, 10:37 AM
                    Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-13-09, 04:02 PM
                  Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-12-09, 09:45 AM
                Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-12-09, 09:25 AM
            Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-12-09, 08:28 AM
          Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-12-09, 08:02 AM
      Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-11-09, 10:42 AM
  Re: أم وطفل!!... هاشم أحمد خلف الله02-11-09, 07:00 AM
  Re: أم وطفل!!... مجدي عبدالرحيم فضل02-11-09, 07:16 AM
    Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-11-09, 07:35 AM
      Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-11-09, 07:53 AM
        Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-11-09, 08:05 AM
          Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-11-09, 08:30 AM
      Re: أم وطفل!!... saadeldin abdelrahman02-11-09, 08:45 AM
  Re: أم وطفل!!... عزاز شامي02-11-09, 08:27 AM
    Re: أم وطفل!!... ابو جهينة02-11-09, 09:05 AM
      Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-11-09, 11:28 AM
        Re: أم وطفل!!... Ibrahim Algrefwi02-11-09, 11:39 AM
          Re: أم وطفل!!... عواطف ادريس اسماعيل02-11-09, 11:50 AM
            Re: أم وطفل!!... NAHID HASSAN BASHIR02-11-09, 03:17 PM
              Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-12-09, 06:05 AM
                Re: أم وطفل!!... انعام عبد الحفيظ02-12-09, 09:32 AM
                  Re: أم وطفل!!... Mohamed Abdelgaleel02-12-09, 11:20 AM
                    Re: أم وطفل!!... عزيز عيسى02-13-09, 06:18 PM
                      Re: أم وطفل!!... عماد الشبلي02-14-09, 08:03 PM
                        Re: أم وطفل!!... عماد الشبلي02-14-09, 08:11 PM
                          Re: أم وطفل!!... سلمى الشيخ سلامة02-14-09, 08:42 PM
                            Re: أم وطفل!!... رقية وراق02-14-09, 08:51 PM
                          Re: أم وطفل!!... عماد الشبلي02-14-09, 09:10 PM
                            Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-15-09, 08:52 AM
                              Re: أم وطفل!!... عبدالغني كرم الله02-15-09, 11:40 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de